الحاج راضى ، حلاق المحلة، الى جانب مهنة الحلاقة كان يمارس طب الأسنان. فقد كان يقلع السن المؤلم سواء أيجب قلعه ام لا. ويقوم بأعمال طبية اخرى مثل الختان وتضميد الجروح. وحتى من يشعر بالصداع يذهب الى الحاج (ليقرأ) على رأسه فيزول عنه الصداع، وهو فى نفس الوقت (مجبرجى) لتجبير الكسور والعظام، ويجيد حتى كتابة الأدعية (التعويذات) بلغة غير مفهومة، فيعيد الزوجة المنفصلة الى زوجها، ويزوج العانس التى كادت ان تصل الى سن اليأس. كل هذا وهو بالكاد يستطيع ان يكتب اسمه.
كان ذلك فى نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، وفى يوم من الأيام نشبت معركة بالبنادق بين عشيرتين جنوب بغداد، فقتل من قتل وجرح من جرح، وكان من بين الجرحى ابن احد الشيوخ الذى قد اصابته طلقة استقرت فى معدته. لم يستطيع الشيخ أخذ ولده الجريح الى المستشفى لأنهم سيطالبونه باذن من الشرطة قبل علاجه، والشيخ لا يريد ان تعرف الشرطة شيئا عن المعركة فأبقاه فى البيت وعالجوه بما تيسر من أعشاب ولكن حالته ازدادت سوءا.
ثم تذكر احدهم الحاج راضى فأرسل الشيخ فى طلبه لمعالجة ولده. وافق الحاج راضى بعد ان وعدوه ب(اكرامية) كبيرة. أخذ معه حقيبته التى تحتوى على الأدوات( الجراحية) وغيرها مما كان يحتاجه فى مثل هذه الحالات. دخل الحاج الى غرفة الجريح يصحبه الشيخ ومعهما عدة أفراد من العشيرة لمراقبة العملية. طلب الحاج منشفة صغيرة وفرشها ووضع عليها السكاكين والمقاصيص وغيرها بعناية، بعدها طلب من أحد الحاضرين الكشف عن بطن المريض ورفع الضمادات فبان ثقب البطن وقد التهب وتورم.
شمر الحاج عن ذراعيه وانتقى سكينة كبيرة، وقال بصوت عال : بسم الله الرحمن الرحيم، وشق شقا طوليا وبانت المعدة، ففتحها ومد يده بداخلها واستخرج الرصاصة وقدمها بكل فخر الى الشيخ الذى لم يرفع عينيه عن ولده المحتضر. صرخ أحد الحاضرين بأن الجريح قد مات، وأخذ يسب الحاج ويضربه والحاج يقول انه قام بما طلب منه ان يقوم به وأخرج الرصاصة، وأن الأعمار بيد الله.
تذكرت هذه القصة وقارنتها مع حالتنا حيث قام بعضنا بطلب المساعدة من الأمريكان لتخليصنا من حكم صدام وزمرته، فعلوا ذلك وتخلصنا من صدام، ولكن البلد تخرب وقتل من قتل وتشرد من تشرد وأخذ بعضنا يترحم على أيام صدام على علاتها.
ان الأمريكان يشبهون الحاج راضى الى حد كبير، فقد نجح حاج راضى باخراج الطلقة ولكن المريض مات. مات لأن الحاج لا يعرف تجهيز المريض للعملية ولا يعرف شيئا عن التعقيم ولا خياطة الجروح. الأمريكان مثل الحاج، فهم لم يستعدوا الاستعداد الكامل للمعركة، ولا خططوا لما بعدها، ولا فهموا نفسية العراقيين، ولم يدركوا عمق الخلاف الطائفي الذى كان فى تراجع، وتأجج بعد دخولهم. وأصابنا ما اصاب ابن الشيخ المرحوم ، والفرق انه لازلنا نتنفس، وأمامنا أمل فى الحياة. الباقى يعتمد علينا وعلى اتحادنا وتعاوننا لنتعافى و تعود لنا قوتنا و نطرد الغرباء ونصلح ما أتلفته السنون العجاف. وبعكس ذلك سندفن الى جانب ابن الشيخ.