الفساد آفة تكاد تضرب مجتمعاتنا الشرقية برمتها، بسبب أن معظم أنظمة الحكم في شرقنا المتوسطي، هي أنظمة قمعية دكتاتورية تسلطية تعتبر نفسها دائما فوق القانون فتتساهل مع الفساد، وتغض الطرف عن المفسدين طالما أنهم وسيلتها أو أداتها لتشديد قبضتها على الحكم وإبقاء سيطرتها على مقدرات الدولة..


والفساد كظاهرة إجتماعية تنخر بنيان الدولة، خصوصا عندما تنتشر في مؤسساتها، وقد لا تخلو دولة من دولنا المتوسطية من هذه الظاهرة وإن بدرجات متفاوتة بين هذه وتلك، وقد تضطر بعض الأنظمة تحت ظل ضغوطات داخلية أو خارجية للإعتراف بوجود حالات الفساد في أجهزتها ومؤسساتها، وتعد بمحاربتها، ولكن في المحصلة قد تكون القوة أو الجهاز المكلف بمحاربة الفساد ذاتها فاسدة مفسدة، لأن الفساد يكون في هذه الحالة، حالة عامة ومتجذرة في الأرض يكون من الصعب القضاء عليه كما حدث ويحدث في العراق وإقليم كردستان اليوم..


فقد إعتدنا كثيرا أن نسمع من قادتنا ومسؤولينا إعترافهم بوجود الفساد في أجهزة الحكومة أو الدولة، ولكن هؤلاء لا يتجرأون بمحاربته والقضاء عليه لسببين، إما لأنهم رأس المفسدين بذاتهم، أو لأنهم يعجزون عن التصدي للمفسدين لعوامل قد تكون لها علاقة بمصالح حزبية أو شخصية!..


يروى أن أحد الساسة الكبار في العهد الملكي بالعراق ذهب الى السوق لشراء بعض السمك..فوقف على عربة متجولة تبيع الإسماك وأخذ يفحص ذيل السمكة.. فإندهش البائع من ذلك وسأله: حضرة الباشا، الناس يفحصون رأس السمكة لمعرفة ما إذا فسد، وأنت تفحص ذيلها؟!. فأجاب الباشا: أعرف يا بني، ولكني أريد أن أتأكد ما إذا وصل الفساد الى ذيلها، لأني متيقن بأن الرأس قد فسد!!.
في كثير من مقالاتنا وأحاديثنا نسمع بوجود الفساد في أجهزة الدولة أو الحكومة، ولكن ما هو تعريفنا للفساد؟؟..


أعتقد أن هناك خطأ واضح في هذا التعريف، فقد إعتدنا أن نعتبر حالات الفساد في مؤسسات الدولة ضربا من مخالفات إدارية بسيطة، كأن يستغل موظف في الحكومة منصبه للإثراء السريع، أو تلقي الرشوة، أو الحصول على عقود المقاولات والمشاريع الحكومية، أو الإتجار غير المشروع بإستغلال الوظيفة، أو الإختلاس،أو سرقة أموال الدولة،وكل ما سيحصل عليه الوزير أو المسؤول الفلاني من أموال مسروقة أو مختلسة أو مكتسبة بطرق غير شريفة عبر إستغلال منصبه سيكون من حر ماله وحلاله بمجرد أن يخرج أو يطرد من الوزارة أو الوظيفة لينعم بقية حياته بذلك المال المسروق أو المختلس؟!


وفي معظم الحالات ينجو هؤلاء المفسدون من التبعات القانونية على ذلك الكسب غير المشروع أثناء الوظيفة، بإعتبارها مخالفات إدارية بسيطة، في حين أنها جرائم كبرى بموجب القانون يفترض أن يعاقب عليها وتصادر الدولة أمواله المنقولة وغير المنقولة، لأنها أموال مسروقة.
فقانون العقوبات العرقي المعمول به في العراق وكردستان فرض الكثير من العقوبات على تلك الحالات التي يعتبرها جرائم ضد القانون.


فنحن نعلم بأن سرقة أموال الدولة من قبل أي موظف مكلف بخدمة عامة وصولا الى الوزير تحتاج الى تغيير مستندات أو التلاعب بها لكي يتمكن ذلك الموظف أو الوزير من إختلاس أو سرقة جزء من أموال الدولة المودعة بحوزته وتحت تصرفه، سواء كانت ميزانية مخصصة للدائرة أو الوزارة التي يعمل بها، أو كانت أموال مخصصة لعقود المشاريع التي تقوم الحكومة بتنفيذها منفردة أو مع الشركات. وهذه العملية تعتبر تزويرا في مستندات رسمية، والقانون العراقي يعاقب بموجب المادة 289 حالات التزوير بالسجن خمسة عشر عاما. ويثني العقوبة بموجب المادة 319 التي تنص على أن quot; يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنين، أو بالحبس كل موظف أو مكلف بخدمة عامة إنتفع مباشرة أو بالواسطة من الأشغال أو المقاولات أو التعهدات التي له شان في إعدادها أو إحالتها أو تنفيذها أو الإشراف عليهاquot;.
وتنص المادة 335 من قانون العقوبات العراقي على أنquot; يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنين أو بالحبس، كل موظف أو مكلف بخدمة عامة إستغل وظيفته فإستولى بغير حق على مال أو متاع أو ورقة مثبتة لحق أو غير ذلك مما وجد بحيازته بسبب وظيفته أو سهل ذلك لغيرهquot;، ونحن نعلم بأن الجزء الأكبر من الأموال المختلسة والمسروقة من الدولة هو من الميزانية المخصصة للدائرة أو الوزارة أو المخصصة للمشاريع والمقاولات، وهنا ينطبق عليه نص المادة بإعتبار أن إستغلال الوظيفة قائم للإستيلاء على مال أو متاع مثبت لحق.


وطبعا فإن سرقة الأموال العامة أو الإختلاس تحتاج الى الغش في المحررات الرسمية، وهذا الغش أيضا يعاقب عليه القانون بموجب المادة 326 الذي ينص على أن quot; يعاقب بالحبس أو الغرامة كل موظف أو مكلف بخدمة عامة أخل بطريق الغش أو بأية وسيلة أخرى غير مشروعة بحرية أو سلامة المزايدات أو المناقصات المتعلقة بالحكومة أو المؤسسات أو الشركات التي تسهم الحكومة بمالها بنصيب أو التي تجريها الدوائر الرسمية أو شبه الرسميةquot;. فهل هناك حاجة لتوضيحات عن كيفية وصول المقاولات أو المزايدات أو المناقصات الى أيدي بعض المحسوبين على الحكومة، هذا إذا لم نقل بأن الكثيرين من مسؤولي الحكومة أصبحوا يمتلكون شخصيا أو عن طريق أقاربهم لكل أو جزء من شركات المقاولات العاملة في مجال المشاريع التي تطرحها الحكومة؟!.


ولتحقيق الإثراء السريع من خلال الحصول على المال العام بطرق غير شرعية، يحتاج الأمر الى ( الإحتيال) وهو أيضا جريمة قانونية وفق المادة 456 الذي ينص على أنquot; يعاقب بالحبس كل من توصل الى تسلم او نقل حيازة مال منقول مملوك للغير لنفسه او شخص آخرquot; عن طريق الإحتيال.
وتندرج جميع هذه الجرائم التي يرتكبها الموظف في الحكومة في إطار جريمة أكبر وهي ( خيانة الأمانة). وقد نصت المادة 453 على أنquot; كل من اؤتمن على مال منقول مملوك للغير أو عهد به إليه بأية كيفية كانت أو سلم له لأي غرض كان فإستعمله بسوء قصد لنفسه أو لفائدة شخص آخر أو تصرف به بسوء قصد يعاقب بالحبس أو الغرامة.


قبل أيام عندما فجرت منظمة هيومان رايتس ووتش فضيحة سجون الأمن في كردستان وحالات التعذيب المنهجي التي جرت فيه والتي شوهت سمعة شعبنا وتجربته (( الديمقراطية؟؟؟؟؟!!!!!!)، بدأ الكثير من الكتاب يكتبون في الصحف مقالات منددة بالسلطات الأمنية، وصدرت تصريحات من عدة أطراف تستهجن ما حصل ويحصل في تلك السجون والمعتقلات التي تشير بعض الروايات الى أن ما يحصل في دهاليزها يفوق كثيرا ما أورده تقرير تلك المنظمة الإنسانية، ولكن تغافل الكثير من الكتاب والمثقفين الذي كتبوا أو علقوا على تلك الفضيحة المدوية عن الجانب القانوني في تلك المخالفات.


فتنص المادة 333 من قانون العقوبات العراقي على أنهquot; يعاقب بالسجن او الحبس كل موظف او مكلف بخدمة عامة عذب أو أمر بتعذيب متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الإعتراف بجريمة أو للإدلاء بأقوال أو معلومات بشانها أو لكتمان أمر من الأمور أو لإعطاء راي معين بشانها،ويكون بحكم التعذيب إستعمال القوة والتهديدquot; ولعل هذه الفقرة الأخيرة هي الغاية التي نريد الوصول اليها في هذا المقال، فبعد كشف الكثير من حالات التعذيب من قبل منظمة هيومان رايتس ووتش في سجون الأمن الكردية، هل سيتم إحالة المتهمين المكلفين بالخدمة العامة في تلك السجون الى المحاكم لينالوا جزائهم العادل جراء ممارستهم التعذيب ضد أولئك السجناء بشكل مخالف للقانون السائد، أم سيتم التغاضي عنهم، هذا إذا لم تكرمهم الحكومة عل تلك المخالفات الصريحة للقانون الذي يطبقونه على أولئك المتهمين والمحتجزين في تلك السجون؟!.


أعتقد ان الذين يدعون الى سيادة القانون، ويطبقونه لحجز وإيداع الناس في السجون والمعتقلات، هم أولى بتطبيق القانون على أنفسهم لتحقيق العدالة المفقودة في كردستان؟!.
أما المفسدون الذين يصادرون أقوات الناس بإستغلال وظائفهم ومواقعهم، ويسرقون المال العام في وضح النهار، فالقانون يجرمهم حسب النصوص التي أشرنا إليها وعلى الحكومة التي تدعي أنها تسير لبناء المجتمع المدني وتعمل من أجل سيادة القانون أن لا تتعامل مع القانون بمعايير مزدوجة، وأن تبادر على تطبيقه على موظفيها المفسدين أولا قبل أن ينجو هؤلاء بأفعالهم المجرمة.


ما أوردناه في هذا المقال غيض من فيض، وقد يكون للحديث صلة..

[email protected]