عندما اكتشف الجمهور نفاق السّاسة،وquot;خدعةquot;الطّليعة

تمثّل الإنتخابات ،في عرف الديمقراطيات العريقة،فرصة حقيقيّة لتداول الآراء الممكنة بخصوص المشكلات والقضايا المصيريّة الّتي تهمّ معيش الأمّة ومستقبلها فنجد للمثقّفين فيها سمهاً وافراً ومخْصوصاً بحكم أنّهم ضميرها الحيّ.في انتخابات فرنسا الأخيرة شهدنا كيف كان للمثقّفين،على اختلاف مشاربهم وتوجّهاتهم الفكرية ،دوْرفي التّأثير على قرار النّاخب عبرالظّهورات والنّقاشات الّتي واكبتْها،بحيويّة وشفافيّة،وسائل الميديا ؛وكيف كان المرشح ساركوزي محاطاً بالعديد من المثقفين (رومان كوبّيل وبروكنير وغلوكسمان والوزير الاشتراكي السابق كوشنير ، إلخ) في حملته الإنتخابية ،حتّى وإن كان المفكر الفرنسي إيمانويل تود يلخص بكثير من الأسى الوضع الحالي في فرنسا بالقول: laquo;الفراغ الثقافي في فرنسا وصل إلى مستويات مذهلةraquo;، ويضيف laquo;أحتقر هؤلاء المثقفين الذين ينضمون إلى وغدٍ من طينة ساركوزي، ولكننا وصلنا إلى فوضى إيديولوجية بحيث أصبح من العادي أن يفقد البعض عقلهraquo;،وإن كانت فرنسا فقدت أهم مثقفيها الكبارأمثال بيير بورديو وجون بودريارد وغيرهما ممّن كان يستهويهم البحث في النوايا الانتخابية ومؤشّراتها المعقّدة.


ولازال المثقّف العربي ،لأسباب ذاتية وموضوعية معقّدة،خارج اللّعبة الإنتخابية،وليس له دوْرٌ فعّال مثلما تقضي خبرته،ووعيه النافذ بالقضايا الشّائكة ،ومؤهلاته في التّحليل وتبصيرالمجتمع بواقعه والتزاماته الرّاهنة،فنجد أغلبهم رهين فضاء المقاهي وحلقات النّقاش الضيّقة.حتّى وإن كان له حضورداخل هيئة أو حزبٍ ما فلايتعدّى الواجهة التي يلعب عليها النّظام السياسي القائم من أجل تبرير سلطته،وتكريس خطابها الآمر،إلى المشاركة الفعالة في صياغة القرار السياسي ،والإصطفاف مع الجماهير في خياراتها المصيرية. وهي مهمات صارت في حكم الزّائل.


وفي انتخابات2007 التشريعية ،التي شهدها المغرب في بدايات هذا الشهر،غاب صوت المثقفون المغاربة تماماً،وتضاءل دورهم بشكْلٍ مريب،فلا نكاد نعثر عليه في النّقاشات العامّة ،وداخل لجّة الصّراع المحموم بين الأفكار والمشاريع الّتي يطرحها السّاسة وأشباههم ،كأنّما ابتلعتْهم عشْر سنوات من quot;التّوافقquot; عريضة الأحلام ،الّذي بدأ غداة قبول المعارضة التقليدية بالحكم تحت اشتراطات القصر الملكيّ،ودخول عددٍ من مثقّفيها في تسيير دواليب الوزارات والقطاعات الحكومية،والإنتفاع من إيراداتها العينيّة والرّمزية،ضاربين عرض الحائط المبادئ التي كانوا يدافعون عنها ويؤمنون بها .لكنّ قطاعاً آخرمنهم رفض مشهد انبطاح زملائه وتهافتهم على الكراسي التي تتحدّث بلسان حال السّلطة، وانسحب من الحياة السياسية أو انكفأ حتّى قضى نحبه.لقد أحدث هذا الأمر فراغاً ثقافيّاً في المغرب إلى مستويات مربكة،لأن القاعدة الواسعة من مثقّفي المغرب كانت،في الغالب، تتشكّل وتترعرع في أحضان أحزاب ومنظمات وهيئات مناوئة للنظام الملكي منذ quot;سنوات الرّصاصquot; سيئة السّمعة، ومتشبّعة بالفكر الإشتراكي الذي كان يجد في المجتمع تربة خصبة،ومن الطبقات السّحيقة فيه اهتماماً وتعاطفاً شديدين وهويجعل في أولى أولويّاته الدفاع عن حقوق النّاس المهضومة،ومناهضة القمع والظّلم ،والمطالبة بالمساواة والعدالة الإجتماعية.


وهكذا اكتشفت قطاعاتٌ واسعة من المجتمع أنّها خدعت،وأنّ الأحلام التي تقاسموها ذهبت في مهبّ الرّيح.يقول الأستاذ الجامعي والمحلّل الإقتصادي إدريس بنعلي أنّ المواطنين فقدوا الثّقة في الأحزاب السياسية،وفي quot;اللعبة السياسيةquot;برمّتها،وتساءل حول جدّية تنظيم الإنتخابات طالما أنّ السلطات جميعها مركّزة في يد الملك،وفquot;حكومة الظلّquot; المقرّبة من المربّع الملكي،وشدّد على أنّ عهد النّخبة السياسية في المغرب قد انتهى.


وباتت الخريطة السياسية مجدبة من مثقّفين حقيقيّين من ذوي الجرأة والإشعاع ممّن يلقون الإحترام من المجتمع المغربيّ ،ويدفعون بالتّغيير إلى الأمام متمثّلين مشاكله وتطلّعاته المصيريّة. ولكن يبدو أنّ بعْضاً من هذه الطينة في المغرب ارتضى الصّمت فيما يشبه التواطؤ أوعدم الرّضى على ما يجري،من أمثال عبدالله العروي وطه عبدالرّحمان ومحمد عابد الجابري وسعيد يقطين والطّاهر بنجلون ومحمد بنيس وفاطمة المرنيسي وغيرهم ممّن فوّتوا أمكنتهم المادّية والرّمزية لأشباههم من الأدعياء والمنتفعين؛ حتىquot;نداء من أجل ميثاق ديمقراطيquot; الذي أطلقه الشّاعرعبد اللطيف اللعبي وزملائه لم يجد صدى يذكر كأنّه يخاطب الجمهور من برج، في غياب قنوات تواصل مباشرة ومرنة.


لقد حلت محلّ هؤلاء جميعاً طائفة من مثقفي الصفّ الثاني والثالث، وجماعات من خبراء ، فنانين ورياضيين ووصوليّين لا رأي لهم سوى مفاوضة يطالبون أبناء الأحياء الشعبية والناقمة للتسجيل في القوائم الانتخابية، والتصويت يوم الإقتراع وهم يساندون مرشحي الأحزاب وغير الأحزاب في حملاتهم الانتخابية، ومنهم من دعم أكثر من مرشح وحزب، وعبّرعن أكثر من رأي، وقدأصبح شغلهم الشاغل هو الحصول على امتيازات ونيل الحظوة، أما المواقف السياسية فلم تعد تعنيهم بالمرة، ليتحولوا إلى ديكور يزين به المرشحون الأقوياء منصاتهم الانتخابية.


مثلما صمت المثقفون،تخلى فنانو المغرب [ مخرجون، سينمائيون ،مسرحيون ،مغنون ،فكاهيون وممثلون ]عن الدور الذي كان من المحتمل أن يلعبوه، كضمير أخلاقي، مستغلين شعبيتهم وتجاوب الناس معهم، وبدل ذلك مرغوا صورتهم في وحل حسابات سياسية للحصول على ربح مؤقت وعابر.
أمّا فاعلي المجتمع فقد ظلّوا منشغلين بوظائفهم الإجتماعية الصّرفة ، ولم يفهموا أنّ نقاش الإستحقاقات الإنتخابية جزء من الحرب ضدّ ما يواجهونه في الميدان من أسباب الفقر ،والحرمان والظّلم وغيرها من الأمراض التي تنخر جسد المجتمع،وتفكّك أوصاله باستمرار. ربّما لافتقداهم لقناة سياسية تنقل مشاكلهم إلى السّاحات العمومية غير السّاحات التي كان يذهب إليها الفاعل الجمعويّ صاحب اختراع quot;2007 دابا[الآن]quot;،الذي لم تستطع قافلته بنسائها الشقراوات أن تلفت اهتمام النّاس بأهمّية الإنتخابات.


وهكذا ظلّت هذه الجماعات جميعها بعيدة عن أن تكون جماعات ضغط ،وذات تأثير قويّ في أوساط المجتمع المغربي الذي ضاعت بوصلته وسط تشابه البرامج من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار،وإغراءات الوعود والخدمات العابرة، والمال ،من غير أن يتطلع إلى برامج حقيقية بأيدي فاعلين سياسين حقيقيّين يحتضنهم تقاطب سياسي مبني على مشاريع تنافسية .


في ضوء التردّي يؤكّد المفكّرعبدالله ساعف أنquot;الدولة مازالت عندنا أقوى من المجتمع، ومازالت النزعات التقليدية داخل مجتمعنا هي التي تتحكّم في تعبئتهquot;،وأضاف quot;نحن نعيش مرحلة انحدار التسييسquot;،واصِفاً سلوكات السياسيين والأحزاب ب quot;التردّيquot;،لأنّ quot;الفاعل الحزبي ساهم في تردّي السياسة بقبوله المساهمة في هذا الوضع الرديءquot;.


وكان من المفترض أن يغيّر حضور المثقفين في قلب البرامج السياسية، واحتكاكهم بنقاشات الجمهور أن يشعل النقاش السياسي المسؤول والملتزم،ويغيّر في موازين القوى، ويعدّل حساسيّات الكثير، وذلك في غياب التّثقيف والتّأطير السياسي في أجندة الأحزاب السياسية الّتي لازالت تعتبر كلّ ماهو ثقافي خطراً عليها، والأفكار الجديدة تهديداً لحساباتها ومخطّطاتها المسبقة.حتّى صرنا نجد أنفسنا أمام برامج انتخابويّة متشابهة لأحزاب ذات مرجعيات إسلاميّة ويمينيّة ويساريّة وليبراليّة ...،لا تؤطّرها نفي الغالب، تصوّرات فكريّة وسياسية واضحة ومرنة وواعدة.وسجّل تقرير المنتدى المدني الديمقراطي المغربي حول الإنتخابات التشريعية أنّ الحقل السياسي يعيش انقساماً كبيراً،وأنّ الأحزاب السياسية لا زالت بعيدة وضعيفة على إمكانية التأطير السياسي للمواطنين،وكشف غياب التواصل والتداول حول القضايا الأساسية للمجتمع بين الفاعلين السياسيّين والفئات العريضة للمجتمع،في جوٍّ ديمقراطي يعمّم النقاش الجماعي الصريح والحرّ الّذي يقوده المثقّفون،ويبني لدى المواطنين الثقة المفقودة بدل إرشائهم بالعار والمال.وكان المؤمّل في انتخابات حقيقيّة تتمخض عنها نتائج مقنعة يمكن أن تضع المغرب على رأس الدول العربية التي تتبنى النظام الديمقراطي على النهج الغربي،وأن تقود الى تغييرات جيلية في قمة النخبة السياسية المغربية،وأن يتكون البرلمان الجديد من اغلبية من الوجوه الجديدة، المتحدرة أساساً من الاجيال الشابة، الأفضل مستوى تعليمياً والأكثر انفتاحاً في التفكير، سياسيين وأصحاب اعمال واكاديميين.لكن الواضح أن دار لقمان لا تزال على حالها إذ عاد إلى القبّة الأولياء الصالحين. وللإشارة فهذه هي الإنتخابات الثانية التي تجري تحت حكم الملك محمد السادس، الذي صعد الى العرش قبل ثماني سنوات.


ومهما يكن، فإنّ الإنتخابات أشاحت عن quot;خدعةquot; كان الجميع يتفنّن في إخفائها عن الأنظار،وهي تشهد النّسبة المسبوقة لتدنّي مشاركة المغاربة في انتخاب برلمانهم الذي أدركوا أنّه لا يمثّلهم في شيء ،وأن السّاسة الذين أعلنوا نيّة ترشيحهم هم ،في الغالب،كاذبون أومتحايلون.لكنّ الإنتخابات مرّت ،كما شاء النّظام،هادئة وquot;شفّافةquot; في نظر quot;الملاحظين الدّوليّينquot; ،أمّا المجتمع فقد خسرها مرّتيْن:في المرّة الأولى عندما لم يصوّت بكثرة،وفي الثانية عندما وجد نفسه في العراء بدون مثقّفيه الّذي انصرفوا ،ربّما، إلى أشياء أخرى أهمّ من المراهنة على معركة خاسرة، أصلاً.

عبداللّطيف الوراري
شاعر وناقد من المغرب