أجرى الحوار د. إسماعيل نوري الربيعي
&
من دون التباسات أو احترازات يشرع ((محمد القضاة)) في مقاضاة ذاته،كأنه المحاسبي الصوفي الذي آثر أن يعقد تطواف الروح في دائرة الوجد العميق.يمر الكلام قريبا من روحه، يمرق من خاصرة البوح الذي استغرق فيه، من دون أن يرف له جفن، إنه المنكب على الكلام، يمد الجسور بجناح خافق لا يعرف الزخرف
أو المعسول من التوسلات. مدققا في كل شيء، متفرسا في المعاني التي لا تعرف الركون الى الالتصاق بالحناجر التي آثرت التكرار، واستكانت الى المداخل الجاهزة.
ناقد لا يروم من النقد غير الابتكار، حيث الوقوف على الأرض التي تحفز في المرء الإحساس العميق بالكينونة. من فعل النقد الى فعل الحياة، يواصل(( القضاة ))تجليات المعنى عبر لسع النصوص وتفكيك المتصلب منها، بغية الولوج الى شفراتها السرية، التي استقرت جاثمة على الوجوه والأبدان والورق المسفوح. وهاهو ذا ينظر شزرا بعين الرقيب الى كل هذا التناسل والتكاثر، لسفاح المقولات التي انبرت تستقي الحضور على حساب الإنصات الى البوح الشفيف الذي ينضج في الروح.
&
كمثقف عربي كيف ترى مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعدته الولايات المتحدة الأمريكية وتم نشره في الصحافة العربية؟
- بعد تسريب مشروع الشرق الأوسط الكبير ونشره ومعرفة تفاصيله،إذ جاء على خلفية تحولات وانقلابات ومفاهيم كثيرة منها،كيف يحترم القانون الدولي وكيف تحترم الشرعية الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم وما تلا ذلك من استحقاقات أحدثتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما وفرته من حجج وذرائع في مناطق متعددة من العالم لمحاربة ما يسمى بالإرهاب الذي اتسع مفهومه وانقلبت مفاهيمه من الحق في استرداد الأرض المغتصبة إلى الإرهاب الذي باتت مفاهيمه تشتمل على الفكر والثقافة والتقاليد والعقيدة، وهي تمثل منابع الإرهاب الأساسية في النظر الأمريكي/الغربي،إذ اصبح فيه المحظور اكثر من المسموح،وبعد "حرب التحرير والحرية!"كما يحلو للإدارة الأمريكية إن تطلق عليها بين حين و أخر في عملية احتلال العراق، وبعد أن شاهدنا وفق المقاييس الجديدة للنظام العالمي الجديد أن غزو العراق للكويت كان خرقا فاضحا للقانون الدولي في حين أن احتلال أفغانستان والعراق حماية للنظام الدولي من الإرهاب والجرائم البشرية،وبعد أن أصبحت عقيدة القوة العسكرية هي العقيدة المعترف بها في ظل ما يسمى بالحرب على الإرهاب، وبعد حالة الرعب والخوف والإحباط التي يعيشها الناس في محيطنا العربي/الإسلامي، وغدت عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والعرب تهدر في كل مرة الفرص وغدت في مد وجزر وتغيير مستمر وتتجاوز كل المشاريع لتبدأ كل مرة من الصفر وتحت أعين الإدارة الأمريكية الأوروبية،وقد نشاهد ضربات استباقية في محيطنا العربي تحت ذرائع جديدة لأجل تحريك ملفات لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، كل هذا ألا يحتاج إلى موقف عربي واحد، هل يبقى النظام العربي خارج نطاق التفكير السليم، فلماذا تغيب الاستراتيجية العربية الواحدة في وقت استطاعت فيه استراتيجية دول جنوب شرق آسيا أن تمنع ضربة أمريكية محققة لكوريا الشمالية التي تمتلك فعلاً أسلحة دمار شامل في وقت كان فيه العراق لا يملك مثلها، ماذا أعد العرب لمواجهة المشروع أل أمريكي الذي لم يستشاروا به وهو مشروع قائم في نتائجه على خطر حقيقي يتهدد الكيان العرب كله فهو يتجاوز سيادة الدولة على أراضيها،وهو مجال للسياسة الخارجية أن تمارس دورها الفعلي داخل نطاق الدول العربية. فهل يبقى العرب على حالهم أم انه لا بد من موقف تشارك فيه العقول العربية والخبرات لاستيعاب المشروع ووضع القواعد والأسس والمصدات الحقيقة والخطط التي تخص سيادة الدول، فلا ندري لماذا هذه السلبية العربية في التعامل مع هذه المشاريع، ولماذا يضع العرب كل منجزاتهم وشعوبهم في سلة غيرهم حتى أصبحنا لا حول لنا ولا قوة، ألم يحن الوقت كي تتخلص الدول العربية من خصوماتها وخصوصياتها وحساسياتها وشكوكها لكي تستوعب الدرس القادم الذي قد يكون اخطر من اتفاقيات سايكس بيكو التي لا نزال ندفع ثمنها حتى اللحظة، ألم يحن الوقت لوضع تصورات واضحة واستراتيجية شاملة كما يحدث في أوروبا للحفاظ على الشخصية العربية التي باتت في مهب الريح ؟ ألم يحن الوقت لتحييد الخلافات الجانبية وإيجاد صيغة اتفاق ترسم مستقبل الأجيال العربية التي تتوق للحياة الأفضل، فلماذا لا يبادر العرب لقيام سوق عربية مشتركة وإيجاد مشاريع مشتركة في المجالات كافة، لماذا لا يتم تفعيل الاتفاقيات العربية المشتركة، ماذا ينتظر العرب والخطر يزحف عليهم باسم مبادرات التطوير والتحديث والإصلاحات الديمقراطية التي ستتوج في شهر حزيران (يونيو) القادم في مؤتمر القمة أل أوروبية الأمريكية في ولاية جورجيا وعنوانها المشروع الأمريكي الأوروبي وترسيخها لمبدأ الضربات الاستباقية في المنطقة،واعطاء إسرائيل وتركيا حرية التحرك في الشرق الأوسط الجديد، لأنهما يمتلكان النموذج الديمقراطي الذي تتبناه تلك القمة، إذاً، أمتنا العربية أمام مشاريع دولية استراتيجية قد تفرض عليهم بالقوة إذا لم يتحركوا في قمتهم المقبلة لبحث تفاصيل هذه المشاريع لمواجهتها بمشروع عربي واحد، وموقف عربي واضح بعيداً عن إصلاحات الجامعة العربية التي قد تفرط عقد الأمة العربية إلى الأبد، وحينها لا ينفع الندم.
&
الثقافة العربية في الألفية الثالثة تواجه الكثير من التحديات والأزمات، برأيك كيف يمكن مواجهتها وأنت تطل على هذا المشهد منذ زمن بعيد وتعاين أزمات هذا المشهد وتحدياته؟
- إن مواجهة التحديات الحاضرة في الثقافة العربية على عمومها تحتاج إلى فهم الماضي بكل ما فيه من تراث وقيم ومنجزات والحاضر بقلقه وإبداعاته وتحدياته والمستقبل بغموضه واشراقاته وآفاقه، ولا بد أن نواجه التحديات الداخلية التي تتمثل بالخرافة وتغييب العقل فضلاً عن الأمية ومواقف السلطة القطرية من الثقافة الجدية، والتفكك الذي بات يمس الأمة وثقافتها تحت نزعات مختلفة، أثينية أو طائفية أو إقليمية أو جهوية أو عصبية، ويبدو أن تجليات النظام الدولي الجديد يتضح في تفتيت القوميات وتخريبها وزعزعتها ومحاولة إنهاكها وتخريب لغاتها وثقافتها وقد شاهدنا ما حل بالتراث العراقي من حرق ونهب وتدمير غير مسبوق في الألفية الثالثة وهذا شاهد على تجليات هذا النظام وأثره السلبي في تدمير منجزات الحضارات، ولا ننسى أن هذه التحديات الداخلية العربية لا تقل في خطرها عن التحديات الخارجية والتي تتمثل في كيفية فهم الآخرين ومعرفة ثقافتهم من موقع الثقة بأنفسنا، والفهم الدقيق للعالم في ظل أحادية القطب، فهناك ثقافات في الشرق، وهناك الغرب الرأسمالي وهناك الأغنياء والفقراء،وهناك الإقطاعيات والعبيد وكيف تبدو الثقافة في ظل القرية العالمية الصغيرة وفي ظل مفهوم العولمة ونذرها وطغيان المادة على الفكر والثقافة والمعرفة، ولا بد من فهم ثقافة الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية ونظرتها المتغيرة لثقافتنا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تلك الثقافة الأكثر طغيانا في العالم والأكثر سيطرة على وسائل الإعلام والرأي العام العالمي، ولا ننسى ثقافة العنف التي تصدرها إلى الإعلام والمتمثلة في ضخ إعلامي منذ اكتشاف أمريكا وحتى سقوط ثقافة التسامح الإسلامية في الأندلس التي كانت مثار إعجاب الغرب حتى عدة قرون مضت، فهل نبقى أمام ثقافة الآخر واجمين وغائبين، وهل يبقى الاستلاب والعجز هو الإطار الذي يحكم واقعنا الثقافي العربي،أم لا بد من مواجهة التحديات بعقلانية وموضوعية، وأن نبحث لأمتنا عن موقع دون خوف أو عجز أو انغلاق لأن امتنا العربية الإسلامية كانت مثار إعجاب في عقلانيتها وفكرها وحضارتها وجهود علمائها والغاية من هذا السؤال الوصول إلى صورة نقية وبهية وجديدة للثقافة العربية تكون حرة ومنفتحة وأصيلة وواثقة فهل نقرأ تراثنا وتاريخنا وهل نتأمل بعمق كيف يتعامل العالم من حولنا معنا، وهل نعد العدة لمستقبل لا نعرف ما يخبأ لنا.
&وبعد فإن على المثقفين أن يتحملوا مسؤولياتهم في هذا الوقت تحديدا بعد أن شاهدنا فصول سقوط بغداد، لوقف الانهيارات النفسية والاجتماعية التي أصابت الجسم العربي كله، وإيقاف حالة العجز والغموض والحذلقة ومحاربة التخلف بكل أشكاله وألوانه ومحاولة تجيد عناصر الوعي وحرية العقل وازدهار العلم، لأن هذه هي الروافع الحقيقة لوقف حالة التدهور الذي أصاب الأمة، وهنا لا بد أن نعيد علاقتنا مع أفكارنا وان نخرج من الأنـا المتضخمة التي باتت هي أساس الخلافات بين المثقفين الذين يفترض فيهم أن يكونوا قادة المجتمع واصحاب الفكر والرأي والحصافة أهل الحل والربط أساس التقدم.
&&المثقفون الحقيقيون لا يهتمون بالأنــا وصغائر الأمور، وإنما يترفعون عنها ويواصلون طريقهم ينبهون الناس إلى واقعهم ويبصرونهم بأحوالهم وشؤونهم،ويقفون في وجه الظلم والاعتداء على كرامة الإنسان، والمثقفون الكبار (النخبويون) لا يراقبون الناس من أبراجهم، لأن المثقف النخبوي والنزيه لا يقبل أن يضع رأسه على وسادته دون أن يشارك أقرانه همومهم وأحلامهم وآمالهم، وغياب هذه النخبة عن المجتمع يهدد المجتمع الذي سيعتمد على الثقافة الجماهيرية التي يبثها الأجنبي عبر وسائله المتعددة وأساليبه المتنوعة، وبهذا يتعرض المجتمع للخطر، ومن الخطأ أن تختزل الثقافة في أروقة النخبة مع أن حيوية الثقافة وفاعليتها مرهونة بتوسعها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية،ولهذا فإن الثقافة ينبغي ألا تكون معزولة عن حركة المجتمع لأن تفاعل المجتمع معها سيغذيها بأسئلة وآفاق جديدة ولا شك أن تجديد الثقافة مرهون بتفاعلها مع المجتمع والالتصاق به، لأننا لا يمكن أن نتصور مجتمعا بلا ثقافة،كما لا يمكن أن نحصل على ثقافة بدون المجتمع.
وعليه، فإن ما نرنو إليه ثقافة شمولية تصلح للمجتمع والناس جميعا لا تعرف العنصرية ولا تعتنق العصبية أو الإقليمية الضيقة ولا الانغلاق أو التقوقع،تنطلق في الأرجاء تلاقح الثقافات الأخرى،تأخذ النافع، وترفض الضار، نريد لثقافتنا آلا تكون على الهامش، وأن تكون قضية كل واحد منا،وأن يكون للجامعات مشركاتها في البحث عن التراجع الذي نراه في الواقع الثقافي، ويجب أن يكون لها الدور الرئيس في القضاء على الفرقة والتخلف ومحاربة كل أشكال الغزو الثقافي، وعلى المثقفين أن يبادروا في القضايا الوطنية والإنسانية والبحث عن البنية الفكرية والتجربة الحضارية التي مرت بها امتنا، وعليهم أن يعرضوا أفكارهم بوضوح وجرأة دون أن يعرَضوا منابرهم للهدم والسقوط، وان تكون أفكارهم امتدادا بين كلماتهم وافعالهم، وان يكونوا دعاة أصالة والتزام وأن يسعوا نحو ثقافة خلاقة مبدعة، وأن لا يتركوا جيل الشباب واقفا على أولى درجات السلم، لا بد أن يأخذوا بأيديهم ويرفعوا من همتهم وقدراتهم حتى يكونوا معهم في الطليعة، وفي الختام يجب ألا توهن المصاعب من همتنا أو تعوق مسيرتنا، فالمعوقات والتحديات التي تواجهنا اليوم كثيرة، ولكن طموحاتنا وإمكاناتنا كبيرة وكل ما علينا أن نبذل افضل ما عندنا من جهد حتى تكون لثقافتنا أثرها في حياتنا.
&