دأب بعض الكتاب على محاولة تثبيط نفوس الغاضبين على الوضع المصري الحالي، و من أمثلة أولئك الكتاب الدكتور عمرو الشوبكي، الذي كتب هذا الشهر، مايو 2007، مقالاً فحواه، أن الثورة الشعبية ليست إلا وهم، و أن ثورات معدودة في التاريخ هي التي قادت إلى التغيير، و الإطاحة بالحكام، فخانته الذاكرة، أو العلم، فذكر ثلاث ثورات فقط، و هي الثورة الفرنسية و الروسية و الإيرانية، قامت فيها الجماهير بإسقاط النظام الحاكم القائم، و المغالطة التاريخية، و إن كان مردود عليها، إلا أن الأسوء منها هو النتيجة التي يخلص إليها سيادته، و يريدنا أن نبتلعها، و هي أن التغيير في مصر مستحيل أن يتم بثورة شعبية، لأن الشعب المصري لم يخرج أبداً في ثورة، ليسقط نظامه الحاكم، و أن التغيير سوف يحدث بالتالي تدريجياً، و عبر تراكمات طويلة.
الإستشهادات التاريخية التي ساقها سيادة، كما ذكرت خاطئة، و التحليل و الإستنتاج يؤديان لنتيجة مخادعة خبيثة، لا تعبر عن الحقيقة، التي تقول بأن الثورات الشعبية، لم تحدث فقط لثلاث مرات، في فرنسا، و روسيا، و إيران، و إلا ما هي الثورة المصرية في 1805، التي أتت بمحمد علي الكبير، و مصر الحداثة؟ ألم يلتف الشعب المصري حول تحت قيادة جماعية تمثل كافة طوائفه و طبقاته، من أجل الخلاص من إستبداد الولاة العثمانيون و فسادهم؟؟؟
و هل ثورة 1919، ليست ثورة شعبية، قادت لتأسيس نظام حكم ديمقراطي، مثلما قادت إلى خطوة كبيرة في طريق الإستقلال الفعلي؟ أليس تقليص سلطات الحاكم الوراثي لمصر، إلى درجة كبيرة، جعلته يملك و لا يحكم، هو نوع من التغيير في نظام الحكم، جاء عبر ثورة شعبية مصرية أيضاً؟؟؟
لماذا تغبن الشعب المصري يا دكتور؟؟ هل لأنهما ثورتان محليتان روحاً و دماً، يجب إنكارهما، في ظل ثقافة الدونية التي أصبحت تعشش في أدمغة البعض من أبناء الشعب المصري، الذي يستكثر على الشعب المصري أي شيء إيجابي؟؟
أم إنها خدمة لجمال مبارك، رئيس مصر الفعلي للشئون الداخلية، و الذي يعد نفسه للسيطرة على كل مقاليد الأمور بين فنية و أخرى؟؟؟
التغيير، يا سادة يا كرام، لن يأتي لمصر عبر تراكم للتغييرات البسيطة المتدرجة، كما يريد أن يوعز لنا كتاب السلطة، لأن تراكم التغييرات البسيطة للأفضل لا يتم في مصر من الأصل.
في أسبانيا، و في دول الكتلة الشرقية، و في تركيا، و هي نماذج إستشهد ببعضها الكاتب المذكور، هي ثلاثة نماذج متباينة في إتجاهاتها، فإحداهما، و أعني أسبانيا، كان نموذج للحكم العسكري اليميني، القائم على تحالف العسكر مع الكنيسة، و من نماذجه الكثير من الديكتاتوريات العسكرية السابقة بأمريكا اللاتينية، و الأخر و أعني الكتلة الشرقية السابقة، كانت قائمة على ديكتاتورية الحزب الشيوعي، و أما النموذج التركي فهو نموذج للعسكرية المستترة التي تتبنى نموذج حكم ذو أجندة أقرب لليسار، على الأقل في فترة أتاتورك و خليفته الأول.
تلك النماذج هي بالفعل نماذج للتحول الديمقراطي، و شبه الديمقراطي، الذي أتى تقريباً، و ليس كلياً، عبر التراكم المتتالي للكثير من التغيرات الإيجابية في المجتمع، و أول تلك التغييرات هو القضاء على الأمية، و نشر التعليم الحديث، و قد ذكرت في مقال سابق، ما سمعته من شهود عيان، لمواطنين من الكتلة الشرقية، عن الكيفية التي قضت بها السلطات الشيوعية على الأمية في بعض بلدان أوروبا الشرقية، حين أرغمت جميع مواطنيها، مهما كان عمرهم و مركزهم في مجتمعاتهم المحلية، على الرجوع لصفوف الدراسة، لمن لم يصل في تعليمه للمرحلة الثامنة من التعليم، و لا يشفع لأحد أنه يعرف القراءة و الكتابة، و أكمل في طفولته أربعة مراحل، و إنه قد تعدى الخمسين من العمر، و أعتقد إنه من الواجب في هذا المقام الإشارة إلى الخلاصة الذي لخصت به أحد الندوات في بريطانيا، بعد عقد من تقوض النظام السوفيتي، أن أهم حسنات ذلك النظام كان هو التعليم الجيد.
و بالمثل قاد أتاتورك عملية تعليم، لمحو الأمية في تركيا، حقاً لم تصل للنتيجة التي وصلت إليها أوروبا الشرقية، و لكن بأي حال أفضل مما وصلنا إليه في مصر في بدايات القرن الحادي و العشرين.
و لا داعي للإسهاب في الإصلاحات التي قادها فرانكو في مجال التعليم، في أسبانيا.
نعم الأنظمة الثلاث مرفوضة، لدكتاتوريتها، و إن إتخذت ديكتاتوريتها مسميات مختلفة، من لينينة و ديكتاتورية الحزب الواحد، إلى علمانية عسكرية متطرفة في علمانيتها، إلى عسكرية دينية متطرفة في تدينها، و لكنها جميعاً قادت مجتمعاتها إلى أحد التغيرات الهامة، التي أدى تراكمها إلى جانب تغيرات أخرى، إلى تقوض تلك الأنظمة الإستبدادية، و تأسيس مجتمعات ديمقراطية و شبه ديمقراطية.
الإنتعاش الإقتصادي، هو أحد العوامل الأخرى التي قادت إلى تأسيس الديمقراطيات، و لعل النموذج الأسباني و التشيلي، هما أحد أفضل النماذج لهذا التغير، فقد أدرك ديكتاتور أسبانيا الراحل، فرانكو، إن الإعتماد على مجموعة الإقتصاديين المتأثرين بفكر مؤسس الفلانج، أو الكتائب - و هي مجموعة يمينية، ذات ميول متطرفة ضيقة الأفق، كانت متحالفة مع الكنيسة الكاثوليكية الأسبانية - لن يؤدي إلا إلى المزيد من الفشل الإقتصادي، الذي بانت معالمه، في الخمسينات من القرن الماضي، فكان أن قام بتغيير جوهري، و أسلم الإقتصاد الأسباني لمجموعة من الإقتصاديين المتخصصين، البعيدين عن عالم السياسة، و نظريات جماعات التطرف، فكانت الطفرة الإقتصادية الكبيرة للإقتصاد الأسباني في سبعينات القرن الماضي، و التي جعلت، بجانب التعليم، من الصعوبة بمكان أن يحكم أسبانيا ديكتاتور أخر، و كان العاهل الأسباني الحالي، من الذكاء أن قرأ هذا التغيير، و تنازل عن سلطاته، فلم يعتبر نفسه ابناً روحياً لفرانكو، بل ابناً للشعب، و لهذا أيضاً نأى بنفسه عن مجموعة الإنقلابيين العسكريين التي إحتلت البرلمان الأسباني، لتسقط الحكومة الإشتراكية المنتخبة، في ثمانينات القرن الماضي، و لم يقبل أن يستدرج بقولهم: أن الجيش ينظر إليه على إنه ابن لفرانكو، مثلما كان قادة الجيش الأسباني في أغلبيتهم الساحقة من الحكمة أن أدركوا أن عجلة الأمور من المحال أن تعود للوراء، و أكد قائد الفرقة المدرعة المرابطة على مشارف مدريد، و التي كان بمقدورها أن ترجح كفة الإنقلابيين، للملك خوان كارلوس، في ساعات الإنقلاب الحرجة، و عبر الإتصال الهاتفي، أن ولائه، و ولاء فرقته، هو للديمقراطية.
بالمثل قام بونيشيه، ديكتاتور تشيلي، بخطوات كبيرة في مجالي التعليم، و الإنتعاش الإقتصادي، و أصبح إقتصاد تشيلي في عهده، أفضل إقتصاد في أمريكا اللاتينية، فكان أن خرج من السلطة على يد الديمقراطية الشعبية.
ها هو بوتين اليوم يسعى في طريق الإستبداد، فهل إستطاع أن يعيد عجلة الأمور في روسيا للوراء، إلى أيام القيصرية أو الستالينية، و هل إستطاع بعض صغار الطغاة في بعض دول أوروبا الشرقية، مثل إليسكو رئيس رومانيا السابق، أن يوجهوا دفة دولهم لتسير في إتجاه الماضي؟؟؟؟
لا لم يستطيعوا، بسبب التعليم، الذي يقود للوعي، و التحسن الإقتصادي التدريجي، الذي يحرر المرء من الحاجة، أي من الدوران في ساقية، أو طاحونة، توفير المتطلبات الأساسية للحياة، فينفتح أفقه، ليسأل عن بقية حقوقه، و يسعى للوصول للمفقود منها.
عائلة مبارك أحصف من أن تقع في خطأ فرانكو في أسبانيا، و بونيشيه في تشيلي.
عائلة مبارك، رعت الجهل، و التجهيل، فلم تكتفي أنها أوقفت عجلة القضاء على الأمية، مما أدى لزيادتها، نتيجة أن نسبة المواليد لدى الأميين أعلى مما لدى المتعلمين، مما وسع قاعدة الأمية، بل إنها رعت التجهيل، فأصبح المتعلم اليوم أشبه بالجاهل، و أقسم بأنني قابلت من هم في الصف الرابع و السادس الإبتدائي، في عهد مبارك الأغبر، في بعض قرى محافظة الجيزة، و لا يعرفون كيف يكتبون أسمائهم الأولى، و قابلت مهندسين مصرييين، حديثي التخرج، إعترفوا بأن ما تعلموه في جامعاتهم إكتشفوا أن العالم الحديث قد تجاوزه منذ سنين، و أطباء حديثي التخرج يقولون أنهم يشعرون بأنهم لم يتعلموا ما يكفي، و أنهم بحاجة للكثير من التعليم الحقيقي.
هذا ناهيك عن نشر التطرف، و الرعاية الرسمية للدجالين، و إبتعاد الإعلام عن دوره في نشر الوعي، و الإرتقاء بطرق التفكير، و الذوق.
كذلك كانت عائلة مبارك أحصف من أن تترك الشعب المصري النشيط المكافح بطبعه، يعمل بحرية، خوف أن يتحرر من الفقر و العوز بنفسه، فتنفتح عينيه، على واقعه، و يفكر في طريق الخلاص، فكانت كفرعون موسى، زادت من ثقل النير، و ألقت بالمزيد من الأثقال على كاهل الشعب المصري، حتى يبقى المصري محني القامة، خفيض الرأس، مقيد في طاحونة الفقر، يلف حول نفسه من صبيحة اليوم لمساه، مغمض العين، مكمم الفم، و لمن يكذب تلك النية المبيته من عائلة مبارك لإبقاء الشعب المصري رهينة الفقر، فرجاء أن يقارن بين حالنا اليوم، و حالنا إقتصادياً قبل مبارك، و أيضا حال مبارك و عائلته، و أقاربه اليوم، و حالهم قبل ربع قرن.
عائلة مبارك تحكم سياستها الداخلية حكمتان أساسيتان، يشكلان معاً أكثر من ثلاثة أرباع سياستها الداخلية، أولهما: حكم شعب جاهل أسهل من حكم شعب متعلم مستنير، و ثانيهما: لا تدعهم يشبعون، و لا تدعهم يموتون جوعاً.
إذاً لا أمل في حدوث أي تغيير، وبالتالي فلا تراكم، إلا تراكم السلبيات، لأنه لا تغيير من أساسه، إلا إذا كان المزيد من الغرق في بحار الفقر و الجهل تغيير، فالتعليم يزداد سوء، كماً و نوعية، و الفقر يزداد توحشاً، و الكثيرون هبطوا من الطبقة المتوسطة للطبقة البسيطة، و بقية الطبقة الوسطى تكافح لتبقى رأسها فوق سطح الماء، و البسطاء غرقوا منذ أمد طويل، و لم يسأل عنهم أحد.
النية، لدى المؤسسة، أو بالأحرى العائلة، الحاكمة، ألا يكون هناك تغيير في تلك السياسة، لأن في تغييرها زوالهم، و لمن يضع أمله على الإبن، فليتذكر بأن الإبن يمسك بزمام الأمور الداخلية منذ أكثر من ثماني سنوات، و أنه أحكم تلك السيطرة منذ وزارة عاطف عبيد، و أحمد نظيف، و هي مدة تعادل مدتان لأي رئيس أمريكي، و أكثر من مدة و نصف لأي رئيس فرنسي، أي لا يوجد مستور، و لا يوجد أمل في جعبة الابن، فمن شابه أباه فما ظلم.
إذاً هل يستسلم الشعب المصري للواقع المر؟؟؟ هل علينا القبول بخداع كُتاب عائلة مبارك، الذين يريدون لنا أن ننتظر ما لن يحدث أبداً؟ و هو قدوم الديمقراطية، و من قبلها الإزدهار و القضاء على الأمية، و تحسين التعليم، من تلقاء نفسيهما، و في عهد من؟ في عهد تلك العائلة.
في كل مكان في العالم، حتى في الديمقراطية البريطانية، و التي تعد مثال للديمقراطية التي جاءت عبر تراكمات بسيطة، بدأت بالمجنا كارتا، و التي كانت بداية الحد من سلطات العرش البريطاني، كان من الضروري في بعض الأوقات من اللجوء إلى الإيجابية، فلولا ثورة البرلمان البريطاني، و ظهور قيادة برلمانية حازمة مثل كرومويل، و اللجوء لكفاح سلمي ثم عسكري فعال، ضد الديكتاتورية المتزايدة للملك تشارلز الأول، و لولا وقفة البرلمان البريطاني ضد الإبن الثاني لتشارلز الأول، و عزله، لكان العرش البريطاني، أخر التحول الديمقراطي للأمة البريطانية، التي تعد اليوم أقدم ديمقراطية حية.
حتى في أوروبا الشرقية، لم يكن يكفى أن تحدث التغيرات، و تتراكم، بل كان يجب أن يخرج الشعب الألماني، في الشطر الشرقي، ليطيح بالجدار العازل، و في رومانيا، كان من الواجب على الشعب الأعزل أن يخرج ليطلب الديمقراطية بدمه.
أي أنه حتى في حال الأمم التي يحدث بها تغيرات للأفضل، و تتراكم تلك التغيرات على مر الزمن، ممهدة الطريق لإمكانية ترسخ دولة الحرية و الرفاهية، كان الفعل الإيجابي ضروري لترجمة ما حدث من تغيرات، فالطغاة لا يسلمون السلطة - في أغلب الأحوال - طواعية، بل يجب إرغامهم على ذلك، و هذا الإرغام، هو الإيجابية التي أعنيها.
فإذا كانت الإيجابية ضرورية، حتى في الأمم التي تسير للأمام، في ميادين العلم و الرقي و الرفاهية، فما بالنا، مع مصر التي دخلت مرحلة السير للخلف، بعد أن تخطت مرحلة الوقوف محلك سر؟؟؟؟
إن الفارق بين الإيجابية و السلبية، هو الفارق بين شعوب أوروبا الشرقية، و شعوب الشرق الأوسط و جنوب المتوسط، الأولى إختارت الإيجابية، و الثانية إختارت السلبية، فكان الفارق أن قفزت شعوب أوروبا الشرقية للأمام، و بعد أن كان الشعب المصري يتندر على فقر تلك الشعوب في النصف الأول من التسعينات، حتى إنقلب الوضع مائة و ثمانين درجة، ذلك إنهم خاطروا، و نحن إستكنا، و كل أخذ الثمن العادل لإختياره.
لقد جربنا ما جلبته لنا سلبيتنا، و إستكانتنا، و جبننا، و حان الوقت الذي نسلك فيه طريق الإيجابية، و الفعالية، طريق الثورة الشعبية، ثورة من أجل الحرية، و العدالة، و التقدم، و الرفاهية.
أحمد حسنين الحسنية
حزب كل مصر
التعليقات