كما يعلم الإخوة و الأخوات القراء من متابعي هذه الصفحات أنني و منذ سنوات أكتب هنا، و في غير موقع، و في مواضيع عديدة أهمها في الشأن العراقي و آلام و هموم الإخوة العراقيين، فالعراق بالنسبة لي حب و عشق و همٌّ و ألم و هيام. أبكي كل يوم على كل من يسقط من شهداء العراق على أيدي الكفر و التكفير و همجية من يرغبوا في إعادة هذا البلد العظيم إلى الوراء. هؤلاء هم أعداء الإنسانية و المحبة و الوفاق و التقدم و الإعمار. فأنا أيضاً، مثل كل الإخوة في العراق، فقدت أكثر من عزيز عليّ من العراقيين الذين سقطوا شهداء الغدر و الإرهاب و الحقد الأعمى.
في عام 2005 كتبت سلسلة مقالات هنا حاولت فيها تحليل الوضع في العراق آنذاك و ما قد تؤول إليه الأوضاع وقت التصويت على الدستور و بعدها الإنتخابات. في تلك الفترة، ناقشت طويلاً موضوع الفيدرالية في العراق حيث قدمت حينها نصيحة حول هذا الخيار الإستراتيجي للعراق و حمايته من مخاطر كثيرة. غضب بعض القراء و أثنى آخرون على هذه الفكرة التي كانت حديثة العهد و لم يجروء كثيرون على طرحها.
و لتذكير القراء بما طرحت في مقالة كتبتها في تلك الفترة (و من يرغب بالعودة إليها كاملة يعرف طريقها بالبحث في موقع إيلاف)، و أقتبس هنا من مقالتي تلك:
quot;... يواجه العراقيون قرارات صعبة جداً بشأن مستقبلهم. إذ إن التنازلات ممكنة فقط عندما يقر العراقيون بأن الدستور الدائم سوف يصون اهتماماتهم الأساسية.
.... بدأ العديد من الأطراف بحشد طاقاتهم و إمكانياتهم لعدم التصويت على مسودته او التصويت ضده، فقط بسبب كلمة الفيدرالية، وهم غير فاهمين لهذه الفكرة أبدا، متناسين أن غالبية دول العالم تعيش في نظام فيدرالي. وهذا خطأ آخر يقعون فيه...
...أما بالنسبة للفيدرالية، فهي من أنسب الحلول لمعالجة مشاكل العراق و تعقيدات مكوناته. وبالإستناد إلى المعايير الجغرافية لا العرقية وبغية تعزيز الشعور بين العراقيين بأنهم يديرون شؤونهم الخاصة بأنفسهم فإنه ينبغي تقسيم العراق إلى خمس أو ست حكومات فيدرالية تكون بغداد إحداها. مع وجود حكومة مركزية تدير شؤون الدولة العسكرية و الأمنية و العلاقات الخارجية و المالية الرئيسية، وينبغي أن تتألف كـل حكومة إقليمية فيدرالية مما لا يقل عـن ثلاث محافظات.....
... هذا النموذج من الفدرالية لو تم تطبيقه بشكل صحيح سيخدم العراق بشكل عام، إذ أن هناك نص فيه يقضي بإمكانية منع الإنفصال عن الوطن الأم إذا ما صوت ثلثي ناخبي ثلاث محافظات ضده، ويعتبر هذا صمام أمان، إذ لا يمكن لأي إقليم أن ينفصل عن الوطن إذا ما عارض ذلك ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات أخرى. وهذه الإمكانية موجودة لدى السنة الذين يمكن أن يصوتوا ضد أي انفصال لو اتفقوا في ثلاث محافظات على الأقل، مثل الأنبار و ديالى و صلاح الدين و نينوى وغيرها...quot;.
إنتهى الإقتباس.
أستذكر هذا الكلام الآن إذ أتيحت لي فرصة رائعة لزيارة إقليم كوردستان مؤخراً و متابعة نقاشات جرت على أعلى مستويات مسؤولي الدولة و البرلمان في الحكومة العراقية المركزية و حكومة إقليم كوردستان للتباحث في موضوع الفيدرالية العملية في العراق.
رغم عقود طويلة من الإضطهاد و القمع و الحرمان و حملات الإبادة، رأيت في كوردستان شعباً يمثل رقياً عالياً في التعامل و التعايش و التسامح و نظرة متفائلة ببناء الدولة الحديثة، و نضجاً سياسياً واضحاُ يعكس فكراً حديثاً و قوياً في فن التفاوض و الطرح الواضح للأهداف المبنية على الثقة بالتأريخ و النضال الطويل المرير على أرض الوطن لبلورة نفحة أمل دافئة بالمستقبل المنشود بناؤه على تلك الأرض الطاهرة التي إرتوت بدماء الشهداء على مر العصور، و أكمل الطغاة مسلسلهم بمحاولة مسح تلك الدماء بكيماويات الدمار الشامل.
لكل إنسان على وجه الأرض الحق بالعيش الكريم بحرية و كرامة و إحترام لكافة حقوقه، هذا الحق الذي حاول الطغاة حرمان الإخوة في كوردستان منه، يجب أن يستقر و يثبت الآن و للأبد.
كوردستان الحب و الأمل و الجمال و التسامح يستحق أن يعيش في أمن و سلام ليبني لأبناءه حياة كريمة مستقلة و هانئة و مستقرة.
من هذا المنطلق، فإن العراق كله، متعدد الألوان و الأطياف و الأصول و الأعراق و اللغات لن يجد حلاً للتعايش و التسامح و التقدم و التطور أفضل من خيار الفيدرالية، لرسم تلك اللوحة الجميلة من فسيفساء أبناءه. فاختلاف الأشكال يعني التنوع، و هذا التنوع يشكّل جمال الصورة.
الإخوة في كوردستان العراق، الذين نقشوا في ألواح التأريخ نضالهم الطويل، بدأوا في ترجمة أملهم و تحقيق حلمهم الطويل منذ ستة عشر عاماً. قبل أيام، رأيتهم و إخوانهم العراقيين الآخرين من كافة الإنتماءات، يخطون صفحة جديدة في تاريخ العراق العظيم.
لن أدخل في تفاصيل النظام الفيدرالي فهذا الأمر الوحيد الذي يجب أن يدرسه و يتفاوض حوله كافة أبناء العراق، بكل توجهاتهم و إنتماءاتهم و أحلامهم، حتى يعود للعراق الأمن و الإستقرار و تبدأ عجلة التقدم بالدوران لإعادة الإعمار و التطور.
سأنهي كلامي هذا بالدعوة من كل قلبي أن ينخرط العراقيون في هذا التحدي لمواجهة كل اشكال القمع و الإرهاب، و أشد على أيدي كل من قام بهذه المبادرة التأريخية و من معهم و يدعمهم ويسير في هذا الركب.
قبل ايام، رأيت بأم عيني تأريخاً نضالياً طويلاً حفر في جبال و وديان و سهول كوردستان، و اليوم و من خلال معرفتي بالقائمين على هذا المشروع الوطني العظيم، أرى أمامي حلماً كبيراً و نموذجاً للمنطقة حولنا و للعالم أجمع ليقولوا له أن التأريخ سيصنع بقوة من هناك و يحفر في ذاكرة العراق لطرد أي فكرة طاغية أو ديكتاتورية أو إستبدادية إلى الأبد، لتسجل لهم نقوشاً في صدر التاريخ.
أكثم التل
كاتب و صحفي أردني ndash; مستقل
[email protected]
التعليقات