إذا كان الشعرُ كائنُ الحقيقة، فإنّ الدولةَ كيانٌ مُعادٍ للحقيقة. أكتب هذه العبارة من مكان إقامتي في قطاع غزة الذي اعتبرته دولة الكيان الصهيوني (كيانًا معاديًا)! هذا القرار الذي راحت ترَوّجه دولةُ الأغراض الحربية؛ سرعان ما التزمت به دول الجوار، و دول ما وراء البحار؛ مثل فرنسا، بلد الحضارة والنور وفرسان الشعر والآداب والفلسفة. بلد الكاتب الكبير جان جينيه الذي خاض مواجهة حامية مع مراسل علهمشمار الإسرائيلي، فقال في معرض دفاعه عن الفلسطينيين ووصفه لهم، أثناء زيارته لمخيمات اللاجئين، في الأردن، عام 1970: quot;هناك شيء أصيل، شيء حقيقي.. هذا يعني أن تكون في قلب أغنية عصرية، لا رواية رخيصة.. إذا كنتَ تعرف هايدغر، فستعرف أن الفلسطينيين يُمسكون، الآن، بزمام وجودهمquot;.


لكنّ فرنسا لا تشبه فرنسا. فدولة ساركوزي، الآن، ترفض منح كاتب هذه السطور تأشيرة لدخول فرنسا بناء على دعوة خاصة وصلتني للمشاركة، كشاعر من فلسطين، في فعاليات مهرجان quot;لوديفquot; للشعر: (أصوات من حوض المتوسط) في دورته الحالية الـ(11) تموز(يوليو)2008. يذكر أن منظمة اليونسكو، التي تتخذ من باريس مقرًّا لها، هي الراعية لهذا المهرجان. ولا ندري كيف يفسّر هذا التناقض بين وجود الجهة الراعية للمهرجان في باريس، وبين رفض فرنسا إعطاء التأشيرة للشاعر!!
علمًا بأنّ هذا الرفض يأتي متزامنًا، أيضًا، مع القمّة التي تنعقد في فرنسا، هذه الأيام، من أجل المتوسط و ثقافة متوسطية، بينما هناك سياسة موازية سرّية ضد (هذه) الثقافة المتوسطية؛ وخصوصًا ضد الشعب الفلسطيني و ممثليه الثقافيين!!
إذن، السبب الوحيد الذي تتذرع به فرنسا هو أن المدعوَّ شاعرٌ يقيم في غزة المحظورة والمعزولة!!. أي معه حقيقة، لو حضر، سيجسدها في قصائده وإجاباته على أسئلة الذين سيصغون لصوتِ قادم من شرفةٍ تطلّ على المتوسط. سوى أنّ البحر ليلٌ وسياجٌ وجيشٌ يَمنع النجمات من مداعبةِ الزرقة!!

والحال هذه.. فإن (إسرائيل) كيان المشرّدين والمطرودين والمهاجرين، و(فرنسا) دولة ساركوزي الرئيس المهاجر؛ إنما تصبحان نموذجًا مُوحَّدًا لـ (الدولة) بوصفها الكيان المعادي للحقيقة! حيث يحرمني هذا النموذج من الالتقاء، على أرض لوديف، مع الروائي والشاعر الإسرائيلي اسحق لاور، عند نقطة حقوقية وإنسانية مشتركة تصبح، ولو للحظة، دائرةً كبيرة أو حوضًا يملآنه صوتا شاعرين آتيان من المتوسط، ليلتقيا خارج الأرض التي تشهد صراع وجودين: الأول أصيل والآخر دخيل.

وهكذا.. فرنسا تَحرمُ جمهور الشعر/ الحقيقة، من الإصغاء إلى الوجود الأوّل: رأس الضحية وأفقها، وهو يفضح سياسات وممارسات الدولة القاتلة. تحرمه، كذلك، من الإصغاء للآخر: الجلاد، وهو في لحظة اعترافه وخجله وشعوره بالذنب - مُمثلا بالإسرائيلي اليساري اسحق لاور، المعروف بمواقفه المعلنة المناهضة لإجرام دولته.

شكرًا للسيدة Hyver، الموظفة المسؤولة في القنصلية الفرنسية العامة في القدس المحتلة, التي صوّبت، في أذني اليسار كلمة quot;مرفوضquot;، أثناء مكالمة تلفونية يتيمة أجريتها معها من وسط خان يونس(ربما آثرت السيدة الاستماع لصوتي بأذنها اليمين).
مثلما كان قد صوّبَ جنديٌّ صهيونيّ مهاجر بندقيته جهة جسدي (عند اعتلائه بناية عالية صفراء وسط خان يونس، أثناء أحداث انتفاضة الحجارة الأولى)؛ فأصابني ذلك، الآخر الذي يرفضني، بطلقة دمدم؛ فيما كنتُ أدافع، في طفولتي، عن وجودي الأوّل والأصيل، بحجرٍ رومانسي بحجم اللقمة.

لقد منعتني فرنسا من الكشف عن ساقي لاسحق لاور؛ ليتحسّسَ ثلاث شظايا ما تزال تسكن جسدي النحيل، منذ طفولتي المُصابة بفوبيا الطائرات الحربية والأشلاء! وهكذا تكفّ فرنسا ساركوزي عن أن تكون طبيبًا للقضية الفلسطينية. تكفّ، بصورة مستغربة، عن أن تذودَ عن سُمْعتها الثقافية الحضارية والريادية كولّادة للفلاسفة والشعراء والشعر والفلسفة والآداب، وكعنوانٍ عصريّ للحرية، وكحاضنة أخلاقية للحقيقة الإنسانية.

شكرًا لجيل دولوز، إذًا، على كلماتٍ قالها في كتابه quot;نيتشهquot;؛ أكتفي بها خاتمةً لمقالتي الموجهة لفرنسا الدولة.. يقول دولوز: quot;في الوقت الذي تنحطّ فيه الفلسفة يفسح الفيلسوف المُشرّع في المجال أمام الفيلسوف الخاضع. بدلاً من ناقد القيم السائدة، بدلاً من خالق قيمٍ جديدة وتقويمات جديدة، يَبرزُ حافظَ القيم المُسلّم بها. يَكفّ الفيلسوفُ عن أن يكون فيزيولوجيا أو طبيبًا ليصبح ميتافيزيقيا، يَكفّ عن أن يكون شاعرًا ليصيح quot;أستاذًا عامًّاquot;، يقول بينه وبين نفسه إنه خاضع لمتطلبات الحقيقة والعقل، لكن وراء متطلبات العقل، هذه، غالبًا ما نتعرّف على قوى ليست عاقلة إلى هذا الحدّ، هي الدولة، والديانات والقيم الرائجةquot;!!

نصر جميل شعث

غزة
[email protected]