إقتفاءً لأثر كارل ماركس في تعقب التناقض الرئيس في علاقات الإنتاج، وهو ميكانزم التطور الإجتماعي، كنت قد كتبت في يناير 2006 في إيلاف مقالة بعنوان quot; أكذوبة إقتصاد المعرفة quot; لأؤكد أن التناقض الرئيس اليوم قائم بين الطبقة الوسطى من جهة والطبقة العاملة وفلول الطبقة الرأسمالية من جهة أخرى. الاستهلاك المريع الذي تمارسه الطبقة الوسطى بصورة وحشية في نطاق ما يسمى بالإقتصاد الإستهلاكي (Consumerism) يشير إلى مدى الاستنزاف الذي تعاني منه الطبقة العاملة على يد الطبقة الوسطى التي تبرر مثل هذا الاستنزاف الوحشي بادعاء أن الطبقة العاملة لم تعد هي الطبقة التي تخلق الثروة كما كان حالها في النظام الرأسمالي بعد أن فقدت هذا الدور لصالح الطبقة الوسطى التي تمتلك وسيلتها الخاصة للإنتاج وهي المعرفة!! من هنا بات الطبقوسطيون يرددون خلال العقدين الأخيرين تعبيرأ جديداً وغريباً على الأسماع وهو quot; إقتصاد المعرفة quot;.
ما أعادني إلى الموضوع هو تعليق أحدهم على مقالتي الأخيرة في إيلاف quot; إقتصاد السوق صيحة مشبوهة quot;إذ علق يتهمني quot; بالعيش في الماضي quot; وأنني لا quot; أتفهم الآثار الإيجابية للمعرفة quot; حيث يمكن لآلة عالية التقنية أن تقوم بوظيفة مائة عامل وبالتالي فإن من اخترع هذه الآلة يستحق أن يتقاضى ما يتقاضاه مائة عاملاً حسب رأيه.
في الحقيقة، أنني إزّاء تعليقات كهذا، وهي كثيرة، يتملكني يأس وقنوط يصعب عبورهما. ثمة أميّة في العلوم السياسية مستفحلة ليس بين العامة فقط بل وبين الخاصة أعمق منها. وثمة جهل مطبق في دور العلوم السياسية في تطوير المجتمعات كما في الترقي الإنساني. يتعلم التلاميذ في المدارس الفيزياء والكيمياء في مختلف مراحل التعليم لكنهم لا يتعلمون ألفباء العلوم السياسية على الرغم من أنها فيزياء وكيمياء المجتمعات البشرية والأجسام الحية وليس الجامدة كما هي الفيزياء والكيمياء. الأمية السياسية تشكل عقبة كأداء على طريق ترقي الإنسان وتطور المجتمعات البشرية ولذلك فهي أولى بالمعالجة من كل العلوم الأخرى. يدهمني اليأس كلما هاتفني أحد القراء ليشكو من صعوبة ما أكتب على فهمه وكثيراً ما يتكرر هذا فأشعر أنني أسبح إلى غير ذي شاطئ وهو ما قاله معلق آخر، ولا يشجعني على المواصلة سوى أن أتذكر الحكاية التي تحكي أن أحدهم شكا لكارل ماركس صعوبة كتابه quot; رأس المال quot; على الفهم فأجابه ماركس بالقول: quot; أنا أيضاً أكاد لا أفهم ما كتبه كارل ماركس في كتابه quot; رأس المال quot;!! السيد quot; المعلق quot; على مقالتي الأخيرة quot;إقتصاد السوق صيحة مشبوهةquot; رأى بمقدار ما فهم من المقال أنني ما زلت أعيش في الماضي بالرغم من أنني أشرت بوضوح إلى علاقات إنتاج مختلفة في المجتمعات المتشكلة حالياً وإلى تناقض رئيسي جديد فيها. الصورة التي قدمتها، لمن يرى بالطبع، هي صورة لم ترسم من قبل. وبالإضافة إلى ذلك فإنني ألفت نظر quot; المعلق quot; الكريم إلى أن الحضارة الإنسانية الماثلة الآن إنما قامت بفعل قوانين علمية تم اكتشافها في الماضي. أما القول بأنني لا أتفهم الآثار الإيجابية للمعرفة فأرجو أن أعيده إلى قراءة المقالة ثانية ليرى كيف أنني أدقق في دور المعرفة في التقدم الحضاري والإنساني بالإضافة إلى دورها في الإقتصاد وفي السوق وهو يبدي جهلا تاماً فيه.
الحق أنني لا ألوم quot; المعلق quot; كثيراً على جهله المريع في دور المعرفة في عملية الإنتاج وفي السوق وذلك لأنه ليس فريداً في هذه الجهالة بل يشاركه فيها العامة التي تؤمن، من باب انتصارها الدائم للعدالة، أن من يخترع آلة تقوم بوظيفة مائة عاملاً له أن يتقاضى أجور مائة عاملاً. العدالة البورجوازية أحكمت الإسار على عقل quot;معلقناquot; فلم يفلت من إشكال المعرفة وقيمتها في السوق، كما تمنّع الاقتصاديون الطبقوسطيون عن نجدة أسيرهم لا لشيء إلاّ لأن جهالته تساعدهم على فرض إتاوى على منتجي السلع في السوق وهم العمال والرأسماليون بإسم quot; بدل المعرفة quot;.
لعل أخانا quot;المعلقquot; الكريم يقرّ في النهاية أن مخترعه سيتقاضى الأجر المضاعف مائة مرة بالتالي مما عاد به ابتكاره من مكاسب مالية في السوق. فالاختراع الذي أنتج مائة وحدة في الوقت الذي ينتج العامل وحدة واحدة وتم استبدال الوحدة الواحدة مثلاً بدولار واحد في السوق فذلك يعني بالضرورة أن يتقاضى المخترع مائة دولار في حين لا يتقاضى العامل سوى دولار واحد فقط لا غير عن نفس الفترة. مثل هذا المنطق لا علاقة له لا بالواقع ولا بعلم الاقتصاد.
لم يشكك أحد من علماء الإقتصاد في حقيقة أن القيمة التبادلية للسلعة تتحدد على وجه الدقة بكلفة إعادة إنتاج الشغل المبذول في إنتاج مثل هذه السلعة. المائة وحدة التي أنتجتها الآلة التي اخترعها ذو المعرفة في وقت معين لم تكلف المجتمع شيئاً يذكر بعد إهمال قيمة المادة الخام فيها. ويمكن القول أن القيمة المضافة فيها لا تساوي أكثر من الصفر بكثير بخلاف الوحدة التي أنتجها العامل بذات الوقت حيث أن القيمة المضافة فيها تساوي كلفة إعادة إنتاج الشغل الذي بذله العامل لإنتاجها، وهي كلفة يتحملها المجتمع في نهاية المطاف. الآلة التي تنتج مائة وحدة تلغي العامل الذي ينتج وحدة واحدة في ذات الوقت ولا تنافسه. وبذات الوقت فإن القيمة التبادلية في السوق للمائة وحدة لن تزيد عن قيمة الوحدة الواحدة التي كان العامل ينتجها بعد شطب قيمة المواد الخام بالطبع. فطالما أن الأمر هو كذلك حقاً فمن أين نأتي بأجر لمخترع الآلة المزعومة يساوي مائة ضعف أجر العامل؟؟ نحن هنا لا ننكر فضل المخترع في تقدم المجتمعات البشرية إنما ذلك يأتي من إثراء المجتمع بالقيم الإستعمالية وليس بالقيم التبادلية ومن تعظيم فعالية أدوات الإنتاج. آلة المخترع أنتجت مائة قيمة استعمالية (Use Value) لكنها لم تنتج مائة قيمة تبادلية (Exchange Value) تساوي القيمة التبادلية التي كان العامل ينتجها بل أقل منها.
الاقتصاديون البورجوازيون يسكتون على هذه الحقيقة بالرغم من بداهتها من جهة، ومن غيابها التام في الوعي العام من جهة أخرى، وذلك لأن غيابها يساعدهم في الإطاحة بالدور القيادي للطبقة العاملة وهو ما ذهب إليه مباشرة أخونا quot; المعلّق quot;؛ واستكمالاً لهذا السكوت المريب يشيع هؤلاء الاقتصاديون البورجوازيون أكذوبة ما يسمى quot;إقتصاد المعرفةquot;.
فيما قبل سبعينيات القرن الماضي لم يكن أحد قد سمع باقتصاد اسمه quot;اقتصاد المعرفةquot;. ويقر الذين يقولون ب quot;اقتصاد المعرفةquot; أن هذا الإقتصاد قد بدأ يظهر وينمو فيما بعد السبعينيات بل وبعد الثمانينيات فقط. فأي كارثة كونية محقت الاقتصاد العالمي المعروف فيما قبل السبعينيات ليحل محله إقتصاد لم تسمع به البشرية من قبل اسمه quot;اقتصاد المعرفةquot;، أو بعبارة أكثر مباشرة وأشد وضوحاً، أن يحلً محل الإقتصاد الرأسمالي quot;الإقتصاد المعرفيquot; المزعوم وليس الإقتصاد الإشتراكي بمقتضى الحتمية التاريخية كما رآها كثيرون وأولهم كارل ماركس؟؟
من المفيد هنا، وقبل أن نجيب على هذا التسـاؤل الهام جـداً، أن نقف مليّاً أمام فلسفة quot; المادية الديالكتيكية quot; لنشير إلى أن مؤسسَيّها، كارل ماركس وفردريك إنجلز، كانا قد أشارا إلى أن الصراع بين النقيضين الرئيسين في الوحدة الواحدة قد لا يصل في بعض الحالات النادرة إلى نهايته المحتومة، وهي الثورة، لوهن يعتريهما فيهمد ويموت النقيضان قبل الوصول إلى الثورة وما ينتج عنها من تحول نوعيّ في الوحدة الأصل. حدث هذا الأمر في نهاية المجتمع العبودي في الإمبراطورية الرومانية ـ وهَنَت طبقة السادة كما وهَنَت طبقة العبيد الذين لم ينجحوا في القيام بثورة تنهي عبوديتهم ومع ذلك انقرضت طبقة السادة كما انقرضت طبقة العبيد وتحولت المجتمعات الأوروبية بداية إلى النظام الإقطاعي وطرفاه طبقتان جديدتان كليّاً هما الإقطاعيون والأقنان.
مثل هذا الأمر حدث فعلاً في سبعينيات القرن الماضي.. أمسكت أزمة مصيرية بخناق النظام الرأسمالي الإمبريالي في العام 1971 لكن جبهة العمال العالمية كانت قد وهنت بفعل سيطرة العسكر ورجلها خروتشوف على قيادتها في موسكو واستنكفت عن استكمال الثورة الإشتراكية العالمية التي كان لينين قد أطلقها في العام 1921 وليس 1917 كما يشيع الاعتقاد، فكانت النتيجة الإنهيار العام في الجبهتين الرأسمالية والإشتراكية بذات الوقت ليحل محلهما quot; نظام quot; الطبقة الوسطى الذي يقوم على الإنتاج الفردي (Individual Production) غير الرأسمالي بالطبع وعلى ادعاء كاذب يقول أن quot; المعرفة quot; أو quot; التقنية quot; هي وسيلتها الخاصة في الإنتاج وتزعم أن آلة عالية التقنية تقوم بوظيفة مائة عامل كما زعم quot; معلقنا quot; الطبقوسطوي بغرض تكريس السيادة غير الشرعية المستجدة للطبقة الوسطى. ويلزم هنا أن نؤكد بصورة قاطعة في مواجهة مثل هذه المخادعة اللصوصية أن الطبقة الوسطى لا تمتلك quot; نظاماً quot;، أي نظام، على الإطلاق وذلك لأنها بكل بساطة لا تنتج ثروة. لقد وصفت بالوسطى لأن دورها في التاريخ منذ البدء هو خدمة الإنتاج والمنتجين وليس خلق الإنتاج أو خلق الثروة، وبالتالي فإن quot;نظامهاquot; سيضمحل ويتلاشى خلال فترة قصيرة جداً ودون أن تتجاوز هذه الطبقة وظيفتها التاريخية وهي خدمة الإنتاج حتى وهي تجترح مآثر التراسل والاتصالات ومختلف المعارف المتصلة بها. لو أن quot;نظامquot; الطبقة الوسطى الماثل الآن هو نظام حياة جديد مستقر كما يدعي مروجو مقولة quot;إقتصاد المعرفةquot; لظهر فيه طبقتان لم تعرفهما البشرية من قبل. لكننا ما زلنا نرى في quot;النظامquot; الجديد الطبقة العاملة بكل فعالياتها الإنتاجية بالإضافة إلى بعض فلول الرأسماليين كما أن الطبقة صاحبة النظام وهي الطبقة الوسطى ما زالت هي ذاتها وتقوم بنفس الدور في العملية الإنتاجية، أي إنتاج الخدمات. لن نتجرأ على الحقيقة بالقول أن المجتمع الإنساني قام أصلاً على الإنتاج السلعي المادي. فالخدمات المصرفية مثلاً تقوم عامة على إقراض الزبون لشراء سيارة أو ما شابه وتقوم خدمات التأمين على تأمين السيارة كما تتخصص خدمات الصيانة بصيانة السيارة. السيارة هنا هي موضوع كل هذه الخدمات المتنوعة، ولك أن تقيس على ذلك. من هنا يمكننا أن نستنتج حقيقة بالغة الأهمية ويجري تجاهلها بخبث وعن سوء قصد من قبل الإقتصاديين البورجوازيين ألا وهي أن الإنتاج السلعي الذي يقع على كاهل العمال والفلاحين حصراً يتكلّف بكل أكلاف الخدمات التي تنتجها الطبقة الوسطى حتى وهي تساوي أربعة أضعاف الإنتاج السلعي، العمال والفلاحون هم من يدفع كامل فاتورة الخدمات. الإدعاء الزائف بإنتاج المعرفة إنما تدعية الطبقة الوسطى تبريراً لإغراقها في هوس الإستهلاك وتعسفها في تحديد القيمة التبادلية لخدماتها بحجة أن هذه الخدمات حبلى بشتى المعارف ـ قامت الطبقة الوسطى بانقلاب لا شرعية تاريخية له فأصبح الخادم هو من يحكم السيد وهو من ينفق كل ثروة السيد على مفاسده وملذاته. على هذه الصورة يتشكل quot;النظامquot; الإجتماعي الماثل حالياً في كل دول العالم باستثناء جنوب شرق آسيا إلى حدٍ ما.
كي نتقبل مزاعم الطبقة الوسطى يترتب علينا أن نوافق على أن quot; المعرفة quot; المجردة بحد ذاتها هي وسيلة إنتاج مستقلة وهو ما لا يمكن الموافقة عليه. فليس من سبيل للاعتراف بأن quot; المعرفة quot; هي وسيلة إنتاج بحد ذاتها إلا إذا اعترفنا أن النظام الرأسمالي مثلاً بكل إنتاجه الضخم (Mass Production) كان خلواً من أية معارف بينما الحقيقة تقول أن النظام الرأسمالي قد أفرز معظم معارف البشرية المتداولة اليوم. بل إن كل المعارف التي تدعي الطبقة الوسطى إنتاجها لن تعود تساوي نقيراً إن لم تعتمد بشكل أو بآخر عـلى أبسط الأدوات التي كانت قد عرفتها البشرية في فجر العبودية الأولـى وهي quot;العَجَلةquot;. الهوية الحضارية لأي شعب بعينه هي جملة معارفه التي تتجسد في أدوات الإنتاج التي يستخدمها في إنتاج إحتياجاته. أدوات الإنتاج هي الوسيلة الوحيدة التي تمكن العمال من بيع طاقة الشغل فيهم في السوق. يرسلون منتوجاتهم إلى السوق وليس أدوات الإنتاج التي لا تدخل إلى السوق إطلاقاً إلا بما فقدت من تهرّؤ أو استهلاك (Wearamp;Tear). العامل الذي يعمل في مصنع يتقاضى أجره في النهاية من بدلات ما ينتج وليس من المصنع بذاته الذي يعود إليه العمال كل صباح فيجدونه على حاله دون أي تغيير والذي يجسد كل المعارف التي أنتجتها البشرية منذ فجر التاريخ. المعارف ليست وسيلة إنتاج قبل أن تتجسد في أدوات للإنتاج بأيدي العمال. على الطبقة الوسطى أن تعترف بأن المعرفة انبثقت أصلاً من أيدي العمال وعادت لتنتهي في أيدي العمال، وعلوم العالِـم التي لا تصل لأيدي العمال لا تساوي قطميرا.
الحقيقة الأولى التي يعتمدها الأنثروبولوجيون تقول أن الإنسان افترق عن مملكة الحيوان بالمعرفة. بدأ يعرف كيف ينتج حياته عن طريق استخدام أدوات الإنتاج الأولية كالعصا والحجر. وبالمحصلة فإن إنسانية الإنسان تتقدم مع تقدم أدوات الإنتاج والعكس صحيح أيضاً. ولذلك مرحل المؤرخون التاريخ بالنسبة إلى المادة التي تصنع منها أدوات الإنتاج فقالوا: العصر الحجري، العصر الحديدي، العصر النحاسي والعصر البرونزي..ألخ ما من أداة للإنتاج إلا وهي شكل من المعرفة (Knowledge Form) بدءاً من الإبرة وحتى الروبوت أو الكومبيوتر. أدوات الإنتاج هي الرحم الذي تتخلّق فيه كل المعارف المستجدة وذلك من خلال دخولها في تناقض مع من يشغلّها ممثلاً للوعي الإنساني. ومن هنا يمكن القول بأن الذين يشغّلون أدوات الإنتاج هم الطبقة التي تنتج المعرفة وليس الطبقة التي لا تتعامل مباشرة مع أدوات الإنتاج كالطبقة الوسطى. ثم لنا هنا أن نتمثل باكتشاف ماركس لشيوعية الإنتاج في النظام الرأسمالي. في نقده للإقتصاد الرأسمالي اكتشف ماركس أن الإنتاج فيه هو إنتاج جمعي أو مجتمعي (Associated Production) حيث أن كل المجتمع بكل أنساقه شارك في إنتاج كل المنتوجات الرأسمالية. ثمة أناس صنعوا المصانع وآخرون بنوا الأبنية وآخرون غيرهم ركبوا المصنع وغيرهم أنتج المواد الخام وهناك من نقل المصنع والمواد الخام وكل هذا سمح للعمال أخيراً بالقيام بعملية الإنتاج. وهكذا فإن المجتمع كله شارك في إنتاج هذا المنتوج الذي خلافاً لطبيعته المشاعية يمتلكه الرأسمالي بمفرده. كذلك هي المعرفة بل إن مشاعيتها تتجاوز مشاعية الإنتاج الرأسمالي حيث أنها ليست مشاعية اجتماعية فقط بل ومشاعية تاريخية أيضاً. فاكتشاف بنيامين فرانكلين للكهرباء قبل ثلاثة قرون شكل الأساس الأولي الذي يقوم عليه بناء كل أدوات الإنتاج المتطورة حالياً التي تعمل بقوة الكهرباء. ولا نجانب الصواب إذا اعتبرنا معرفة الإنسان الأول بالفأس الحجرية كانت نقطة الإنطلاق الأولى لنظرية أنيشتاين في النسبية. المعرفة مشاعة تاريخية شارك في إنتاجها كل أبناء البشرية ولا يجوز أن يمتلكها أي منهم مهما كانت أهمية مساهمته فيها.
حاول زعماء الدول الخمس الأغنى (G5) في مؤتمرهم الأول في رامبوييه نوفمبر1975 إنقاذ نظامهم الرأسمالي لكن وصفتهم (الروشتة) التي أعلنوها في (إعلان رامبوييه) لم تفلح بل سارعت فيما كان مقضياً وهو انهيار النظام الرأسمالي العالمي وانقضاء أجله. في العام 1978 وقد لاح في الأفق فشل وصفة رامبوييه بدأت قوى الإنتاج الرأسمالي بصورة عامة في الدول الخمسة ذاتها (G5)بالإضافة إلى كندا وإيطاليا بالتحول إلى إنتاج الخدمات وهو الإنتاج الـلارأسمالي بكل المقاييس، كما أخذت مؤسسة الدولة فيها تبعاً لـذلك تتحول (State Transformation) من دولة الرأسمالية إلى دولة الطبقة الوسطى، دولة الرفاه (Welfare State) كما وصفها علماء الإجتماع خلال ربع القرن الأخير.
في الحقيقة ليس من دور استثنائي مستجد للمعارف في التقدم وفي حقول الإنتاج. الجديد الطارئ الوحيد هو صعود الطبقة الوسطى إلى دست السلطة وهي الطبقة التي تنتج الخدمات وعصبها quot; المعرفة quot; ومن هنا باتت صيحة quot; إقتصاد المعرفة quot; هي الطاغية بالرغم من أن quot;المعرفةquot; ليست مؤهلة لدخول السوق وليست من اقتصاديات السوق على الإطلاق ولن تفلح منظمة التجارة العالمية(WTO) من خلال تشريع quot; حق quot; الملكية الفكرية في تأهيل quot;المعرفةquot; لدخول السوق كصنم يستحضر لذاته قيمة تبادلية. وليس أدل على ذلك من حكاية الصين القديمة عن سر صناعة البورسلان وبالمقابل حكاية الصين الحديثة عن حق امتلاك برامج الكومبيوتر. وعلينا هنا تحديداً أن نشير إلى أن كل المعارف بكل أشكالها وألوانها التي تتبجح الطبقة الوسطى بإنتاجها واستنباطها إنما هي في النهاية الإنتاج الجانبي لشغل أدوات الإنتاج الذي هو من اختصاص الطبقة العاملة حصراً. إنها الشرر المتطاير من رأس أداة الإنتاج التي تتعامل مباشرة مع مادة الشغل. الطبقة الوسطى وبحكم اختصاصها الخدمي تجمع من هذا الشرر المتطاير شعلة المعرفة بكل اشتعالاتها. ومع ذلك تدعي امتلاكها أولاً وأخيراً في تبرير وحيد لخلافتها الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية من ورائها في قيادة المجتمع وتقرير مصيره؛ وهي تقوده اليوم إلى مهاوي التهلكة.
المأزق الذي تواجهه الطبقة الوسطى وتواجهه معها كذلك الآن مختلف أمم الأرض هو أن quot;أسلوب الإنتاجquot; المدعى به، أي المعرفة المجردة قبل تجسدها في أدوات الإنتاج، ليس أسلوباً للإنتاج ولا يجلب ثروة قابلة للتبادل. لنأخذ أبسط أدوات الإنتاج كالإبرة مثالاً على ذلك.. الإبرة هي شكل من أشكال المعرفة.. سلك قصير أملس من الفولاذ الصلب طرفه رفيع حاد يخترق القماش وطرفه الآخر مثقوب ليحمل خيطاً في حركته. مثل هذه الأداة يستخدمها الإنسان في خياطة ملابسه لكن في الوقت الذي لا تستخدم هذه الأداة في الخياطة لا تكف عن أن تكون quot; إبرة خياطة quot; أي أن المعارف التي تمّ توظيفها في السلك الفولاذي ليكون إبرة خياطة لا تنفصل عنه ليتم توظيفها في أداة أخرى وهي لا تقبل التوظيف مجتمعة في أي أداة أخرى وهو ما يعني أن كل هذه المعارف الخاصة بإبرة الخياطة غدت مشاعاً لا قيمة لها. فعندما يتم تبادل الإبرة في السوق تتحدد قيمتها التبادلية بالنظر إلى كلفة صناعتها دون أدنى اعتبار للمعارف المختزنة فيها والتي عيّنت شكلها في النهاية. اشتغل بنو الإنسان بشكل متواصل مليون عاماً وربما أكثر حتى توصلوا لاختراع أداة إنتاج في غاية البساطة كالإبرة. فمن من الأجيال المتلاحقة عبر التاريخ يستحق مكافأة إختراع الإبرة؟!!
قلنا أن الطبقة الوسطى وبحكم تخصصها في إنتاج الخدمات تقوم بتجميع الشرر المتطاير من رأس أدوات الإنتاج المتعاملة مباشرة مع مادة الإنتاج في شعلة معرفية. المعارف التي تشعلها الطبقة الوسطى لا تتجسد جميعها في أدوات أكثر تطوراً للإنتاج والكثير منها يذهب هباء فتكبد المجتمع خسارة تساوي كلفة إنتاجها. لقد ذهب بعض المحللين والإحصائيين إلى القول بأن 85% من تقنيات التراسل ومثيلاتها الحديثة لم يتم توظيفها في الإنتاج. العمال وفلول الرأسماليين هم من تحمّل كلفة إنتاج كل هذه المعارف المهدورة.
ربّ من يتساءل هنا معترضاً.. لو أن نظام الإنتاج الرأسمالي وظف كل هذه المعارف المهدورة في تطوير وزيادة الإنتاج أفلا تستحق الطبقة التي أنتجت هذه المعارف مكافأة لقاء ذلك؟.. ولئن كان الجواب بالإيجاب ألن تكون المعارف إذاك وسيلة إنتاج قائمة بذاتها؟ الجواب ليس بالإيجاب. فالطبقة التي أنتجت (ظاهرياً) المعرفة، وهي الطبقة الوسطى، لا تستطيع أن تنقل معارفها إلى عملية الإنتاج ما لم تقم بداية في خدمة الإنتاج، والأجور أو المكافآت التي تتلقاها عندئذٍ تصرف لها لقاء الخدمة وليس لقاء المعرفة التي تنتقل إلى أدوات الإنتاج عبر الخدمة. لا يستطيع الإنسان أن يعمل في الإنتاج دون أن يعرف. الرأسمالي لا يستطيع أن يزاحم ويتمدد بغير المعارف اللازمة، والبروليتاري لا يستطيع أن يصطف على خط الإنتاج دون أن يعرف مقتضيات عمله. ما يجري تقسيمه في عملية الإنتاج هو العمل وليس المعرفة ـ نؤكد، العمل وليس المعرفة. أن تقوم الطبقة الوسطى بفرز المعرفة من العمل كحصة خاصة بها وحدها وسلخ الجهد العقلي (Mental Labour) عن الجهد اليدوي (Manual Labour) إنما هو جهد ضائع وغاية لا تدرك. الجهد الإنساني الذي يتحول إلى إنتاج إنما هو مركب من عنصرين لا ينفصلان هما الجهد العقلي والجهد اليدوي، إنه كالماء إذ لا يعود ماءً إذا ما انفصل عنصر الأوكسجين فيه عن عنصر الهيدروجين. ما يباع ويشترى في الأسواق إنما هو جهود العمال التي quot; خلقت quot; السلعة من عناصر الطبيعة المشاع مهما اختزنت السلعة من معارف وتقنيات.
وأخيراً فإن شعار quot; إقتصاد المعرفة quot; إنما هو شعار إقصائي تفوح منه رائحة الفاشية ولا يقصد منه أصحابه إلا هزيمة الطبقة العاملة أولاً وطبقة الفلاحين من ورائها وهؤلاء وأولئك هم وحدهم من يطعم العالم خبزه اليومي.
فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01
التعليقات