للعراق و الأمراض المستوطنة و الوبائية تاريخ عريق و طويل و مؤرشف و على رأي الشاعر الراحل بدر شاكر السياب ما مر عام ليس فيه في العراق جوع !!، و لمرض الكوليرا أو ( الهيضة ) في العراق تاريخ حافل و طويل و ذكريات تتجدد كل صيف و خصوصا في مدن العراق الجنوبية و تحديدا في مدن الناصرية و العمارة و البصرة و حيث تتكرر كل عام خلال ستينيات و سبعينيات و حتى ثمانينيات القرن الماضي الإصابات البشرية الكثيرة بالمرض الذي تحول لحالة عراقية خاصة بل و أكتسب الجنسية العراقية بإمتياز من طول إقامته هناك!، و أسباب المرض معروفة و لا تحتاج لكثير عناء لكشف أسرارها و سبر أغوارها.. إنها القذارة و التلوث لمصادر المياه و تفاعل ذلك مع درجات الحرارة الجهنمية في صيف العراق الملتهب في ظل الإنقطاعات الدائمة للتيار الكهربائي و لقذارة مياه الصنابير و تلوثها بالطين و إختلاطها بمياه المجاري و هي حالة ليست حكرا على عهد الإحتلال و الفوضى و زمن الأحزاب الفاشلة بل أنها كانت حالة سرمدية و دائمة حتى في زمن ما كان يسمى ب( التنمية الإنفجارية ) في أواخر سبعينيات القرن الماضي بعد أن تكدست فوائض البترول النقدية في خزائن النظام البعثي السابق و التي بدلا من أن يستغلها في بناء البنية التحتية و تحسين الخدمات البيئية و إصلاح المنظومة الكهربائية المهترئة فإنه راح يبحث عن مشاريع تسلح نووي و القيام بحملة عسكرة عامة للمجتمع و الدخول في حروب عبثية مخطط لها دوليا كجزء فاعل من مخططات التوريط الإقليمية و التلاعب بدماء الشعوب و إستنزاف ثرواتها و تضييع فرص التقدم، و هنا أذكر تجربة شخصية لي في نهاية السبعينيات فقد كان منزلنا في البصرة القديمة من نوع ( الشناشيل ) التي إنقرضت حاليا أو تكاد و كنا نعاني في النهار من عدم توفر المياه في الطابق الثاني من المنزل ما يستدعي السهر حتى الساعة الثانية صباحا من أجل ملأ خزانات المياه للإغتسال و تصريف شؤون الحياة!! و قد كانت مياها ملوثة بالطين و بشوائب غريبة ما أنزل الله بها من سلطان!، أما الكهرباء فقد كانت تقطع في منتصف الظهيرة البصرية الفظيعة مما يجعل الحياة قطعة من جهنم رغم أن الميزانية العراقية آنذاك كانت متخمة و كان رفاق نظام البعث الذي كان يتبخترون بشواربهم و إنجازاتهم الثورية و توزيع الأموال العراقية على الأحزاب العربية و أجيال المرتزقة في العالمين العربي و الإسلامي و يوزعون الهبات يمينا و شمالا فيما كانت الأمراض الفتاكة تفتك بعرب الجنوب العراقي في ظل غياب الرعاية الصحية و تدهور مستوى الخدمات البيئية بل و إنعدامها و عدم الإهتمام بالمرافق السياحية و الشاطئية في مدن الجنوب فقد كان شاطيء الفرات في مدينة الناصرية مثلا مليئا بالبراز و الغائط و كل أشكال التلوث وهي مسألة لا يتحملها أهالي المنطقة فقط بل يتحملها النظام الذي لم يستطع الإرتقاء بمستوى الشعب و بالخدمات الصحية التي أهملت على حساب الصرف الباذخ و المجنون على صفقات التسلح و بناء المنظومة العسكرية و الإستخبارية و القمعية و التي تهاوت كالعهن المنفوش في أول إختبار جدي !!، لقد كانت الأمراض السارية و لازالت جزءا من التركيبة العراقية العامة، وقد جاءت سنوات الحصار لتكمل الطين بلة و تضيف للتراجيديا العراقية لمسات سحرية من التخلف و التراجع الحضاري و الخدماتي المفجع، ثم جاء زمن الإحتلال بكل فوضويته و سقط النظام السابق و تلاشى و مرت مياه عديدة تحت كل الجسور و أقيمت حكومات تحت رايات إنتخابية توجت بالمشاريع و الوعود و الأحلام الوردية و برزت الأحزاب الدينية و الطائفية بكل شعاراتها الأسطورية و دعايات المظلومية و الإستضعاف لتحاول أن تكون البديل الموضوعي لنظام البعث و تزايدت ميزانية الدولة و التي بلغت أرقاما فلكية جاوزت الأربعين مليارا من الدولارات و لكنها للأسف لم تترجم ميدانيا بشكل صحيح و صرفت على تفاهات و شكليات الديمقراطية الطائفية المزورة حيث نشطت قطط العراق السمان و أقيمت المشاريع الوهمية و بقي الإهمال على حاله لمدن الجنوب و للعراق عموما و كل ما تحسن هو ميزانيات ( المؤلفة قلوبهم ) من أهل الأحزاب الطائفية و قيادات مجالس المحافظات العاجزة و الفاشلة من الذين يجب أن يتم تقديمهم لمحكمة شعبية عاجلة على خلفية فضيحة إنتشار الكوليرا، لقد نجحت الحكومات الطائفية المتعاقبة في شيء واحد فقط وهو ( حماية مشاريع اللطم و ركضات العزاء الماراثونية ) التي خصصت لحمايتها و تسهيل مهامها أعداد هائلة من القوات الأمنية و بدلا من أن يتم توجيه فرق اللطم و الندب و ضرب السلاسل و السيوف نحو تحسين البيئة و الحفاظ على النظافة و إقامة الأوراش الوطنية الكبرى لبناء البنية التحتية المفقودة فإنها وجهت نحو المزيد و المزيد من مشاريع العدم و الأسطورية و الضياع، الكوليرا العراقية ليست سوى نتاج طبيعي لتخلف الأحزاب المهيمنة فبالأمس كان تخلف حزب البعث هو المسؤول عن مصائب العراق و اليوم ورثت الأحزاب الدينية و الطائفية الفاشلة الراية و كررت إستنساخ الفشل بكل تفاصيله، فتلك الأحزاب بأفكارها و تصرفاتها هي مثال فظيع لتخلف القرون و للجمود العقائدي و للعدمية الحضارية، و لن تغادر الكوليرا العراق أبدا ما دام في الطائفية عرق ينبض !!.. تلك هي الحقيقة العارية و بلا رتوش...!.

داود البصري

[email protected]