يعود تاريخ العقل العقل العراقي إلى بدايات التفكير الأولى والى النشاط الثقافي الأول للإنسان ما يجعله الأساس لحالة العقل الحديثة بالرغم من انه حمل ومنذ اللحظة الأولى لميلاده الخصائص التي سوف تميزه عن سواه من جملة العقل الإنساني انطلاقا من الواقع البيئي الصعب (1) والظروف التي مر بها البلد والصراعات التي عاشها وبالتالي حمل ذهنية مختلفة تماما عن ذهنية سواه بما في ذلك وبشكل ما البلدان المجاورة له (2) ورغم أن العقل العراقي هو مكتشف الحضارة الأولى ومبدع أهم الإنجازات الأساسية في حياة الإنسان (3) إلا انه لم يكن في الواقع عقلا ناميا لان العوامل التي صنعته حرمته من هذه الميزة التي حمل عبئها عقل آخر هو العقل العربي الحفيد الأهم للعقل العراقي ما جعل العقل العراقي يعيش عيشة الاحتضار منذ تلك اللحظة والى الآن. ولعل البيئة الصعبة التي ترعرع في كنفها هذا العقل من الأسباب المباشرة لعطالته مع إنها والحق يقال ساهمت بشكل كبير في ريادته للحضارة الإنسانية أما تفسير ذلك فلأن هذه البيئة الصعبة التي تتمثل في البرد القارص في الشتاء والحر القائظ في الصيف والعواصف اللاهية والمتربة والأمطار الموحلة والفيضانات الجارفة التي تأتي في وقت حصاد المزروعات كانت السبب الأساس في دفع الإنسان لمحاولة ترويضها حتى لا يحرم من منافع البيئة الأخرى كتوافر الأرض الخصبة والمياه الوفيرة والمكان الآمن من الاعتداءات (وجود الاهوار) ولذلك كثف مسعاه وخاض أول حرب حضارية عرفها الإنسان تم تصويرها في ملحمة سومرية مهمة هي أسطورة الخليقة البابلية الأمر الذي مكن الإنسان من تحقيق النجاح وبناء أول نموذج حضاري للإنسان عرفه التاريخ..

لكن العقل الذي حقق هذا النجاح الباهر لم يستطع أن يستثمره بعيدا لان طابع (المقاومة) والنضال التي عرف بها العقل العراقي ضد الواقع البيئي تحول سلبا وباتجاه معاكس ما جعله يرفض الكثير من الواردات الحضارية ويمنع عن نفسه التطور ما أوقعه بالتالي تحت طائلة حالتين مختلفتين آليته المتوثبة والنامية وطابعه الحذر والمتخشب ما جعله يعيش وهم التطور الذي ليس له نصيب من الواقع ولذلك بدأ ومنذ وقت مبكر يشتر أفكاره ويكرر مفاهيمه منطويا على ذاته مبتعدا عن كل ما يحركه إلى أمام وبالتالي يصح أن نقول إن عام 2006 ق. م الذي هو عام سقوط أور آخر حاضرة سومرية معروفة مثل في الواقع التاريخ ألتجاوزي لهذا الحدث وان المرحلة التالية لم تكن سوى تكرار لذلك الماضي رغم الذاكرة الطيبة عنها وشمولها بالعطف والتقدير الذي ربما نبع من بقاء بعض الحيوية في العقل أو لعدم وجود حضارات ناهضة يمكن أن تزعزع تلك المرتبة ولعل ابلغ دليل على هذا التدهور بقاء الإنجازات القديمة نفسها دون تغيير تقريبا بما في ذلك الخط المسماري الذي بقي يكتب على الطين إلى نهاية التاريخ الخاص بحضارة وادي الرافدين هذا بالإضافة إلى بقاء الفنون والعلوم والمعارف ذاتها وبالتالي لا تمثل سنة 539 ق.م عاما لانهيار العقل العراقي الذي انهار قبل ذلك بخمسة عشر قرنا إنما هي السنة التي انهارت بها سياسيا الحضارة العراقية ولا يمكننا أن نعد السنوات الأولى التي أعقبت الميلاد النهاية الكاملة للحضارة العراقية لان هذه الحضارة مازالت قائمة وتشهد توالدها المضطرد على مر القرون وهي بين فترة وأخرى تستنسخ ذاتها لتطهر بثوب جديد مع إنها لم تختلف في الجوهر عن الحالة الأولى لها وإذا قدر لهذه الحضارة أن تموت فلن يكون ذلك قبل أن يتغير منطق العقل الذي يحكمها وهو ما يبدو صعبا ومعقدا بالنظر إلى الاستحكامات التي أوجدها هذا العقل لتمنع عنه أي هزات أو اختراقات حيث مثل الدين أهمها على الإطلاق، ولعل التبلور العراقي للدين هو أهم إشارة على هذا التوجه ودليل دافع على إصراره على هذا الأمر حتى أن الدين في العراق قد اخذ طابعا خاصا مختلفا عن سواه لأنه حمل سمات الواقع العراقي ورغم أن هذا الدين لم يكن عراقيا من حيث نشأته إلا انه غدا مستوعبا للنظرة العراقية وللقالب العراقي وهذا الأمر لا يمثل الطقوس والشعائر وحسب بل شمل أيضا الرموز والشخصيات التاريخية حمورابي العادل نظير علي بن أبي طالب وعشتار نظيره فاطمة بنت الرسول وتموز نظير الحسين بن علي وحتى فعالية عاشوراء ليست سوى نمذجة لفعالية قديمة وهي بالتالي تتكرر انسجاما مع إليه العقل الذي يستنسخ نفسه ويوهم نفسه بالتطور وهي تتواصل ولو بنطاق اخف في نماذج أخرى أحدث زمنا ألائمة المراجع الشهداء... الخ.

فيما نجد أن كل مرحله التأسيس أو النمو أو التدهور حتى شبه العراق بالعنقاء أو الفينيق الذي ما أن يحترق حتى يولد من جديد وهو تشبيه له مغزاه بالنظر إلى سلسلة النكبات التي مر بها البلد وتتابع المحتلين والطغاة عليه حتى أصبح العراقي وليمة دائمة لإعشاب البحر وضواري البر ولو جردنا النكبات التي تعرضت لها بغداد فقط لوجدنا أنها تعرضت لأكثر من عشرين غزوا ابتداءً من تمصيرها سنة 762م حيث تتكرر الفاجعة نفسها في كل مرة بما في ذلك ما حصل في احتلالها الأخير من حرق ونهب بلغت أصدائه أرجاء المعمورة وإذا كانت الغزوات والاحتلالات. قد شكلت معلما بارزا من معالم التاريخ العراقي ونموذجا متكررا لحالة الفلتان فان الطغيان السياسي له صداه أيضا وشكل ظاهرة متصاعدة باضطراد حتى أصبح كل طاغية نسخة مطورة لطاغية آخر ما جعل الواقع السياسي رهين مباشر لهذه الظاهرة حتى أصبح بمقدورنا عد السياسة المهدد الأول للعقل بالرغم من أنها لم تنجح يوما في تفكيكه أو العمل على تغييره لان كل حدث سياسي يحمل مغامرته الخاصة التي تجعل من الصعوبة التنبؤ بما يحمله من مفاجآت قد تكون خارقة للمفهوم المعتاد للعقل ما يضع العقل أمام استنفار وتأهب قبل أن يعود من جديد لحالته الأصلية، وبالطبع يمارس خلال هذا الوضع مقاومة عنيدة لكل ما يعكر كسلة ليبقى على الحالة التي يمثلها دائما ولذلك لم نشهد أي تغيير للحالة العامة للسياسة وان حدثت تغييرات في تفصيلات معينة الأمر الذي نستطيع إدراكه بمعرفة أن أيا من الدول التي نشأت في العراق بعد العصر السومري لم تشهد بإدارة العراقيين ولم تنطلق من رغبتهم بما في ذلك بالطبع الحالة الراهنة للدولة والحالة السابقة لها حيث بقي العراقيون مشدودين الى نموذجهم القديم العائد إلى مشهد العقل الأول والذي أصبح معلقا في الوجدان السياسي كصورة مثالية عائمة في خيالهم ما جعل المواطن العراقي سلبي حتى في هذه اللحظة تجاه نماذج الدولة المتكررة لديه ولم يسلم من ذلك حتى عهد الإمام علي بن أبي طالب الموصوف بالعدالة والذي شهد حركة الخوارج الشهيرة النابعة من داخل الوسط العراقي وبالتالي مثلت الدولة الموجودة النقيض الواقعي للمثال إلي يحمله عنها في وجدانه والذي تمثله الدولة الماثلة في العقل (دولة العهد السومري) لذلك لم يعلن يوما ولائه لها ولم يتقبل رعايتها الأبوية بل حافظ على علاقة حذره معها امتازت بالنفاق خشية من غضبها وطلبا لعطفها فيما كان في الواقع بعيدا عنها بكل جوارحه ما يجعلنا نفهم اللامبالاة والانفلات واستحلال المال العام وعدم الإخلاص وغياب الشعور الوطني بأنها من افرازات هذا الأمر وليس لنا أن نتعجب من الحقيقة التي تبرز العراقي وهو يساهم في تخريب وتدمير ما بناه بيديه حتى إننا وبتأثير ما لمسناه في أحداث بغداد الأخيرة وما قراناه في بعض الحالات المماثلة (1) يمكن أن نعد ما حصل ببغداد أثناء هجوم المغول عليها سنة 1258 م على انه نتاج لهذا الأمر وربما ساهم العراقيون في تلك العمليات تحت دافع قومي أو طائفي كما حصل مرارا في العهد العثماني مع أن القومية والطائفية ما هما إلا تمظهرا لإشكالية العقل العراقي وليس تعبيرا عن مفهوميهما الأيدلوجي لان عنفوانهما لم يبلغ في أي مكان المثال العراقي ولم يصل الأمر إلى ما يحصل الآن من قتل وتخريب ليس له نظير (2) حتى وصف ما يحصل في العراق الآن بأنه العبث بعينه.

أما العقل الاقتصادي فلم يغادر أبدا طابعه التقليدي حتى في ذروة التحولات الاشتراكية التي أعقبت عام 1958 بالرغم من أن الواقع المعيشي تغير قليلا وبالتالي لم تثمر التطورات التي شهدها المشهد الاقتصادي في مرحلتي العراق الحديث الملكية والجمهورية عن أي تطور ذو قيمة ولم نلمس أبدا ذلك التحول الخطير المغير في الحالة الاجتماعية والسياسية بالرغم من وجود إمكانيات داعمة للنجاح، لكن المشكلة ليست في هذه الناحية ولا في التوجه السياسي لها بل في حذر العقل وكسله الذي لم يمنح المجتمع العراقي أي فرصة ولو لاستثمار إمكانياته ومقاربة مستويات الواقع المجاور الأمر الذي انعكس بطبيعة الحال على حال المجتمع العراقي الذي غدا متشرذما ومتحللا يمور بالعديد من الاثنيات المتعادية التي يحمل كل منها مشروعه الخاص ونسقه الثقافي المستقل نوعا ما حتى ليبدو أن هذه الاثنيات لم تتعايش كل هذا الزمن (3) ورغم الروابط الثقافية العميقة التي تجمعها ببعضها البعض كما هو الحال بين الشيعة والصابئة في جنوب العراق أو بين السنة والمسيحيين في شماله رغم الهدوء العام الذي يحكم العلاقة بينهم والذي لا يطرح حقيقة ما لدى هؤلاء من مشاعر تجاه بعضهم البعض أو ما يضمره كل منهم للآخر من اختلاف وتناقض ولعل الواقع الحقيقي لهذه العلاقة يتماثل تقريبا مع ما يحصل الآن بين هذه الأطراف من صدود وتباعد وصل حد استخدم العنف البشع والابادة المتبادلة فلا يجوز عد هذا الأمر استثناء تسببت به ظروف معينة بل الصحيح أن نعده حالة متوافقة مع منطقنا العقلي حررته هذه الظروف بعد أن كبل طويلا بسطوة السوط السياسي الأمر الذي انعكس كثيرا على مسار المجتمع العراقي الذي أصبح مشتت الولاءات ولا تحكمه حالة واحدة أي أن حالة المجتمع العراقي المعهودة ما هي إلا نتيجة حتمية لمنطق العقل العراقي بغض النظر عن الفرضيات التي تتناول العوامل المسببة لذلك لأنه لا يمكن بأي حال إحالة المشكلة إلى عامل أو عاملين ولا الاستزادة من العوامل دون إطار محدد (1) لان الزيادة عنوان لحالة أخرى تتجاوز الطرح الاجتماعي إلى ما هو فكري وفلسفي أي أن نظرتنا الاجتماعية يجب أن تحمل ذلك الفهم العميق الذي يوصلنا إلى أعماق الظاهرة الاجتماعية وبناها الداخلية فليس من العلم أن يقال أن المجتمع العراقي مجتمع طائفي دون أن نتوصل إلى ما وراء ذلك إلى المنطق الذي ينتج الاختلاف والطائفية بدليل أن الحالة العراقية تكاد تكون فريدة وتختلف عن سواها كثيرا في هذه الناحية وأي معالجة جذرية لها الأمر لن تكون ناجحة دون النظر إلى هذا البعد ولذلك نحن نلحظ عندما نعاين الحالة العراقية إن أهم ما يبرز منها هو ذلك التركيب الاثني العجيب الذي يؤلف الجسد العراقي والذي لم يصل إلى حدود الهوية الجامعة هوية الوطن العراقي أو الدولة العراقية وكأن مشروع الدولة لم يصل إلى نهايته في العراق بل لم يتجاوز القوالب الاثنية والطائفية الصغيرة المتوزعة بانتشار كبير على عموم مساحة البلد حيث بدا العراق أشبه بعالم صغير من أمم مختلفة لا تربطها روابط كثيرة فيما إن العكس هو الصحيح حيث ترتبط هذه الاثنيات مع بعضها بروابط تاريخية قوية إلا أنها لم تستوعب إطارها الجامع ولم تؤسس علاقة الوحدة انطلاقا من همجية التاريخ ومرارته.

باسم محمد حبيب