حدودنا الشرقية بأكملها تطل على الأراضى الايرانية. تربطنا مع ايران روابط دينية وتأريخية وتجارية قديمة قدم التأريخ. عدد الايرانيين الذين يدخلون العراق سنويا من ايران يفوق جميع من يدخلوه من كل الجنسيات الأخرى. لأول مرة أقتربت فيها من الحدود الايرانية كانت فى عام 1960 فى منطقة المنذرية، وكان الوضع متوترا بين البلدين، حيث كان الشاه ناقما على ثورة تموز التى أفقدته الحكومة الملكية الصديقة فى بغداد. وكان الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم قد حشد قواته قرب شط العرب ووجه المدافع صوب منشآت النفط فى عبدان منذرا بتدميرها اذا ما حاولت ايران مهاجمة العراق، مما جعل ايران عاجزة عن تنفيذ خططها المشبوهة.
كان شاه ايران مثالا للحكام المستبدين، وكان يحتقر حتى رعاياه لدرجة انه كان لا يدعوا ايرانيا عدا المقربين اليه لحضور حفلة يحضرها الأجانب الا ما ندر. لم يكن متدينا بل كان يجاهر بعدم مبالاته بالدين مما أثارت نقمة شعبه عليه، فقامت ضده المظاهرات وازدادت التحديات لحكمه، فاستعمل شرطته (السافاك) لاخماد كل معارضة له بقسوة وشدة لم يسبق لها مثيل، فغصت السجون بالمعارضين. و من ضمن المعارضين رجال الدين الذين كانوا يؤلبون الشعب عليه، وعلى رأسهم الخميني الذى احتضنه صدام نكاية بالشاه. وفى عام 1978 اتصل (السافاك) ليخبروا صدام حسين، وكان نائبا لرئيس الجمهورية آنذاك، ليخبروه بوجود محاولة انقلاب فقام صدام باعدام العشرات من الضباط العراقيين، وردا لجميل الشاه فقد أمر بنفي الخميني الذى غادر الى فرنسا وبقي هناك حتى عاد الى طهران بعد قيام الثورة وهروب الشاه. نقم الخميني على صدام حتى انه عندما استلم برقية صدام بالتهنئة رد عليه ببرود خاتما برقيته بعبارة (والسلام على من اتبع الهدى) بدلا من (والسلام عليكم )المعتادة فى مثل هذه الحالة. لم يتحمل صدام هذه الاهانة، وهو الذى كان يعتبر نفسه فوق البشر، وحقد عليه وبدأت الحرب الكلامية حتى نقض صدام معاهدة الجزائر التى عقدها مع الشاه، تبعها القصف العراقي لأيران يوم 22 ايلول (سبتمبر) 1980، وكان ذلك فاتحة تدهور العراق.
استمرت الحرب والقتال الجنوني وانحازت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الى جانب العراق، وكذلك فعلت جميع الدول العربية، وفقد الجانبان مئآت الألوف من القتلى والجرحى، وانتهت يوم 20 آب (اغسطس) عام 1988. بالرغم من انحياز اوريكا والاتحاد السوفييتي لصدام لم تكف هاتان الدولتان ومعهما اسرائيل عن تزويد ايران بقطع الغيار العسكرية وغيرها، اذ كان غرضهم المشترك هو تدمير الدولتين معا، وهذا ما اعترف به الأمريكان فيما بعد.
ثم كان غزو صدام للكويت الذى كان السبب الأكبر فى سقوطه وابادة البعث فى العراق فيما بعد. هذا الغزو الأحمق أثار حفيظة العالم كله عدا كوبا واليمن!!!. ايران وقفت متفرجة على اندحار صدام وكأن شيئا لم يحدث، واستفادت من الحصار المضروب على العراق فبدأت صادراتها تظهر فى الأسواق العراقية بالرغم من الحصار، واستفاد الشعبان من ذلك.
بعد انكسار جيش صدام وانسحابه من الكويت، قمع حركتين قامتا ضد حكمه: الأولى فى جنوب العراق والثانية فى شماله، وقمعهما صدام بمنتهى الوحشية قتل فيها عشرات الألوف من العراقيين. لم تتدخل ايران علنا فيما جرى، وفضل قادتها الانتظار. وكان دخول جيوش امريكا وحلفائها وسقوط صدام وحزب البعث، وما صاحب ذلك من حل القوات المسلحة والأمن، مما ادى الى حصول فوضى عارمة اغتنمتها ايران للتغلغل فى العراق، فاستفادت من العراقيين الهاربين من حكم صدام الى ايران، وبدأت تتدخل فى شئون الحكومة الجديدة يدفعها عاملان: الأول نكاية بأمريكا، والثانى الحصول على موطىء قدم لها فى العراق. تسبب هذا التدخل فى زيادة كبرى بمآسى العراق التى بدأت بالسياسة الأمريكية الحمقاء التى مزقته شر ممزق. وللاستفادة من الخصام بين أمريكا وايران، فقد قام بعض الشيعة بالاتصال بايران التى أغدقت عليهم المال والسلاح، وعلى نفس النمط قام بعض السنة بالاتصال بالدول العربية وعلى رأسها السعودية، وحصلوا من ذلك على المال والسلاح أيضا. ان هؤلاء (البعض) من السنة و (البعض) الآخر من الشيعة استلموا ونهبوا أموالا ونهبوا ا تفوق الخيال أنفقوا الجزء الأكبر منها على انفسهم وعوائلهم وشراء العقارات داخل وخارج العراق وأسسوا شركات كبرى فى الدول المجاورة والبعيدة، و تركوا الشعب البائس المسكين فى أسوأ حال ما بين مهجر وجائع لا يجد قوت يومه، وخربت بيوت الله وبيوت الناس، وقتل منهم بدون تمييز النساء والأطفال والشيوخ. وبسبب هؤلاء (البعض) أصيب العراق بكارثة لم يشهد مثلها فى أسوأ عصوره الدموية على مدى التاريخ.
لقد تمادى هؤلاء (البعض) فى غيهم ومزقوا الناس شر ممزق، ونشروا الكراهية الفظيعة بينهم وأججوا نيران الطائفية بعد أن دخل الى العراق انصار القاعدة والسلفييون التكفيريون، أضف الى ذلك البعثيين الصداميين، وعصابات الخطف واللصوصية والقتل والاجرام.
كل هذه المصائب لا بد أن تمر وتنتهى كما يعلمنا التأريخ، وستعود دول الجوار الى التعايش السلمي الطبيعي المشترك بعد ان تتكبد كل الأطراف المتنازعة أفدح الضرر، كما حصل فى السابق بين معظم دول العالم التى لم تحل مشاكلها سلميا. أمريكا ستنسحب من المنطقة بشكل أو بآخر ويبقى العراق وجيرانه. اننا نحتاج الى ايران وايران تحتاج الينا، ونحتاج الى تركيا وتحتاج الينا، ونفس الشيء ينطبق على باقى دول الجوار العربية. ان التهجم الشديد على طائفة الشيعة واتهامها بالعمالة لايران ووصفهم بالصفويين لن يفيد السنة ولن يفيد مجموع العراق. لنا مع ايران تأريخ طويل و حافل كما ذكرت فى بداية المقال، ولنا معهم روابط دينية واقتصادية كبيرة لا يمكن تجاهلها. و سيمكننا من ايقاف تدخلاتهم فى بلدنا متى ما بدأ الشيعة يجدون من السنة تقربا واحتراما لحقوقهم، ومتى ما وجد السنة من الشيعة تقربا واحتراما لحقوقهم ايضا، وينضم اليهم الاخوة الأكراد فعند ذاك لن يكون أمام ايران أو غيرها غير اعادة النظر فى علاقاتهم مع العراق المتآخى المتحد.
أما مسألة العراقيين من أصل ايراني (او صفوي كما يحلوا للبعض تسميتهم) فهذه مسألة قانونية بحتة، فالعراقي عراقي مهما كان أصله، وأي عراقي يتصل بالأجنبي لالحاق الضرر بالعراق فان القانون يشخصه ويعاقبه، اما اللجوء الى شرعة الغاب وأخذ القانون بأيدينا لن تكون له من نتيجة سوى زيادة القتل والتدمير فى البلد.
واذا ما حل السلام وعاد الأمان فسوف يعود ملايين العراقيين المهاجرين وتعود معهم الخبرة ورؤوس الأموال، ويتشجع الأجانب على الأستثمار وترد الى العراق بلايين الدولارات اضافة الى الموارد الهائلة من تصدير النفط الخام، وسيصبح العراق درة الشرق الأوسط، وتعود بغداد الى ما كانت عليه فى عهد الناصر لدين الله العباسي، مركزا علميا وتجاريا وثقافيا لكل العالم.
هل هذا حلم؟ حاليا نعم، ولكن معظم الحقائق ولدت من الأحلام.