قابلته مرتين، الأولى في صنعاء عام 2004، والثانية في أبوظبي عام 2006، وهاتفته في بغداد قبل يومين من استشهاده فقال لي: إن بغداد آمنة بما لا يقاس بالسنوات الماضية، وإن الوضع يمضي إلى الأحسن، وأنا أحد الذين يرون أن الوضع في العراق يسير إلى الأحسن، مهما كان ما يحدث حالياً، وأن التفاؤل قيمة إنسانية لابد من التمسك بها حتى في قلب الجحيم.
كامل شياع عراقي مهاجر، لم يمنعه الاحتلال الأمريكي ولا السيارات المفخخة، ولا الوضع الأمني المتردي في بلده من العودة إلى هذا البلد، لكي يساهم قدر طاقته ومن موقعه الوظيفي في وزارة الثقافة العراقية، في بناء ما يمكن بناءه في العراق المعذب، ليس بالاحتلال فقط ولا بإرهابيي القاعدة والتنظيمات المسلحة على اختلافها، وإنما بأبناءه أيضاً، ومنهم من يعيش في المنافي منتظراً أن ينسحب الأمريكان ويصبح البلد جنة الله في الأرض حتى يعود إليه.
كامل لم ينتظر بل عاد، وهو يعلم يقيناً أنه معرض مثل أي مواطن عراقي آخر للموت غيلة أو غدراً أو اغتيالاً، وللأسف الشديد، فإن الكثير من العراقيين وخاصة من المثقفين والسياسين والمتاجرين بآلام الشعب العراقي، يتجاهلون أن الحل الوحيد هو أن يضع كل عراقي حزنه خلف ظهره، وأن يذهب الجميع لبناء العراق حتى ولو كان ذلك تحت حراب الاحتلال الذي مهما طال الزمن أم قصر فإنه سيرحل ويبقى العراقيون في مواجهة مستقبلهم وأرضهم وبلدهم.
كامل شياع كان يؤمن بالكثير من وجهة النظر هذه، وكان بإمكانه أن يظل في مهجره في بلجيكا، وينظِّر من هناك مع أو ضد الوضع الراهن في العراق، كما يفعل مثقفون وشعراء بعض أسمائهم لامعة إلى درجة الكفر بهم وبأي قيمة وكلام وشعر وتنظير ينطلق من أفواههم، فما من قيمة أرفع من الحفاظ على حياة الإنسان وبث الأمل والتفاؤل في روحه وما من قيمة أرفع من تجاوز الماضي إلى الحاضر وتجاوز الحاضر إلى المستقبل.
قاتلوه أطلقوا عليه الرصاص من مسدس كاتم للصوت، ربما ثأراً أو انتقاماً أو رفضاً للرؤى التي يجسدها كامل شياع والذي قال عنه خبر مصرعه إنه quot;علمانيquot; وكأن العلمانية سبة أو جريمة أو صفة تتطلب من حاملها أن يخجل منها.
لقد تحاورت مع كامل شياع بما يكفي لكي أصفه بصفة واحدة جامعة مانعة، إنه quot;عراقيquot; وليت كل عراقي كان في بصر وبصيرة هذا الرجل الشجاع الذي عاد ليبني في بلده فاغتاله مجهولون لينضم إلى عراقيين آخرين ذهبوا ضحية إصرارهم على المستقبل في بلدهم.
يا كامل، لا تحزن صديقي، لأنك حي في صورة هذا المستقبل الذي لا أشك كما كنت لا تشك أنت أنه آتٍ ليجرف كل هذا السواد الذي يخيم على العراق، وليجرف في طريقه كل عراقي وعربي أيضاً، لم يجد في وضع العراق الراهن ومنذ الاحتلال الأمريكي، إلا فرصة للنواح والصراخ والمقولات الكبيرة التي لا تبني بيتاً ولا تطعم خبزاً ولا تحرر أرضاً.
أتأمل صورتك الآن مبتسماً وأقول لك إذن أنت صورة المستقبل العراقي.. إذن أنت حيٌ.. يا كامل.
إبراهيم المصري
التعليقات