كان هذا الشعار مخطوطاً على جدران المدارس الابتدائية بالعراق كمدرسة المربد الابتدائية بالخندق ومدرسة الفتوة في محلة الجمهورية بالبصرة، وكنت صغيراً اجمع الدرهم المطلوب ( خمسين فلساً ) وذلك باستقطاع عشرة فلوس كل يوم من مصروفي اليومي لأدفعه في نهاية الأسبوع للمدرسة بعد ان احرم نفسي من اكلة (البورمة) اللذيذة واكتفي بشراء ( نصف لفة سمبوسة ) او (صمون ولبلبي ) ب (15 ) فلساً فقط، في محاولة لتطبيق الشعار( الوطني)!.
وعندما كبرنا وترعرعنا وتعلمنا واطلعنا على الحقائق ما لبثنا ان اكتشفنا ان ذلك الشعار (الوطني ) كان (كغيره) أكذوبة مثل كتب (التربية الوطنية والقومية ) التي روّج لها حزب البعث الحاكم انذاك ليداعب بها مشاعرنا واحاسيسنا ويسرق دراهمنا كما سرق نفطنا على مدى أربعة عقود، بينما امتلأت جيوب الذين طرحوا وخطّّوا الشعار بدراهمنا!.
(العمالة)، (التسقيط)، (الخيانة) او (مصلحة الوطن) و(الوطنية) و(حب الوطن) مصطلحات هي الأخرى كانت تُردّدُ يوميا(آنذاك) دون معرفة المعايير والضوابط التي تفسرها وتحكمها، اللهم الا من قبل الحكومة (وقتها) التي كانت تضحي بالشعب (كل الشعب ) باسم الحفاظ على الوحدة الوطنية !، كما كان يفعل راس النظام السابق في حروبه باسم الوطنية، تلك الحروب (الوطنية ) التي لم تكن الا حفاظا على عرش الدكتاتور!!
فاغترب مئات الآلاف من العراقيين بسبب (حب الوطن) وهاجر الملايين منهم في محاولة للنجاة من (وطنية) الدكتاتور، وهذا المشهد تكرر (ومازال) يتكرر في دول عربية عديدة، فكنا نشاهد (المواطن ) في تلك الدول يُعدم او يُعتقل ويُعذّب بتهمة الخيانة وذلك لاتصاله (المزعوم ) بالأجانب، بينما تكتب الصحف التابعة للحكومة في ذلك البلد عن (وطنية) الحكومة بسبب النصر الدبلوماسي الذي حققته بعد صفقة مع نفس الدولة التي اُعدم بتهمة اتصاله بها مواطنُها!. اي عقوبة (اعدام) للمواطن ومكافأة للحكومة بسبب الاتصال بدولة (اجنبية ) واحدة.
كل هذه التناقضات جعلت المواطن في اي مكان في حيرة من امره ( خصوصا في العراق )، وجعلته يعيش ازمة ثقافية و طريقة تفكير محدودة مبنية على كم هائل من الشعارات بسبب الفترة الطويلة من الدكتاتورية واخرى مختلفة بسبب الصدمات مع ضيق افق بالرؤيا في النظر للامور والبعد عن الواقع والتمسك بالشعارات او محاولة العودة اليها متعمدا او واهما اومن غير قصد !.
وقد يكون موضوع الاتفاقيات مع الدول خير مثال على ذلك، خصوصاً تلك الاتفاقيات او التفاهمات مع الدول التي تسمى (المستعمِرة ) او التعامل مع الدول التي توصف (بالامبريالية) والتي (عادة) ما توصف هذه الاتفاقيات بالخيانية او يُتهم من يوقعها بالعمالة، وهنا يطرح المواطن المصدوم هذه الأسئلة
هل تعتبر حكومة قطر خائنة وعميلة من وجهة نظر شعبها باعتبار ان لاميركا هناك اكبر قاعدة عسكرية ؟ وهل تعتبر السعودية عميلة بسبب علاقتها الاستراتيجية الجيدة والحميمة مع الولايات المتحدة ؟ وهل دولة الاردن عميلة وخائنة بسبب علاقاتها المباشرة مع اسرائيل؟ وهل ينطبق الامر نفسه على مصر العروبة ؟؟ ويستمر المواطن لماذا اُعدم واُعتقل واُعذّب بسبب قضية هي نفسها يكافأ عليها المسؤول في البرلمان او الحكومة؟
ويبدو من الصعب الحصول على أجوبة واضحة لهذه الأسئلة مع تراكم الشعارات وصدمات الحكومات لمواطنيها، لذلك يصاب المواطن باليأس وخيبة الأمل واختلاط المفاهيم (كالوطنية والعمالة ) او (السيادة والتبعية )، فيصبح الحديث عن السيادة أفضل من تحقيق مصلحة الوطن والمواطن، وهو(اي المواطن المصدوم ) لا يدري ان التبعية هي ان يجوع ويموت أولاده من الأمراض ويصبحوا مختلين عقلياً بسبب العوز وهو يمشي على بحر من النفط ! ولا يعرف ان الاستقلالية هي تحسن المستوى المعيشي والتعليم الجيد والطبابة المجانية الجيدة.
فيصبح البكاء على نخلة يبست سعيفاتها رياء ً ويبدو الشوق الى (الخيسة ) السوداء او(السيان الازرق ) وانت في عاصمة الضباب اوعندما تتجول في الشانزليزيه انفصاما بالشخصية ! تعالوا نترك الشعارات لمن يريد ان يهتف بها ويرددها لكي نستعيد دراهمنا التي سرقت باسم الشعار الذي بدأنا به المقال وكذلك دنانيرنا التي تسرق كل يوم تحت مسميات عدة ومصطلحات لاتختلف كثيرا عن الشعار اعلاه، انها مجرد دعوة للتفكير بعيدا عن الشعارات وبعيدا عن الصدمات السياسية والنفسية التي صنعتها ومازالت تصنعها الدكتاتوريات لحد الآن!
د. محمد الطائي
التعليقات