في مسرحية الثعلب و العنب لفيدريکو جولهيرم، يطلب السناتور الروماني من عبده إيزوب منحه الحکمة في مقابل عتقه من العبودية وبعد أن يمنحه الحرية يعود إيزوب بملء إرادته للعبودية و يبرر ذلك بأن أحدا لم يقتنع أو يتقبل فکرة تحرره!


هذا الوضع ينطبق تماما على العديد من الشرائح الفکرية و الاجتماعية العراقية التي تراودها حالة من الحنين الطاغي لأيام الاستبداد و العبودية في ظل النظام الشمولي البعثي وترى في إنعتاقها من أغلال و نير العبودية أمرا غريبا عليها سيما وقد تربت لأکثر من ثلاثة عقود على قيم و أفکار العبودية و الخنوع و التزلف و التحميد بفضائل الدکتاتور و النظام وترى في تزلف و المدحquot;المشبوهquot;للعديد من أجهزة الاعلام العربية للعهد البائد دليلا مؤکدا على صحة معتقداتها و أفکارها. صحيح أن العراق بوضعه الجديد يعيش حالة قد لا تکون مرضية أو بالمستوى المطلوب الذي کان يجب أن يکون، لکن الاصح أيضا أن الوضع الجديد للعراق يؤسس لمشروع سياسي واقعي يقوم على ماهو کائن على الارض وليس على مايبنى في الدهاليز و الاقبية خلسة ومن أجل مصالح و أهداف فئة أو شريحة معينة.


اليوم في العراق، الامور تطرح و تناقش تحت شعاع الشمس و من حق کل مواطن أن يبدي رأيه سلبيا کان أم إيجابيا وليس هنالك من خوف على الذين يبدون مخالفتهم للعديد من الامور في حدود الدستور و القانون وهو أمر يعلم البعثيون قبل غيرهم إفتقاد العراق له طوال کل السنوات العجاف للحکم الاستبدادي القمعي لحزب البعث بفترتي أحمد حسن البکر و صدام حسين، لکن هؤلاء يتباکون بکاء أبن آوى على ما يدعونه من حقوق مهضومة و مستباحة و يرفعون عقيرتهم ليل نهار بخصوص الظلم الذي يجتاح العراق وکأن العراق تحت سطوة المقصلة البعثية کان ينعم بحقوق و يخلو من المظالم. ولئن کان حال البعثيين هکذا على عراق لايحکمونه بحديدهم و نارهم و جبروت طغيانهم، فإن طبيعة نظرتهم و تعاملم مع الواقع القائم في إقليم کوردستان العراق سوف تتخذ أبعادا مختلفة تماما و تتبوتق داخل أطر محددة تسبقها الکثير من الاحکام الصادرة أساسا من بقايا فلول البعث المنهار سيما من بائع الثلج الذي نصب فريقا أولا رکنا و أمينا عاما لثلة من بقايا و فلول ذلك الحزب المعشعش کالخفافيش في الاوکار و الدهاليز المظلمة. وقطعا أن للتجربة السياسية الکوردية حسابا خاصا في سجلات الانتقام و الثأر البعثية إذ لاحت نهايتهم السوداء من أفق کوردستان ذاتها و من قمم جبالها الشماء إنطلقت النسور لتدك معاقل الظلم و الجبروت و الاستبداد في بغداد، وکما أخذ البعثيون على أنفسهم المواثيق الغليظة بالثأر لکرامتهم المهدورة و کبريائهم الفارغة من الاساس، فإنهم قد وضعوا التجربة الکوردية في حساباتهم الخاصة و أطلقوا العنان لمرتزقتهم من الکتاب المشبوهين بالطعن في کل شأن خاص بهذه التجربة ملتقطين هنا و هناك نتفا من کلام حق يقال علنا و بدون أي خوف أو تردد بوجه الحکومة الکوردية طلبا للإصلاح لکي يقومون بصياغته بشکل مختلف تماما متأملين دق أسفين بين الشعب الکوردي و مؤسساته التشريعية و التنفيذية و القضائية. الکلام عن الفساد في کوردستان و عن سلبيات أخرى في مختلف المفاصل التابعة للحکومة الکوردية، لا يعني بأن الاقليم عبارة عن بؤرة فساد في وسط واحة من النبل و الشهامة و النقاء المحيطة به من دول المنطقة، إذ يعلم الجميع أن الفساد المستشري في کوردستان تعود في واحدة من أهم أسبابها الى الدول التي تحيط بها و التي تعج بالفساد المالي و الاداري و السياسي و تعلم العديد من الاوساط المطلعة و القريبة من دوائر التجارة و المال الکوردية بأن التعامل التجاري و الاقتصادي بين تجار الاقليم و دول محددة مجاورة مبنية أساسا على مبدأ الرشوة و القفز على روح و جوهر القوانين. فساد کوردستان ظهر تحت الشمس لأن طبيعة و واقع التجربة السياسية الديمقراطية القائمة تفرض ذلك و تجعله حتمية لا تقبل الجدل بعکس الفساد المبطن في دول المنطقة و التي تخبأ و تعلب بقوة النظم السياسية القائمة ذاتها والتي لا تؤمن في خطها العام بالقيم و الافکار الديمقراطية. ولست هنا في صدد تبرير أو الدفاع عن الفساد في کوردستان، لکنني أشير الى نقطة جوهرية مهمة وهي أن هناك في کوردستان مساحة کبيرة لممارسة حرية التعبير بحيث تتجاوز أحيانا الحدود أو حتى خطوطا حمراء، وبالامس القريب، أقام رئيس الجمهورية جلال الطالباني دعوى قضائية ضد صحيفةquot;هاولاتيquot;الاهلية المشهورة لأنها نشرت أنباءا غير صحيحة کما نقل عنه، لکن الطالباني لم يقم بإرسال مجموعة من حمايته لکي يقتادون رئيس تحرير هاولاتي على الحال الذي هو فيه عنوة الى أعماق السجون(مثلما کان عرفا سائدا في عراق البعث ومازال في دول أخرى) وإنما قاضاه وفق القانون و کندين متکافئين لا يفرقهما سوى حکم القانون. کما أن الکاتب المعروف شيرزاد شيخاني الذي نشر مقالات متعددة تعرض فيها لمسألة الفساد في کوردستان، لم يتم التجني عليه و إنما عومل و حوکم على أساس القانون و واضح أن الحالتين تعکسان وضعا حضاريا طبيعيا سليما يعلم الجميع بأن غالبية دول المنطقة(ماعدا إسرائيل و ترکيا الى حد ما)تفتقد إليه. وإذ تنبري هذه الايام مجموعة أقلام بعضها لم يکن معروفا و البعض الآخر يکاد يکون مغمورا بالتعرض لمواضيع الفساد و إنعدام الحرية في کوردستان ملمحة بشکل ضمني الى أن الکورد کانوا في ظل البعث المباد في ما أشبه بالجنة!


إن کون کوردستان ساحة مکشوفة أمام وسائل اعلام المنطقة و العالم ليس لکونها الاکثر فسادا و تخلفا و ظلما کما يدعى زورا و کذبا و نفاقا و دجلا، وإنما لأنها تؤسس لنظام سياسي إداري إقتصادي إجتماعي مبني على أسس من مبادئ الديمقراطية و حقوق الانسان وهي من أجل ذلك ترفض أن تحيط کوردستان بجدران صماء و بکماء ستالينية أو بعثية أوquot;عروبية شموليةquot; و ما إليها إنما کوردستان تحيطها جدران من حرير و أن مايحدث في الدار واضح ليس للذي في داخله فقط وإنما حتى لسادس جار، لکن هل يفقه ذلك من رضع و تربى من ثدي العبودية؟!

نزار جاف
[email protected]