قراءة في جذور الواقع السياسي للعراق الجديد - الحلقة الرابعة

(سياسيوا العراق القديم ومسؤوليات المستقبل)

المتتبع لجغرافية العراق السياسي الحديث يشخص أن سياسيّي العراق القديم يتشكلون بشكل أساس من اتباع النظام السابق وكل القوى السياسية والدينية المتمحورة حوله والمنتفعة منه سواء كانوا من اسلاميين كإخوان مسلمين العراق المعروفين بالحزب الإسلامي، وكل الهيئات الدينية المتمثلة بموظفي الوقف السني وعلماء الدين الطائفيين التكفيريين.
وبفضل هذا التمحور حول نظام البعث كما قلنا في الحلقة السابقة فإن النتيجة النهائية لتلك الجبهات الثلاث من السياسيين السنة بما في أولئك الحزب الإسلامي، تتلاحم اليوم في مواجهة العراق الجديد على ما فيه من نواقص وعليه من ملاحظات، وذلك لمآرب سياسية ودوافع طائفية للانتقام بشكل أو آخر من الاكثرية الساحقة للشعب العراقي المتمثلة بالشيعة والإطاحة بالسياسيين منهم.
وبحكم التعصب الطائفي عند الحزب الإسلامي وطبيعة تلاحمه الاجتماعي مع قادة البعث بحكم وحدة البيئة والإنتماء الأسري والتقارب العشائري ووحدة المصالح الطائفية مع البعثيين فقد تمكن من استثمار إقحامه في العملية السياسية الجديدة ليثبت مواقع حلفاءه من سياسيي العراق القديم في مفاصل واقع العراق الجديد، وبدلا من أن يكون عونا يمثل السنة في بناء العراق المستقل بمنأىً عن هيمنة اتباع النظام السابق فقد عمل بنحو أو آخر بتمكين مخالبهم منه، وهذه خطيئة مركبة اشتركت فيها عقلية إدارة الاحتلال مضافا إلى التقصير الناتج من قصور عقلية السياسيين الجدد، فضلا عن اصابع حكومات الجوار الطائفي، التي صنعت من العراق السياسي الجديد عراقا هلاميا طوباويا يستحيل عليه البناء، لإستلزام مهمة البناء توافر نوايا صادقة تجتهد متعاضدة في بناء الوطن بدلا من أن تتسابق اطراف الواقع الجديد نحو تحقيق تطلعات حزبية أو قومية أو طائفية.
الأمر الذي كشف لعيون العامة فضلا عن السياسيين مدى التناغم في مواقف تلك الجبهات الثلاث لساسة العرق القديم التي تتبادل الأدوار فيما بينها في تكريس مرارة عراق اليوم.
وبعد هذا البيان اردت تسليط الضوء على حقيقتين اساسيتين اولاهما طبيعة الادوار التي اضطلع بها سياسيوا العراق القديم، والثانية آفاق المستقبل الحضاري المطلوب منهم ولهم.

الحقيقة الأولى
الدور الحالي لسياسيي العراق القديم (السياسيين السنة)
المراقب السياسي الحاذق والاعلامي النزيه، والمتابع العراقي عموما يعرف تلك الحقيقة التي يغالط بها الكثير من الناس لإبصارهم الحقيقة بعين واحدة، أو كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لمن ينظر إلى الحقيقة من زاوية واحدة: ( انت اعور إما أن تعمي واما أن تبصر).الامر الذي يوجب على السياسي والاعلامي وكذلك المتابع أن ينظر بكلاتا عينيه حتى يستوعب مجريات المسرح الذي امامه.
الحقيقة التي عادة ما يغالط بها قومنا فيها هي طبيعة الأدوار الحالية التي يضطلع بها سياسيوا العراق القديم، لتمتعهم بثقافتهم الخاصة بهم والمنحدرة من تراكم كونهم حكاما على الإنسان منذ قرون، الأمر الذي يبلور شخصية لن تقبل بالاخر قط، ولا بمراجعة الذات، ولا النصيحة والنقد، ولا بالتنازل لصالح حق الاخرين، ولا بالقبول بأي شيء إلا بالهيمنة والإخضاع، مما يجعل تلك الشخصية متمتعة بمواصفات الشخصية التي استبدت دهرا فأبت للانسان الآخر إلا قهرا، وتلك حقيقة تحتاج إلى دراسة للأبعاد التاريخية والنفسية المساهمة في صناعة هذه الشخصية الحاكمة التي فقدت عرشها فجأة في حساباتها التي زعمت أن كرسي الحكم باق لها ما بقي انسان على وجه الأرض، المهم أن تلك الادوار التي يمكن تلخيصها بما يلي:
الدور الأول: الدور الإرهابي العنيف المتخصص
والمتمثل بدور بقايا البعث المتصدي بأبشع أنواع العنف والقتل والانتهاك لأبناء الشعب العزل ابتداءا من عمال البناء إلى المسافرين في محطات النقل، إلى اعتراض السيارات وقطع الطرق وقتل من فيها، إلى رواد المطاعم والمارة المتبضعة في السوق وقتل الناس على الهوية الشيعية، وذبحهم في دور العبادة، والتعرض لقدسية العتبات المقدسة، وهدم المساجد والحسينيات، واختطاف الصغار، وهتك الأعراض، وذبح الفلاحين في مزارعهم، ولم يسلم منهم حتى فريق كرة القدم، والاطباء والمهندسين والمدرسين واساتذة الجامعات، وطلاب المدارس والكليات، والخباز العامل في مخبزه، والتاجر في متجرة، والطالبة في طريقها من وإلى المدرسة، والمرأة في سبيلها إلى السوق، والرجل موصلا ابناءه إلى المدرسة، ونسف مراقد أئمة أهل البيت عليهم السلام، الصحابة والتابعين، والتفنن بالاعتداء على كل شيء في الحياة فلم تنجوا منهم حتى سوق المكتبات وكتب العلم والمعرفة، وهذا كله وإن كان الإعلام العراقي عموما يلقي بتبعاته على التكفيريين إلا يأتي منسجما مع ممارسات البعثيين خلال الفترة المظلمة لحكمهم، وبالطبع فإن هذا من نشاط الفئة الأولى لسياسيي العراق القديم.
الدور الثاني: الدور الإرهابي للسلفيين التكفيريين
وهي تشكيلات لمنظمات التكفير من عناصر الفكر الوهابي التي لا تعرف ذمة ولا حرمة لأهل بيت رسول الإسلام قط. وقد اجتمع فكر هذه الفئة مع فكر بقايا البعثيين المتمرسين في إرهاب الشعب، فاضطلعوا بقتل السنة شركاء العملية السياسية باعتبارهم خونة ضالين لتعايشهم مع إخوانهم الشيعة ومشاركتهم العملية السياسية. كما اتفقت كلمتهم على قتل الشيعة باعتبارهم كفار حسب عقيدة الخوارج والنواصب، فكانوا يضربون عصفورين بحجر واحد، فيقتلون الشيعي إنتقاما من رسول الله في شيعة أهل بيته، ويقتلون من السنة ليتهموا الشيعة بدمهم، وهذا ما أعلنه التكفيريون في بياناتهم وفتاوى علماء دينهم الذين عرفهم القاصي والداني من الناس.
الدور الثالث: الدور التعبوي الديني
وهو الدور الذي تضطلع به هيئات ومؤسسات علماء الدين الطائفيين الذين استقر بهم المطاف خارج البلاد، وبالتعاون مع البعثيين هناك واتباعهم في الداخل. وعادة ما تمارس هذه الهيئات دورا سياسيا في تأليب الرأي السني العام لصالح إرجاع البعثيين إلى الحكم تحت إطار تخليص السنة من الشيعة واالمطالبة باعادة الجيش والأمن ومخابرات نظام البعث، وكأنما المجرمين البعثيين هم المؤمنون الأخيار من السنة، معتبرينهم طليعة الأبرار منهم، وكأنهم ممن قد أمر الله بإرجاعهم إلى الهيمنة على رقاب الناس من جديد، خلافا لما قد أمر الله فيهم من القصاص العادل والاقتصاص للمظلوم من الظالم. وهذا عين اللعب بالدين الذي يوجب أخذ الحق للمظلوم من ظالمه غير متتعتع، واذا بنا نرى تلك الهيئات تطالب بارجاع الظلمة للتسلط على رقاب الشعب المظلوم وما ذلك إلا لأنهم ممن كانوا يتمحورون حول نظام خسروا بسقوطه نعيمهم المقيم.
الدور الرابع: الدور السياسي من داخل سلطة ديمقراطية العراق الجديد (؟)
وهو الدور الذي يغطي على جرائم الإرهاب الذي ينتقم يوميا من الشعب تحت عنوان المقاومة (الكاذبة) التي ظاهرها تحرير العراق من المحتل وحقيقتها كما هو واقع الحال الانتقام من العراقيين (الشيعة).
إن عمل الإرهاب إضافة إلى وحشيته وبشاعته فهو يحتاج إلى دعم سياسي من داخل الحكم الحالي ليهيئ له الخطاب السياسي والتمكين المالي والامداد العسكري والنفوذ الإداري في السلطة الحالية، وقد أدته وما زالت تؤديه الأحزاب السياسية المشاركة في الحكم هذا الدور وبدون أن يتصدى لهم حريص على العراق والعراقيين.
وعادة ما يقوم هذه الفئة من السياسيين بشلّ العملية السياسية وإرباك استقرار العراق وزعزعة أمن الناس، وهو ما قد أعلنه منهاج البعث بعد سقوط عرشة من ضرورة الإخلال بوضع العراق الجديد كيلا يرتاح العراقيون ولكي يتمنى الناس بعد المزيد من الدماء عودته وعودة عصائبه على رقاب الشعب من جديد.
هذه الأدوار الأربع دأب وما زالت تدأب في العمل عليها كل الفئات الثلاث من السياسيين السنة ( سياسيي العراق القديم) وبلا هوادة. اما باقي الفئات السنية من الشخصيات والاحزاب المستقلة عن تلك الفئات فتتمتع بنوع كبير من الاستقلالية في القرار، والحرية في المشاركة السياسية، والواقعية في الخطاب السياسي اليومي، والنضج في الفهم لحقائق مجريات الواقع العراقي الجديد.
الدور الخامس: دور عصبية الخطاب السياسي عند السنة
الدور الآخر الخطير الذي تضطلع به تلك الفئات الثلاث من سياسيي العراق القديم من السنة هو التعصب في الخطاب السياسي واتباع لغة التهديد والوعيد في حضورها على موائد الإعلام الخارجي بما يساهم بشكل فاعل في تصعيد التشنج الطائفي بينما على صعيد الاعلام العراقي فتتبع خطابا معتدلا داعيا إلى التهدئة والأخوة وما إلى ذلك من اساليب النفاق السياسي المقيت، والنتيجة النهائية هي العصبية في الخطاب السياسي عند السياسيين الدينيين والعلمانيين من أهل السنة عموما، وكأنما القوم لم يقرأوا تعريفا عن التعصب والعصبية قط.
فالعصبية كما حددتها الأحاديث الشريفة من الشيعة والسنة على حد سواء هي التعصب للقوم أو الحزب أو الفئة على حساب الحق وبما يتحقق فيه الظلم على الآخرين، وهنا اذكر حديثين أحدهما من المسلمين من شيعة أهل البيت عليهم السلام حيث: (الزهري - وهو من ابناء العامة لأن مصطلح أهل السنة لم يكن قد ولد بعد - سئل الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام عن العصبية؟
فقال: العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم) ()
وأما من روايات السنة فقد روي أن واثلة بن الاسقع قال: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: لا ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم ) ()
النتيجة واحدة وهي أن يرى باطل قومه حقا وحق قوم غيره باطلا فيعين قومه على حساب حقوق قوم آخرين، منتصرا لباطل قومه.
من هذا المنطق الحضاري والمنطلق العقلائي فإن (السياسيين) السنة متعصبون لطائفتهم تعصبا أخرجهم من الحق إلى الباطل، وقد يقول قائل أن هذا التعصب تجده عند الشيعة كذلك فاجيب بلغة الحقائق العلمية بعيدا عن الدعاوى الخاوية أو تبادل الافتراءات، وكمثال على ذلك نذكر ما يلي:
1) منذ ابتداء سقوط البعث المنحل أعلن الشيعة اخوّتهم للسنة وطمئنوهم بعدم الانتقام منهم على ما قد اقترفه نظام البعث الطائفي، فانهالت عليهم المفخخات (السنية) التي استهدفت مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقد استشهد فيها أحد علماء الشيعة وهو السيد محمد باقر الحكيم واكثر من مائة من المصلين أثناء خروجهم من صلاة الجمعة من حرم الإمام عليه السلام.
فتسامحَ الشيعة مع السنة ولم يعلنوها حربا طائفية، فقابل القوم ذلك التسامح بسلوك منهج قطاع الطرق بين بغداد ومناطق جنوب العراق، فكانوا يقتلون على الهوية والاسم والمنطقة القادم منها والذاهب إليها، فإستباحوا النساء وقتلوا الرجال وذبحوا الأطفال، ولم يقابلهم الشيعة بالمثل بل كانوا يلقون باللائمة على الأغراب القادمين من الخارج، وهم يعلمون علم اليقين أن البعثيين وراء ذلك والعشائر التي آوت الأغراب الوافدين من الخارج، اضافة إلى السياسيين الذين كانوا وما زالوا يتعاملون مع أولئك الأغراب، وبهذه المناسبة ادعوا القاريء العربي إلى الواقعية في التعامل مع الاحداث بارقامها وحقائقها بعيدا عن الهروب عبر اللجوء إلى نغمة ترك الماضي وعدم الخوض في التاريخ ذلك لأن الحاضر ابن التاريخ وأن الاخير ابو المستقبل وأن تجاهل اية حلقة من هذه الحلقات يعني سقوط البحث العلمي وتضييع المستقبل.
2) ثم ازداد عنف الطائفيين من السنة لفقدانهم سلطان البعث السفاك لدماء العراقيين، فعمدوا إلى سياسة تفخيخ السيارات، وبث الرعب بين الناس، ولم يكن من الهيئات السياسية والدينية السنية إلا التنديد الخالي من اي تحديد للموقف، ذلك التنديد الذي لا يساوي في العرف الديني إلا النفاق السياسي، والنفاق أمر محرم بالنسبة لمن يعتقد بالدين، حيث أن الواجب الديني يقتضي بدل التنديد أن يحرّم الدم الشيعي، حيث شعار الارهاب الانتقام من الشيعة، فكان خطاب هيئة علماء المسلمين السنة ومن حولها يتمنطق بمنطق التعميم في الخطاب السياسي والتمويه على الحقائق فيستعمل أسلوب التنديد الخطابي في تحريم دماء العراقيين بشكل عام يخرجون الشيعة بهذا الخطاب كما يشاءون، ولم تجد في المقابل اي تكفير شيعي لأي من السنة.
3) ومقابل ذلك تمادى الأسلوب الطائفي للبعثيين ومن معهم من الأغراب عن الدين، والغرباء عن الإنسانية، والبعداء عن الوطن حتى تطاولوا على مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام في مدينة سامراء وزرعوا المرقدين الشريفين بعبوات ناسفة دمرته تدميرا دلَّ العالم على (همجية الفكر) و(وحشية المنطلقات) و(بربرية الثقافة) التي تحدو الفَعَلَةُ القتلةُ والآوين لهم والمؤيدين لفعلهم والساكتين عن جريمتهم، والراضين بجنايتهم، فيخرج على شاشات الاعلام مدير أوقاف السنة المهيمن على إدارة المرقدين الشريفين ليقول إذا ما أراد الشيعة إعادة بناء المرقدين ووضعه تحت إدارة الأوقاف الشيعية سنحول دون ذلك ونفعل ما نفعل. ومن هذا يتبين بوضوح بدوية الخطاب الطائفي الفظ!!
4). بعد هذه الحادثة الوحشية الأليمة هرعت جماهير العراق من كل صوب وحدب زحفا متجهة إلى سامراء لإنتزاع المرقدين وحماية ائمتهم عليهم السلام من العدوان الوحشي، فحالت دون ذلك تطمينات الحكومة وأوامر المرجعة الدينية الشيعية بالتريث والصبر، وكما عرف أهل السنة والعالم معهم أن اغلب زعماء القوم هربوا إلى سوريا والاردن خوفا من ردة فعل الشعب الغاضبة ضد هذه الجريمة النكراء.
5) فتبع هذا الصبر والحلم المزيد من عمليات القتل والاختطاف الجماعي والفردي للعمال والفلاحين والكسبة الشيعة وذبحهم كما ذبحوا سبط رسول الله الحسين بن علي بن أبي طالب وأهل بيته واخوته وأصحابه وسبوا نساءه وأطفاله، ومع ذلك كله لم يواجه الشيعة بالمثل، وذلك للمنطق الحضاري الذي تتسم به مرجعياتهم الدينية والفكر الإسلامي الذي يحملون.
6) ومع هذه الوحشية الفكرية، والبربرية الثقافية، والهمجية في الانتقام، وجاهلية المنطق السياسي والديني إذا ما رأى هؤلاء السياسيون السنة ردة فعل من قبل واحد أو إفراد من الشيعة المذبوحين في اليوم والليلة ألف ذبحة، وهي ردة فعل حتمية الحصول لكل من يُقابل بمثل هذا العنف والوحشية، ترى الخطاب السياسي السني يقوم ولا يقعد فيصيحون واسنتاه؟ لقد قتلوا السنة؟ أنقذوا السنة من الشيعة؟ يا سنه العالم اتحدوا؟ والى غيرها من الخطابات السياسية التي يضطلع بها البعثيون والتكفيريون في العراق وخارجه، والحزب الإسلامي من داخل السلطة والحكم. وبهذا يكون الخطاب السياسي لساسيي العراق القديم خطابا طائفيا صرفا يريد  الهدم وليس والتشنج وليس الاصلاح.
الدور السادس: مؤدى الخطاب السياسي السني إرجاع البعثيين
النتيجة النهائية من مؤدى هذا الخطاب السياسي- واقعيا وليس تحليليا - هي مساندة الإرهاب البعثي من أجل عودته إلى الحكم والهيمنة على رقاب شعب العراق من جديد.
وقد ذكر أحد سياسيي العملية السياسية أن بعض شركائهم في الحكم من السنة قالوا لهم بالحرف الواحد: (لقد مكثتم في الحكم أربع سنوات فسوف لن نبقيكم اكثر من هذا). وقال أحد نواب المجلس ndash; من البعثيين وانا اربأ عن ذكر الاسماء عادةndash; في حوار له مع قناة الجزيرة: (سوف نقاتل من أجل تغيير الدستور)، وبهذا المنطق الارهابي يريد تغيير الدستور بالعنف والدم وتلك هي ثقافة ومنهج وليست زلة لسان.
وقال: نائب - وفاقي بعثي آخر - يجب إعادة النظر بقانون اجتثاث البعث، إعادة البعثيين وجهاز استخبارات البعث والامن السابقين إلى الحكم، ويجب العمل على المصالحة الوطنية الحقيقية. ولا تكون (المصالحة الحقيقية) في نظر السياسيين الطائفيين إلا بإرجاع البعثيين إلى السلطة والتحكم في الرقاب والدماء من جديد، وهذا ما لم يتحقق إلا بإلغاء العملية السياسية القائمة وقبول الامريكان بإلغاء الديمقراطية التي زعموا بها كثيرا والعودة إلى اشتراكية البعثيين وعبثية التكفيريين.
لم يكن الاعلان عن هذه اللغة محض استقراء لتاريخ التصريحات السابقة للسياسيين السنة بل ظهر صريحا على لسان المتحدث عن حزب البعث كما نقلته قناة الجزيرة في موضوع ما يسمى بالمصالحة الوطنية قولها بمناسبة اليوم الذي عقد فيه مشروع المصالحة الوطنية في بغداد قالت القناة:
(وتعليقا على ذلك قال متحدث باسم حزب البعث المنحل للجزيرة إن الحزب لن يشترك بأي مؤتمر للمصالحة إلا إذا تم تلبية شروطه المتمثلة بتحديد جدول زمني للقوات الأميركية والاعتراف بالمقاومة وإلغاء العملية السياسية. ) () وبالطبع فمما سمعته من هذا المتحدث ذاكرا من شروط حزبه اعتذار السياسيين الحاليين في الحكم إلى البعث والعودة إلى منهاج الحزب والغاء الدستور وطرد الامريكان وعودة الجيش وقوات اجهزة الامن والاستخبارات السابق والى غيرها من الشروط التي لم تذكرها القناة في موقعها على الانترنت بل قالها البعثيون أنفسهم وهيئة علماء المسلمين السنة وبعض قادة الحزب الإسلامي وجبهة التوافق البعثية وكل الكتل الطائفية الأخرى.
ذلك لأن القوات الأمريكية أسقطت سلطنة البعث الذي يمثل الوجه الحقيقي (للمقاومة) التي دمرت العراق واستباحت الأعراض وانتهكت المقدسات وصنعت شلالات الدم في الشوارع والطرقات.
وبعد كل بيان مواقف سياسيي العراق القديم (السياسيين السنة) على ما فيها من تلميح تارة وتصريح تارة اخرى لإعادة العراق إلى حياة القمع وارهاب البعث من جديد لابد من بيان ابرز المسؤوليات الحضارية المطلوبة من السياسيين السنة وهذا مفاد الحقيقة الثانية.
الحقيقة الثانية
ابرز مسؤوليات السياسيين السنة
بعد بيان المقدمات السابقة والظروف الموضوعية التي يمر بها العراق ومعاناة الشيعة من الحكومات السنية (والتي سميتها سياسيوا العراق القديم)، وبعد بيان مدى التسامح الحضاري الذي تعامل به الشيعة مع اخوتهم السنة، وجب بيان بعضا من الجوانب الحضارية اللازم على السياسيين السنة الاضطلاع بها، فكانت تلك المسؤوليات التالية:

المسؤولية الأولى: التعرف على حضارية التعامل في الحياة
قبل كل شيء لابد من إعادة النظر في المنطلقات التي اعتاد عليها (السياسيون القدماء) طوال القرون السالفة من الحكم، وذلك بضرورة العمل بحضارية في الحياة، تلك الحضارية التي لا أعني بها نوع اللباس وربطة العنق وركوب السيارة الفارهة والسكن في القصور العامرة وتنضيد الاموال في بنكوك العالم ولا باطالة اللحية وتقصير الثوب وغيرها، بل هي من حضور القيم الإنسانية في كل حركة وسكنة يتعاملون بها في الحياة.
ولا حضور لتلك القيم ما لم يكن اعتبار الإنسان في قمة التفكير، وهذا يعني إلغاء فكر الإقصاء والتخلص من ثقافة الاستبداد، والتطهر من تبعات المناهج الطائفية في التعامل القائل (إما أن أكون الكل في كل شيء أو لا يكون لأحد غيري أي شيء) سوى الدمار والهلاك وسفك الدماء، أو على قول المثل القائل: ( إما ان العب أو اخرّب الملعب).
وبحضورتلك الحالة القيمية من الفهم في قاموس الإنسان الحاكم والسياسي معا، فانه سيدرك ثقافة جديدة تعلمه: ( أن غاية الحكم والدولة هي خدمة الناس وليست التسلط والهيمنة)، ولا التحكم في أموالهم واستباحة نسائهم بما يجعله يتخذ (عباد الله خولا ومال الله دولا)، كما هو ديدن كل الحكومات الطائفية على طول التاريخ.
فالقيميّة أمر مهم بل شرط أساس يجب أن يتحلى به كل السياسيين عموما، وعلى وجه الخصوص السياسيين السنة لخروج ثقافتهم القديمة على القيمية.

المسؤولية الثانية: المسؤولية الحضارية تجاه حزب البعث
حيث يلزم على العراقيين عموما بما فيهم المعتدلين من أهل السنة إدارك حقيقة الموقف الحضاري تجاه البعثيين، حيث الواجب الإنساني والاخلاقي والشرعي يحتم الاقتصاص من المتورطين في دماء الشعب منهم، اما غير المتورطين فعليهم العمل على إعادة تأهيل أنفسهم للحياة وتعليمها ثقافة جديدة، حيث أن ثقافة البعث التي اعتمدوها ردحا من الزمن كانت ثقافة (هدم الحياة) منطلقة من مناهج سرابية فاشلة لم تنجز ولو بمقدار أنملة من شعاراتها التي رفعتها خلال نصف قرن من الزمان.
ذلك لأن دخول البعثيين إلى معترك الحياة السياسية بعقلية الانتقام وفكر الإرهاب وثقافة الإرعاب سيكون خيانة بحق الشعب، لعدم أهليتهم قيادة أنفسهم على مناهج الحياة فكيف بقيادة المجتمع وادارة الدولة، لأن منطق الحياة يقول( من ضيع أمره فقد ضيع كل أمر) ()على حد قول إمام المتحضرين أمير المؤمنين عليه السلام.
هذا فضلا عن عدم استيعابهم مبدأ كون السياسي خادما للإنسانية، والحاكم خادما للمجتمع، وتلك هي قيمة ما كان ليدركها البعثيون لتمرسهم ثقافة الهيمنة على الحكم بالإرهاب والتخويف والانتقام، ومن كانت هذه ثقافته لن يمكنه ممارسة الديمقراطية، ولا حماية الإنسانية، ولا معرفة كيفية التعامل الإنساني قط، لأن من فرّط في حماية الارواح ففي حماية اموالهم وممتلكاتهم وادارة شؤونهم أفرط، وتلك هي ثقافة الخائن الذي يجب عدم إئتمانه بعد أن عُرفت منه الخيانة، فهذا رسول الله ونبي الإنسانية الذي لا يؤمن به البعثيون بقدر إيمانهم بعفلق وصدام وعصائبهما، يعلّم كل من يريد الخوض في شؤؤون الحكم والسياسة بقوله: (ليس لك أن تتهم من ائتمنته، ولا تأتمن الخائن وقد جربته) ()
من هنا يجب عليهم أن يتحولوا الى حضاريين أولاً بقراءة التاريخ الصحيح لا تاريخ الجبابرة التي كان يقرأه صدام وتعلم منه كيفية الهيمنة على رقاب الشعوب، بل قراءة التاريخ الصحيح، وتعلم معالم التحضر، والعمل على اصلاح الذات بدراسة مناهج الفكر الإنساني السليم، والتمرس على سبل التحضر، والتعلم من حياة المتحضرين، كي يفهموا ثقافة الحياة، ذلك أن دخولهم في أية عملية سياسية سيكون جريمة في حق الشعب لا محالة، ما لم يتوبوا أولا إلى شعبهم الذي اضطهدوه، وثانيا أن يتعلموا سبل الحياة ويفهموا ثقافة البناء.
أما من يريد إقحامهم في قيادة الأمة وإدارة البلاد ( تحت شعار المصالحة الوطنية) سيشارك في الجريمة من أوسع أبوابها، ما خلال الذين (اُستبعثوا) طمعا أو كرها ولم يكونوا متورطين في تدمير العراق وسفك الدماء.
المسؤولية الثالثة: مسؤولية العشائر السنية
المسؤولية الاخرى وهي التي تخص عامة أهل السنة من العشائر وغيرهم فعليهم أن يدركوا حقيقة بأنهم اخوة في هذا الوطن مع إخوانهم الشيعة وأن ينتبهوا إلى حقيقة السياسيين من أبناء مذهبهم الذين يريدونهم الماء الذي يسبح فيها أعداء الإنسانية وقتلة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما عليهم التمييز بين علماء المسلمين السنة الذين يحبون الله ورسوله وأهل بيته ومن يحبهم ويشايعهم، ويفكرون تفكيرا حضاريا يصيغ في ذواتهم قيم الحياة، وبين علماء المسلمين السنة الذين يعصون الله ويبغضون رسوله وينتقمون من أهل بيته ويذبحون من يحبهم ويشايعهم ويجهلون منطق الحياة إلا لغة العنف والأنانية.
لأن هذا النمط من العلماء هم وعاظ السلاطين والمروجون لهيمنة الطواغيت على رقاب الناس، والمتخصصون في توجيه الظلم ومعاداة الله ورسوله وأهل بيته توجيها دينيا شريفا معتبرين إياه جهادا مقدسا. كما  عليهم معرفة أن هؤلاء السياسيين وعلماء الدين السائرين بركابهم يريدونهم أن يكونوا الاداة الطيعة في محاربة رسول الله باسم سنة رسول الله وتلك مغالطة يجب على عامة إخواننا أهل السنة الالتفات اليها بعين البصيرة حتى لا يخسروا دينهم ودنياهم وآخرتهم وذلك هو الخسران المبين حيث قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) () وما ابرز من معاداةٍ للهِ ولرسولهِ من معاداة أهل بيته والانتقام منهم وكل من يشايعهم ويحبهم.
المسؤولية الرابعة: مسوؤلية الشرفاء من السياسيين السنة
أما بالنسبة إلى كل المعتدلين من أهل السنة وغير الطائفيين الذي لا يدورون في فلك البعثيين والعبثيين، فليعلموا أنهم من شرفاء هذا الشعب، ومن أهل هذا الوطن، وعليهم أن يضعوا أيديهم بأيدي إخوانهم من الشيعة والأكراد والتركمان وباقي الطوائف والقوميات والأديان في بناء الوطن على أساس التآخي والتفاني من اجل الإنسان واحترام الإنسانية، والعمل على الثوابت الوطنية التي شرعتها رسالات السماء، وآخرها الإسلام بنصوص كتابه الكريم وسنّّّّّّة رسوله وسيرة اهل بيته الطيبين واقرّتها حتى المواثيق العالمية.
وفي الختام فقد خُلق الإنسان على الأرض بشرا، وغايته الحياة، وما بين المبدأ والغاية لغةٌ وسبل ومناهج، فعلى من يريد التصدي لإدارتها كائنا من كان أن يفهم منطق الحياة، واللغة التي يتفاهم بها مع بني جنسه، فيكون طابع اللغة الاحترام، ومعالم المنهج البناء، وطبيعة السبيل العمارة، والغاية الكلية الحياة.
بينما الهدم والاستئثار والقتل من اجل الاستحواذ، والتدمير لغرض الإخضاع، والذبح إرواءاً لعطش التسلط وداء الهيمنة، كل ذلك يُخرج السياسي من حضيرة البيئة التي ليس فقط يريد إدارتها بل يخرجه من إمكانية التعايش معها مطلقا، لأن الفاقد للغة الحياة لا يمكنه أن يعلّم الآخرين معالم الحياة. من هنا وجب على سياسيي العراق القديم أن ينسوا لغة الماضي القديم ويتعلموا لغة الحياة وقد قالها خالق الإنسانية ومعلمها مناهج الحياة (يا أيها الذين آمنوا) بلغة الحياة ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) () كي تعلموا البشرية لغة الحياة ومناهجها.

محمد سعيد المخزومي


6/ آذار/ 2007
المصادف
16/ صفر/ 1428