باكستان هذا البلد الإسلامي النووي الذي تتقاذفه قوى ومشاريع متصادمة،أضفت عليه سمة عدم الإستقرار السياسي على مدى ستون عاماً من فترة استقلاله عن الهند، ثنائي افترقا على خصام وتباعدا في الطريق والهدف، فوصلت الهند إلى الإستقرار والديموقراطية والتقدم، وتاهت باكستان في حروب داخلية وخارجية لازالت فيها،بمحصلتها العامة أفرزت الإستبداد المتبدل بقيادة العسكر، وتنافس الحزبين الكبيرين في البلاد على الحكم،حزب الشعب الباكستاني الذي تقوده ( بيناذير بوتو ) العائدة للتو من منفاها أملاً بعودة بعض الديموقراطية إلى البلاد!، والحزب الثاني حزب الرابطة الإسلامية الذي يرأسه( نواز شريف ) المنفي هو الآخر، والحزبان هما الواجهة المدنية للعسكر الذين يشكلون عملياً الحزب الثالث في باكستان، وهو الذي يقود عربة الحكم السياسية فيها إلى اليوم ممثلاً بالرئيس الحالي ( برويز مشرف)، ولعل عودة بيناذير بوتو الإشكالية إلى باكستان ومارافقها من تفجيرات وضحايا كانت القشة التي سوف تقصم ظهر الإستقرار النسبي وحزب العسكر برئاسة برويز مشرف، اتضح ذلك من سرعة تفاقم الأوضاع وتدهور الوضع الأمني والسياسي بشكل خطير ووقف العمل بالدستور وإعلان حالة الطوارئ وبشكل دراماتيكي سريع ومفاجئ، يبدو أن باكستان هي الأخرى دخلت على خط الفوضى سيء الصيت..!. هل عادت بيناذير بوتو ضمن حسابات داخلية بحته فرضتها حالة البلاد؟! أم عادت بناءً على اتفاق مع مشرف على تقاسم كعكة السلطة؟! وتنصل مشرف من وعده، بعدما تبين أنه أخطا القرار بالسماح لها بالعودة،وتراجع عن تنفيذ مااتفق عليه؟! مالذي حدث،وماالجديد فيه،ليقدم مشرف على إعلان حالة الطوارئ؟! هل هناك سيناريو ما سوف يرجع باكستان إلى حكم عسكري أشد قسوةً وإلغاء كل مظاهر الحياة المدنية؟!.هل ماتشهده باكستان وبرويز مشرف هو نتيجة وضع داخلي؟! أم أن الخارج له دور في هذا التخلخل المفاجئ،وكشف مشرف نزعته العسكرية في وقت الأزمات؟!..
في قراءة سريعة للمشهد نرى أن الهند دخلت نادي القوى العظمى على المستوى العالمي، بينما تعصف بباكستان رياح الشرق بكل مافيها من عواصف ودوارات سياسية جعلتها بعيدة عن مسار جارتها الديموقراطية التي تتعدد فيها الديانات ولكنها حسمت أمرها بخيار الديموقراطية كنظام سياسي في دولة مدنية،وفر لها الإستقرار وقطعت مع حكم العسكر ولم تعرف سوى باستثناء سنوات قليلة الأحكام العرفية في فترة حكم الراحلة أنديرا غاندي عقب التمرد المسلح الذي قام به السيخ في سبعينات القرن الماضي وعوقبت على فعلتها تلك فسقطت في الإنتخابات رغم كل إرثها العائلي كونها بنت الراحل العظيم (نهرو )، وعليه تكرست التقاليد الديموقراطية التي جعلت من الهند أكبر ديموقراطية في العالم، على الجانب الآخر وعلى تخوم الديموقراطية الهندية لازالت باكستان غارقة في الإستبداد وحروبها الداخلية والخارجية وعلى أكثر من مستوى، أدت بمحصلتها إلى غياب الديموقراطية والإستقرار، ولازال العسكر هم القوة التي تحرك باكستان في سلسلة من الإنقلابات المستمرة من الجنرال أيوب خان في الستينات،إلى انقلاب الجنرال ضياء الحق في الثمانينات،إلى انقلاب الجنرال مشرف عام 1999 حيث سيطر على السلطة ولازال فيها إلى الآن.
والحال كذلك، راوحت باكستان في حضن حكم العسكر باحتواء الواجهات المدنية وإعادة تجديد الإنقلاب إذا دعت الضرورة إليه تحت ضغط انتفاضات شعبية متعددة أجبرت العسكر على البقاء في ثكناتهم، أي السماح بممارسة حد أدنى من الديموقراطية تمثلت في مشاركة الحزبين المدنيين الكبيرين حزب الشعب والرابطة الإسلامية،وبروز دور المؤسسة العسكرية كحزب ثالث في الصراع السياسي الذي شهدته باكستان، وأصبح ناظماً للسطة خلال المرحلة الماضية، والجنرال مشرف الذي أتى عام 1999 بانقلاب غامض إلى الحكم هو من هذه المعادلة السياسية التي تعيشها باكستان واستمرار لها، والخلاف الأساسي اليوم هو إصرار برويز مشرف على الإستمرار لفترة ثالثة في الحكم والإحتفاظ بقيادة الجيش، الأمر الذي اثارالإعتراض الواسع على المستوى الشعبي والسياسي.
خلاصة القول: إن مايجري في باكستان اليوم هو خليط من تشابك قوى ومصالح خارجية أولاً وداخلية ثانياً، تلعب فيه القوى الخارجية بشكل كبير وخطير في هذه الدولة الإسلامية النووية، والتي لم يترك لها ولشعبها حرية الخيار السياسي إلى الآن ولجملة من العوامل الجيوسياسية،بحكم موقعها بين ديموقراطية كبيرة ونووية أيضاَ هي الهند،وغلبة أجواء الصراع المستمر معها،وبين إيران الدولة الإسلامية التي تلعب في نسيج باكستان الديني والمذهبي بدور يعرقل التطور السياسي نحو الإستقرار فيها، وبين قوى خارجية تريد أن تكون باكستان ساحة مفتوحة من كل الجوانب لتمرير مشاريعها وخاصة مايتعلق منها في الحرب على الإرهاب وبناء النظام الدولي الجديد، لذلك ورغم كون القوى الخارجية تتمسك وتتظاهر في دعم الديموقراطية في العالم،أجازت لنفسها على هذا الطريق في دعم الديكتاتوريات العسكرية في باكستان على الدوام مما أدى بمحصلته العامة إلى إعاقة التنمية الديموقراطية،وحصرت باكستان بين مطرقة حكم العسكر المتواتر والمدعوم خارجياً وبين سندان المحيط الإقليمي لها، واليوم تستمر نفس السياسة التقليدية لمعالجة الوضع المتدهور فيها، وفي هذه الحال لابد من تأشير دور الخارج والمحيط الإقليمي وقدرته على التأثير في المعادلة الداخلية الباكستانية.
باختصار القول: إن باكستان مرهونة بشكل كبير إلى مشاريع خارجية دولية وإقليمية تتعلق بمستقبل حروب الفوضى المنظمة في المنطقة، وكما كانت باكستان في ظروف الحرب الباردة ساحة ومعبراً لتصفية حسابات خارجة عن مصلحتها وعن قدرتها، هي اليوم في نفس الطوروأكثر إذ تبدو امتداداً لحرائق المنطقة كلها من لبنان إلى فلسطين إلى العراق إلى إيران إلى باكستان، والجميع بات على فوهة بركان ما مجهول، بعض ملامحه تتوضح في مؤتمر أنابوليس القادم للسلام المفقود، أيكون هذا الآخر مؤتمر لإعادة هيكلة السياسة الدولية بشكل أكثر عقلانية في هذه المنطقة البركانية من العالم؟!،والتي تنام على الطاقة عصب الإقتصاد العالمي، عاريةً جائعةً في العراء، تطفو على سطح الفقر وضعف البنى السياسية الداخلية وتهالكها وبالتالي عدم الإستقرار، أم أن المؤتمر القادم سيكون محطة في سياسة الفوضى التي تضرب أطنابها طولاً وعرضاً، وكل ماسيفعله هو تزويد القوى المحلية المتحاربة بالمزيد من الزيت لسكبه على نيران المنطقة المشتعلة لتكبير الحريق، وزيادة مساحة الحرب تحت عناوين شتى أولها الحرب على الإرهاب! وثانيها الحرب من أجل الديموقراطية!وثالثها باسم منع انتشار الأسلحة النووية!، ودوامها استمرار نزعة الحروب تحت شتى الأسماء والأعذار؟! لاندري ماالجديد في هذه الفوضى!!! سوى الفوضى العامة المنظمة، التي أصبحت مرهقة سياسياً ومادياً وإنسانياً وأكثر من كل هذا أخلاقياً...!.
د.نصر حسن
التعليقات