يصعب عادة في المجتمعات المغلقة القراءة الدقيقة للحراك الاجتماعي وفهم درجات التحول. إذ عادة ما يؤدي هذا الانغلاق إلى تكوين قوى طردية تزيد من مقاومة الاختراق، وتجعل الضلال النسبي لأي بحث أو تساؤل ممكناً أكثر، فالتخمين يصبح بديلاً للمعلومة، والشك يظل أقرب من أي يقين. لكن علامات أو مؤشرات لا شعورية قد تكشف شيئاً مما يعتمل في عمق هذا المجتمع ولا شعوره.


ومؤخراً بدأت تتجلى في السعودية مظاهر قبلية كانت مستترة وكامنة لفترات طويلة. ومع طفح اللاوعي القبلي في المجتمعات في السعودية أخذت تظهر صحفياً وإعلامياً مقالات تعبر عن الاستغراب والدهشة من مثل هذه المظاهر التي يُنظر لها على إنها متخلفة ومهددة للوحدة الوطنية!
والسؤال الذي أظنه مهماً هو هل غابت القبلية كبنية وكوعي وكطريقة حياة عن الوجود الاجتماعي في السعودية في أي لحظة من اللحظات منذ بداية الدولة وحتى الآن ؟


البداهة تؤكد خلاف ذلك، فالمجتمعات داخل السعودية هي في معظمها مجتمعات قبلية منها الفلاحية ومنها البدوية ورغم تفككها الشكلي وتشتت أفرادها بحثاً عن مصادر الرزق إلا إنها حافظت على المكونات الأساسية التي تشكل الشخصية القبلية ومنها الانغلاق على الذات عبر الزواج والعلاقات الاجتماعية. ولأن البحوث التي تدرس تلك التحولات التي يمكن أن تكون طالت البنية القبلية في السعودية منذ منتصف القرن الماضي وحتى الآن معدومة، فلن تكون القراءة سهلة ونحن نرى اليوم طفرة لاشعورية وجريئة في تمثل وعي القبيلة ورمزيتها.


ثمة تأويلات قد تمتلك نسبة من الصواب، فاحتلال القوات الأمريكية للعراق واندلاع حربه الأهلية قد تكون من العوامل المؤثرة، وأيضاً ضمن تداعيات الحادي عشر من سبتمبر وما أثير من جدل حول دور السعودية والوهابية تحديداً كايديولوجيا جهادية في تلك الضربة، قد يكون هناك اتجاه داخل مؤسسة السلطة الرسمية يرغب في تخفيف أو تلطيف حدة الشعور الديني عبر تحريك نزعات قبلية كفيلة بتفكيك هذا الشعور، على أن المراهنة التي قد ترى في الوعي القبلي بديلاً للوعي الديني يمكن أن تكون خطيرة بما أن هذا الوعي هو مكبوت لاشعور طويل وله جذوره التاريخية، ولا أظن أن السلطة ستسمح باستخدامه إلا كورقة مؤقتة للتخفيف من أزمة احتدام الوعي الديني، هذا في حين أن الخيار الأمريكي في المنطقة شاء أم أبى وبحكم ما يحدث في العراق سيرى في تكوين المنطقة القبلي مادة صالحة للاستعمال. ولابد من الأخذ في الاعتبار تلك الهزة التي طالت المجتمع حيال الثقة في المؤسسة الدينية خاصة مع انتشار ما يُسمى بالارهاب ومحاولة العنف المباشر وانتشار كثير من القنوات الفضائية التي بلا أي سند تنويري كانت لا ترغب إلا في بث أكبر شحنات ممكنة من التشويش والزلزلة الوجدانية للناس والتي استعملت ضمن استراتيجياتها القبيلة كعامل مساعد ومؤثر، وأيضاً لا يمكن تغافل الأوضاع الاقتصادية واستشراء الفساد وغياب أي قوانين ضابطة. وإضافة لهذه التأويلات هناك تلك المؤشرات العالمية التي تشير أنه في ظل مناخات العولمة ثمة نزوح عالمي نحو الانغلاق واليمينة ونبذ الآخر حتى في أوروبا وأمريكا.


واليوم بعد ما يزيد على السبعين عاماً تتكشف مضامين قبلية أكثر بدائية مما يمكن لباحث تخيله! بالطبع لأن الرهان منذ البداية لم يكن لصالح تأسيس دولة القوانين ولا على بناء الإنسان الحديث بقدرما تركز على ترسيخ شرعية الدولة ومنح فكرة التوحيد الوجود الفيزيائي الممكن سياسياً ودينياً. وظلت القبيلة في منطقة غامضة بين التابو - اذا أثارت أي سؤال سياسي ndash; و بين المقبول إذا تعلق الأمر بإثبات الولاء أكثر للسلطة.

علي العمري
[email protected]