كذب يكذب كذاب هذه المفردات لصفة تزييف الواقع وتحريفه أو تعميته من الصفات الذميمة، التي أتفق كل البشر منذ أن وجدوا على هذه الأرض بأنها قيمة نقص لخلق وعقل وأمانة من يتمتع بها. وقد أكدت الأديان والشرائع السماوية قبح الكذب وتوعدت من يتمتعون به؛ بعواقب سوء الأمور في الدنيا والويل والثبور بالآخرة. والكل أتفق على رفض الكذب ومحاربته، بكل الوسائل والطاقات.
ومهما ضن من يتمتع بصفة الكذب، بأنه ذكي ومحصن من المساءلة، فسيتم كشفه، فكذلك من يكذب عليهم يوجد بينهم أناس لهم عقول يدركون ويميزون بها بين ما هو صدق وما هو كذب. فقد قال المثل العربي الشهير quot; حبل الكذب قصيرquot;. وقال المثل الغربي quot; تستطيع بأن تكذب على بعض الناس لبعض الوقت، ولكنك لا تستطيع بأن تكذب على كل الناس لكل الوقت.quot; ومن طبيعة الكذاب بأنه أول من يكذب على نفسه، قبل أن يكذب على غيره. وذلك بأن يكذب على نفسه بأنه لن يكشف كذبته أحد. وهو أول من يصدق كذبته كذلك، حين يستمر في ترديد كذبته.
ويوجد ثقافات تقف عتية وحصينة ضد الكذب وترفضه وتفضحه ولا تسمح بأن يمر عليها مر الكرام، بدون مساءلة أو محاسبة ومعاقبة. فقد قال الرئيس الأمريكي الثالث توماس جيرفسون quot; وجود إعلام حر بدون حكومة؛ خير للمجتمع من وجود حكومة بدون إعلام حر.quot; فالكذب بحق شخص، برغم قبحه، يضر بشخص واحد. أما الكذب على المجتمع برمته، فهو أقبح أنواع الكذب وأشدها تخريباً وتدميراً، ولذلك فضل جيرفسون وجود كشافين للكذب على وجود حكومة تغطي عليه.
فثقافة مجتمعاتنا العربية، هي من الثقافات الخائفة والخانعة، التي لا تسمي الأشياء بأسمائها. فتسمي مثلاً الكذب بالاجتهاد، وقد تقسو عليه في بعض احالات قليلاً وتسميه بالاجتهاد الخاطئ. وهنا يتمتع الكاذب بأجر الإصابة وأجر الخطاء!! وخاصة عندما يصدر الكذب من مسئول. فهذه التسمية الغير شرعية للكذب، تريح المواطن جداً، حيث تبرر له استكانته وسلبيته وعدم مجابهته للمسئول الكاذب الذي قد لا تحمد عقباها. وكادت أن تختفي كلمة كذب من ثقافتنا وإعلامنا، لا لمحاربتنا الشرسة والصادقة لها، ولكن لاستشرائها بيننا ومجاملتنا وخوفنا من عواقب توجيهها علانية للكذب.
ولكن عندما ظهر سعادة الدكتور محمد القنيبط، عضو مجلس الشورى والخبير الاقتصادي المتمكن، في لقائه الأولٍ، قبل عدة أشهر، والثاني هذا الأسبوع على قناة quot;الحرةquot; مع الزميل الإعلامي المتميز الدكتور سليمان الهثلان، في برنامج quot;حديث الخليج،quot; سمعنا كلمة كذب ويكذب وكذاب تترد على لسانه في اللقاء أكثر من مرة، وكأننا نسمع منه كلمة غريبة، لم نستسغها في البداية، لعدم تعود أذاننا على سماعها توجه لمسئولين في الدولة. صدمنا الدكتور محمد صدمة شديدة وكأنه يصفعنا على وجوهنا، ويقول لنا بأن هنالك صفة ذميمة تسمى الكذب، ولا دخل لها أبداً بالاجتهاد أو وجهة النظر. وتمارس ضدنا وفي حقنا علناً، والتي عواقبها ستكون وخيمة وكارثية على البلاد والعباد، وحتى على أجيالنا القادمة.
أنا هنا لن أناقش ما تطرق له الدكتور القنيبط من إدانة بالكذب لعدد من المسؤولين، حيث هو كفى ووفى، ولست على إطلاع كاف يؤهلني لتأكيد أو نفي ما ورد على لسانه في المقابلة. ولكني سأتطرق لظاهرة كذب المسئول، أي مسئول في أي بلد و في أي زمن. ولماذا يضطر المسئول للكذب وهل هو فعلاً بحاجة لاقتراف مثل هذه الجريرة الشنيعة، إن لم نقل الجريمة، بحق نفسه أولاً قبل أن تكون بحق من أمنه والمجتمع الذي أمن له؟!
في اعتقادي، بأن شخصنة المنصب هي أم الكوارث وبداية نهاية المسئول. فالدولة تتكون من مؤسسات تنفذ وتشرف على تنفيذ خطط الحكومات المتوالية عليها وبرامجها التنموية. ولا يمكن أن تتكون الدولة من أشخاص، حيث عمر الدولة يمتد لقرون، وعليه تعتمد على من يضاهيها ويمتد معها عمراً ونفساً وصموداً ضد التراخي والخنوع كالأنظمة والقوانين والسياسات، وليس على المسئول المنفذ لها. فالمسئولين موظفين عند الدولة، مثلهم مثل من سبقهم، ومن سيخلفهم، يتبعون سياسة مؤسساتها، ولا يمكن أن يحلو محلها.
وعندما يتحدث المسئول ويصرح، فهو يتحدث باسم المؤسسة التي ينتمي لها ويعبر عنها وعن سياساتها، بمعزل عن صفته أو سمته الشخصية. كما أن أي انتقاد يوجه لأداء مؤسسة من مؤسسات الدولة، فهو موجه للمؤسسة نفسها وبالتحديد لأدائها، وليس لأشخاص من يديروا المؤسسة. ولذلك فالشفافية في الأداء هي سمة من سمات رجال الدولة، والكذب والضبابية والتهرب من المساءلة هي سمة من سمات مختطفي مؤسسات الدولة والمجييرين لها تحت أسمائهم.
هنا سوف أحسن النوايا، وأبتعد عن اتهامات استغلال المنصب، بطرق غير شرعية وإدارة مؤسسة الدولة كإقطاعية خاصة، يحلبها المسئول، المكلف بإدارتها، وعائلته ومن هم في معيته، وأتناول الأداء الوظيفي من ناحية ضعف بنية الإنسان النفسية، وأقول بأن المسئول عندما يظل في منصبه لفترة أكثر من اللازم، يختلط عليه ما هو شخصي يخصه وما هو رسمي، يخص المؤسسة نفسها. ولذلك أي انتقاد يوجه لأداء المؤسسة يأخذه مسئول المؤسسة بأنه موجه ضده. وأي انتقاد يوجه لشخصه الكريم، يأخذه بأنه موجه للمؤسسة التي يعمل بها وحرمتها، إن كانت من المؤسسات ذات الطابع الوطني أو الديني.
ومن خلال هذا الخلط العجيب الذي يصيب الإنسان عندما يقضي في منصبه أكثر من مما تحتمل بنية نفسيته الضعيفة، يظهر لنا الكذب وتزوير الحقائق والمكابرة والتظليل الموجه للناس. ناهيك عن التظليل والكذب والتزوير الذي يحاط به المسئول المعمر في منصبه، من ناحية من يعملون تحت سلطته في المؤسسة. حيث يكتشفون بأنه لا يريد أن يسمع إلا ما يشنف إذنيه من مديح وإطراء، لحكمة معاليه وعبقريته الفذة، التي كان يتمتع بها في الأربع سنوات الأولى من حكمه في المؤسسة والتي نضبت بعد تقادم الزمن عليه، وتغير الظروف والمعطيات التي أصبح أخر من يعلمها أو يدري بها، بسبب عزلته الجبرية الطويلة في المنصب.
هذا إذا لم يصب المسئول بمرض التأله، وهو مرض نفسي يصيب الإنسان بسبب الهالة الإعلامية والمديح الشخصي والوجاهة الاجتماعية التي يحظى بها بسبب مركز مرموق يتقلده ولفترة أطول من ما تحتمل طبيعته البشرية الضعيفة؟؟ ولذلك فليس من المستغرب بأن يقول رسول الله صلى الله عليهم وسلم quot; إذا رأيتم المداحون فأحثوا في وجوههم التراب.quot; أو كما قال...
وفي الختام اقترح على سعادة الدكتور القنيبط، بصفته عضو مجلس شورى، ويزعجه جداً الاستخفاف بقدراته الذهنية، بأن يطلب من زملائه أعضاء المجلس استحداث كرسي اعتراف ( الكاشف للكذب ) لاستضافة ضيوفهم الأكارم من مسئولي الدولة، ويجلسوهم عليه أثناء طرح الأسئلة والاستفسارات عليهم.
وللمسئول الحق في عدم الإجابة على بعض الأسئلة، حتى يحمي نفسه من الإدانة. وهذا أخف بكثير من الكذب علينا والاستخفاف بعقولنا وإدانتنا بضعف أو تلاشي قدراتنا على قراءة الأرقام ومقارنة بعضها ببعض. وهنا نستطيع أن نقول للكذابين رضينا بالعيش فقراء ومحتاجين بسبب سياساتكم، ولكن لن نرضى بالعيش، فقراء ومحتاجين وأغبياء كذلك، هذا ما لا نحتمله، فلا تمسوا قدراتنا الذهنية، فلم يبقى لنا أمل في هذه الحياة غيرها، عله يأتي ذلك اليوم الذي نستفيد منها....
عبدالرحمن الوابلي
التعليقات