بعد أن نعى الوطن!!

يقول ميشيل كيلو في آخر مقال منذ أيام في القدس العربي تحت عنوان نعوات سورية التالي [ لوعدنا إلي أوراق النعي، لوجدنا أنها تلقي الضوء علي حقائق التوزيع الطبقي والسياسي لمدينة طالما تعايش فيها بسلام وتفاعل أخوي أبناء الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة، وكذلك المنتسبون إلي إثنيات متباينة، يقينا لو أنني وجدت قبل أربعين عاما في نفسي الجرأة للحديث عن طوائف، لرجمني أبناء المدينة والريف. أما اليوم، ومع أن الطوائف ضرب من بنية تحتية للوعي العام في سورية، فإن أحدا لا يجرؤ علي الحديث عنها، ليس لاعتقاد الناس أنها غير موجودة، بل خوفا من سلطة تدعي أنها أقامت وحدة وطنية صهرت الشعب في بوتقة ألغت جميع أنواع الفروق العقائدية والإثنية، وجعلت أي حديث عن طوائف خيانة وطنية مثبتة تستحق العقاب. ]
أعتقد أن هذا المقال ربما يكون سببا من الأسباب التي أدت لاعتقال ميشيل لأن الحديث عن الوضع الجهوي الذي أوصلت السلطة المجتمع إليه حديثا خطرا قبل أيام كتبت عن هذا الموضوع..
معتبرا أن مجرد الهمس في الموضوع الطائفي فإن مصير من يهمس السجن..دون أن تكلف نفسها كسلطة الدخول بحوار مع المجتمع حول هذه النقطة الخطيرة التي تهدد المجتمع السوري في كيانه.
وهذه قراءتي للمقالة تحمل بالتأكيد هواجسي أيضا وخوفي كغيري من السوريين معارضين وغير معارضين على وحدة المجتمع السوري..ميشيل صوت كان حاضرا بقوة في كل النشاطات المعارضة في سوريا..صوت كان رغم أنه سليط اللسان مع خصومه أو حتى محاوريه إلا أنه محاور عنيد ومعارض يمتاز بدرجة من العقلانية السياسية وتسمى عند بعضهم اعتدالا تجاه النظام والسلطة في سوريا..ومع ذلك هاهو يعتقل !! والخوف الآن على الموجودين في مؤتمر الشبكة الأورومتوسطية في مدريد حول حقوق الإنسان أقصد أكرم البني ودانيال سعود وفايز سارة وأكسم نعيسة..كما أن الخوف على السيد حسن عبد العظيم في حال عودته لسوريا بعد زيارته لفرنسا..السلطة في سوريا عندما تصل لتعتقل من تسميهم هي نفسها معارضة وطنية شريفة غير مرتبطة بالخارج معنى هذا أن السلطة إما في مأزق خطر ولا تريد أن تطلع الشعب السوري عليه ولاتريد صوتا يمكن أن يخرب طريقتها في التعاطي مع الشأن الوطني السوري..أو أنها في وضع مريح نسبيا بحيث باتت تعتقل من لايمجد ويسبح بحمدها ويشكرها على ما فعلته وتفعله في المجتمع السوري..ربما أنها باتت قوية بعد النووي الإيراني !! أو بعد كتاب الألماني كولبل حول تبرئة السلطة من دم الحريري..!! وبهذا هي لم تعد تأبه لأي حد من حدود التاريخ المعاصر ولا حتى في كلامها هي..حيث تتراكع حتى عن تصريحات مسؤوليها..!
ما يدور الآن في دمشق خطر وخطر جدا. مادامت أمور الاعتقالات قد بدأت من جديد كثيرة وتعسفية وبدون أبداء الأسباب..سيقول بعضهم أيضا: الله يستر من أن وراء هذه الاعتقالات قوة آتية من صفقة أمريكية سوري تمت تحت الطاولة عندها ليتلمس كل معارض سوري رأسه..!! وعودة إلى مقال ميشيل الذي كنت أنوي الحديث معه عن هذا المقال بالتراسل لأنه من المقالات المهمة التي كتبها ميشيل في الفترة الأخيرة..حيث يقول [ تقول ورقة النعي الريفية، بعد الآية الكريمة، إن الفقيد هو العقيد أو العميد أو المقدم فلان الفلاني، وأن أبناءه هم ـ بحسب رتبته ـ المقدم أو الرائد أو النقيب أو الملازم أول نضال أو ثائر أو كفاح أو رفيق أو خليل أو إبراهيم أو إسماعيل أو حسن أو علي... الخ، وأصهاره أزواج بناته ثورة أو ثائرة أو نضال أو رفيقة أو أمل أو شروق هم المقدم المهندس أو الرائد الطبيب أو الملازم الأول الإلكتروني أو المستشار الفني أو المزارع... الخ. بينما ستجد بين اخوته مدرسا أو معلما أو عضو قيادة شعبة في الحزب أو محاميا أو قاضيا أو مهاجرا، دون أن يبطل ذلك الطابع العسكري الغالب علي الأجيال الجديدة من أسرته أو علي من يمتون إليها بصلة. فاتني القول: إن ورقة النعي تخبرنا أن الصلاة علي روح الفقيد ستتم في جامع القرية، وان العزاء فيه سيقبل يوم كذا وكذا في بيته الريفي، مع أنه ربما يكون ولد في المدينة ومات فيها، ولم يمض أو يعمل غير أيام قليلة في الضيعة. ]
وهنا يتحدث ميشيل عن التوزع الطائفي لمدينة اللاذقية السورية بين الريف والمدينة..ثم ينتقل ليقول: [ إذا انتقلنا إلي أوراق النعي المدينية، وجدنا كلمات تتكرر في كل منها هي الحاج أو الشيخ أو التاجر أو المهندس أو الطبيب أو الأستاذ... الخ، تعلمنا أن هؤلاء من رجال البر والتقوي والخير والإحسان، في حين تعكس أسماؤهم بدورها نزعة دينية سادت خلال السنوات الأربعين الماضية لدي معظم أبناء المدينة، فالمتوفي هو محمد جمعة أو محمد غالب أو محمد سالم ـ أو أي شيء من هذا القبيل ـ وأبناؤه هم بالتأكيد محمد مصطفي، ومحمد عبد الله، ومحمد نديم، ومحمد رجاء، ومحمد واصل، ومحمد حسيب، ومحمد طه، ومحمد خالد، ومحمد عمر... الخ، بينما يوجد دوما اسم فاطمة وخديجة وزهراء وعائشة ومؤمنة وتقية وسميه وآمنة وآية بين أسماء بناته وقريباته، وعبد الستار وعبد الله وعبد الغفور وعبد الرحمن بين أسماء أصهاره واخوته وأبناء أعمامه وأخواله، مشفوعة علي الغالب بصفة الحاج أو الشيخ أو البار أو التقي. ]
أن هذا التكثيف الخصب والمثير لميشيل حول رؤيته لخطورة المسألة الطائفية بسوريا هذه الخطورة التي يرد فيها على إدعاءات الساطة السورية فيقول:
[ما أن تقرأ أوراق النعي، حتي تكتشف أنك لست فقط حيال رجال فارقوا الحياة الدنيا، بل كذلك أمام وضع اجتماعي/ سياسي/ ثقافي وطني، بالأحري لا وطني، تفضح الأوراق حقائقه المؤسفة والخطيرة، التي تكونت خلال السنوات التي قالت السلطة فيها إنها تبني عالما من المساواة والإخاء والحرية والمواطنة، وتمحو الفوارق بين الريف والمدينة. عندئذ، ستهز رأسك بأسي، وستخشي ما تشي الأوراق به من مصير بائس ينتظر وطنك، وستترحم علي نفسك، خاصة حين تبحث عبثا في أوراق النعي عن شيء يشي بوجود زواج أو قرابة بين المدينة وريفها، وبين محمد علي وعلي محمد، فلا تعثر علي أثر لأي منهما، رغم أن صورا وملصقات ويافطات كثيرة تنتشر علي جدران المدينة وفي شوارعها تخبرك أنك تعيش في سورية الحديثة، وأنك تجسد الوطن، لأن الفروق بينك وبين بقية مواطنيك لم تعد موجودة، تحت أي شكل أو مسمي! ] أظن لاداعي للتعليق أكثر بعد هذا المقال التحفة والمنشور الآن على موقع شفاف المتوسط
من يود من القراء الإطلاع عليه..
أرجو ألا تطول فترة غياب ميشيل في السجن عن ساحة العمل المعارض والكتابة عن الهموم السورية.. وسيكون لنا عودة على هذه القضية التي يعالجها ميشيل بكثير من الخصوبة والاختصار لمعاناة وطن في مستقبله..