قبل أن نبدأ بتناول العلاقة بين الزعامة والمؤسسة في إطار السلطة السياسية، لابد من تحديد المعني بهذه الأخيرة؛ لأنه في ضوء هذا التحديد يمكن تلمّس ابعاد وملامح العلاقة المعنية في صيغتها المشخصة. فالسلطة السياسية في المجتمعات الديمقراطية تستمد مشروعيتها من إرادة الناخبين الأحرار الذين يمنحونها الثقة، شرط التزامها ببرنامج واضح معلن. وهي خاضعة للمتابعة والمساءلة والمحاسبة، فيما إذا دعت الحاجة. أما في المجتمعات اللاديمقراطية فهي منتزعة بالقوة - بكل معانيها- وينظر إليها على انها حق طبيعي، يكتسب مشروعيته من امكانية المحافظة والاستمرار في التمتّع بمزاياه. ولتحقيق هذا الأمر تلجا سلطة كهذه إلى كل أساليب عزل الخصوم الفعليين والمحتملين، وابعادهم بمختلف الأشكال عن دائرة النفوذ التي من شأنها تهديد مستقبل التفرّد بالسلطة.


وبين هذين النزوعين، توجد جملة من التداخلات التي يميل بعضها نحو الديمقراطية، في حين ان بعضها الآخر يصادر على احتمالاتها، ويتخذها غطاء للتعمية، وترسيخ سلطة التفرّد.
إن دولة المؤسسات الفاعلة تظل النموذج المحمود المبتغى للناس؛ مؤسسات راسخة، تعمل بموجب قوانين مصاغة بإرادة حرة، مبنية على الإتفاق في سياق عقد اجتماعي، يتلمّس الحاجات العامة، ويعبر عنها، ويمهّد الطريق أمام استقرار وتقدم يستفيد منهما الجميع. وقد تمكنت جملة من المجتمعات من بناء هذه الدولة - مع بعض النواقص والمثالب هنا وهناك - في حين انها ما زالت بالنسبة إلى مجتمعات أخرى بمثابة الحلم الجميل، البرج عاجي.


ولكن اللافت في الموضوع هنا، هو لجوء سلطات العديد من المجتمعات إلى فكرة دولة المؤسسات من باب الترويج والتعمية، بهدف ترسيخ السلطة عبر إيهام الداخل، وتضليل الخارج، وإفراغ الجهود الجادة في ميدان العمل الديمقراطي من محتواها. إننا إذا تركنا دائرة التعميم وشأنها، وتناولنا الحالة العراقية المشخصة، نجد فيها تشابك العديد من التوجهات التي لم تتمكن بعد من التأسيس للعملية الديمقراطية المنشودة. وهنا لابد أن نأخذ بعين الاعتبار تأثير جملة العوامل الاقليمية والدولية التي تتفاعل مع العملية برمتها، وتساهم في دفعها نحو التباطؤ أو التسارع، وذلك وفقاً لمدى عمق واتساع نطاق التأثير الوافد، ودرجة التناغم الداخلي معه. فمع سقوط النظام الدكتاتوري، بشّر الجميع بولادة نظام ديمقراطي، كان ومازال الحل الأمثل لحزمة المعضلات التي فرضها النظام السالف، أو عجز عن حلها؛ بل عقدّها عبر إضافة المزيد من المشكلات الفرعية إليها؛ لكن الذي حدث هو أن مختلف الأطراف سعت من أجل بلوغ مآربها الخاصة، بمعزل عن المشروع الوطني المتكامل الذي من المفروض أنه يمثّل الحاضنة الكبرى القادرة على ضم الجميع. وما عزز هذا التوجه أكثر هو انعدام روحية الثقة بين مختلف الأطراف، وذلك بفعل التجربة المرة مع النظام السالف من جهة، وتعددية الأحلاف الاقليمية من جهة اخرى، الأمر الذي جعل الساحة العراقية ميداناً لتصفية حسابات لا تخدم العملية الديمقراطية عراقياً، تلك العملية التي ما زالنا نعتقد بأنها ستكون - في حال نجاحها- الخطوة الأهم في عملية دمقرطة المنطقة بأسرها. وقد أدى التراجع الحاصل في المشروع الوطني العراقي نتيجة تشابك وتفاعل العوامل الداخلية والاقليمية إلى انحسار دائرة الوهج التفاؤلي الذي احاط بعلمية التغيير في العراق، وما تمخض عن ذلك تجلى في تراجع الثقة بالمؤسسات الوطنية التي باتت فسحة للمجاملة والمناورة، في حين أن المؤسسات الفرعية من طائفية وعشائرية وغيرها غدت هي موئل القوة الفعلية، ومطبخ القرارات المعبرة عن إرادة القوى التي من المفروض أنها تعمل معاً لاستكمال مستلزمات مشروع التغيير الديمقراطي الوطني في العراق.


وبطبيعة الحال، فإن وضعية كهذه تفسح المجال أمام الزعامات المختلفة لتحديد إطار وسقف عمل المؤسسات المعنية؛ بل إننا لانجانب الصواب إذا قلنا أن المهمة الأساسية التي انيطت بالمؤسسات الفرعية هذه قد تحددت بمباركة توجهات الزعماء، ودعمها وتسويقها، بعيداً عن المناقشة والنقد، فضلاً عن المساءلة والمحاسبة. وكل ذلك مؤداه تراجع الثقة المحلية بالمؤسسات الفرعية ذاتها، والتعويل على شبكة العلاقات المتحورة حول الزعماء. وفي إطار هذه الشبكة تضمحل الشفافية، ويزداد الاعتماد على المقربين الذين يُفترض فيهم الثقة والمصداقية. ويغدو الإنقياد السلبي هو الأساس، في حين يُعد كل خروج عليه تهمة تستدعي التوجس والتحسب، إن لم نقل الإقصاء والمحاسبة.


والأنكى من هذا وذاك، هو أن يغدو الولاء المطلق للزعيم هو المعيار في بيان مدى صلاحية الشخص للموقع، الأمر الذي يشرعن الفساد، ويُسبغ عليه هالة سلطوية، تدفع بالناس نحو الإنزواء أو التذمر أو السعي من أجل إيجاد وسيلة تمكنهم من التكيّف مع السائد غير المستساغ. وفي وضعية كهذه، تغدو مؤسسات الحكم من تشريعية وتنفيذية وقضائية موضع تندر الناس وتهكمهم؛ وفي أفضل الأحوال تكون أداة لإضفاء جانب من الشرعية على ما يجري. ولتجاوز مثل هذه الحالة، لابد من وجود مشروع وطني متكامل، يحترم الخصوصيات، ويمتلك الثقة والمصداقية عبر إرادة وممارسات من يمثلوه؛ مشروع يؤكد بالفعل قبل القول أهمية القطع مع العقلية الإبعادية والتسلطية، ويسد كل الطرق أمام الدكتاتورية؛ مشروع لا يستقوي بالخارج على أبناء الوطن؛ و لا يعتمد المجاملات الخاوية، والكياسة الصفراء أساساً لحل جملة المشكلات التي أفرزتها السطلة الدكتاتورية السالفة، بل يلتزم الحلول الواقعية التي تقوم على ركيزة جوهرها رفع المظالم، وتعويض المتضررين، وترسيخ جذور الثقة، بعيداً عن إثارة المشاعر والعواطف الهوجاء التي تؤدي إلى تراكم الأحقاد، وتعميق الإحساس بالتحسب والخشية من النوايا المبيّتة.


إن الحالة العراقية معقدة من دون شك نتيجة أسباب عدة من أهمها، أنها تمثّل المفصل الحاسم بين القوى الرسمية المناوئة للديمقراطية في المنطقة، والأخرى التوّاقة إليها، العاملة من أجلها. لذلك ستكون الصراعات دامية ومكلفة؛ لكنها ستكون في نهاية المطاف لصالح المشروع الديمقراطي، هذا فيما إذا استوعبت قوى المشروع المعني ابعاد الصراع وحيثياته، ولم تنجر إلى الصراعات المفتعلة؛ ولم تنطلِ عليها أحابيل دغدغة المشاعر الطائفية والمذهبية والقومية؛ ولم تقتنع بالفتات المعروض عليها من قبل القوى الاقليمية المتربصة بالجميع، المعادية للتغيير.


إن الحالة العراقية الراهنة، على الرغم من التشنجات والتجاذبات الجارية في الجوار الاقليمي، هي في واقع الأمر من مظاهر المخاض العسير التي تبشر بولادة جديدة، تقطع مع عهود الظلام والتسلط. إلا أن كل هذا الأمر لن يتحقق من دون وجود قوى فاعلة، قادرة، حريصة على المشروع الوطني الديمقراطي، هذا المشروع الذي يستمد قوته من المؤسسات المعبرة بصدق عن إرادة المواطنين، مؤسسات يتلقى منها الزعيم المشروعية والقوة، ويحترم ارادتها عبر الإلتزام بقراراتها، والاستعداد الدائم للمثول أمامها، سواء لعرض الخطط والبرامج أم للمساءلة والمحاسبة.

د. عبدالباسط سيدا