إن إشتراك اللغة الأم بين أكثر من بلد وإن كانت مفهومة لدى أبناء تلك البلدان إلا أن هناك روحية تكاد لا تميز بل ولا تفهم إلا بين أبناء البلد الواحد ولا أقصد اللهجات لأن طريقة التعامل قد تفهم برموز قد يجهلها الآخر وإن إشترك معهم في نفس اللغة، فتراهم يمدحون من حيث يذمون أو العكس دون أن تفهم مقاصدهم المتفق عليها لا عن زمان ومكان معينين.

وهذا يصل بنا إلى أن كل كتاب يطرح قضية وتلك القضية لابد أن تكون مفهومة لمن يهمه الأمر دون الفهم الذي يكون عابراً على سبيل الإطلاع، فالحس القرآني وإن كان في متناول الجميع إلا أن هناك بعض اللوازم التي تلقى على عاتق أهل القرآن وخاصته أكثر مما يلقى على عاتق العامة من الناس. فإن قيل: إذا سلمنا بما تقول أصبح القرآن كتاب ألغاز ولا يمكن الوصول إليه فضلاً عن فهم أحكامه؟ أقول: ليس هذا هو المقصود لأن القرآن كالغدير الذي يروي الإنسان بمفرده ويروي الجمع من الناس ويروي الأمة بكاملها.

أو كالماء النازل من السماء حين يملأ الأودية كلاً حسب حجمه وسعته، كما قال تعالى: (أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها...... الآية) الرعد 17. فكذلك القرآن حين يتلى على مسامع مجموعة من الناس لا يمكن أن يفهمه الجميع بنفس المستوى بل لا بد أن يكون فهمهم حسب القابل الذي يميز به كل شخص منهم فهو سهل يسير على بعض الناس وممتنع على آخرين، لأن السبيل إليه ناتج عن إستجابة الإنسان إلى الهدى، باعتبار أن القرآن كتاب هداية لا كتاب ألغاز، فمن ناحية يقول تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر 17. ومن جهة أخرى يقول: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) آل عمران 7.

وهذا يدلنا على أن كل إنسان يستطيع أن يتدبر القرآن حسب درجة الفهم المتوفرة لديه والتي تختلف من شخص لآخر فعند تلقينا لقوله تعالى: (والله سريع الحساب) البقرة 202. فإن كلاً منا يذهب ظنه إلى تحليل مختلف عما ذهب إليه الآخر، فمنا من يقول إن الله سريع الحساب أي لا يشغله حساب الناس أفرادا كانوا أو جماعات ومنا من يفهمها على أنها السرعة الخارقة وهناك من يتبادر إلى ذهنه قرب الوقت المعد للحساب، وهذا الفهم الذي إختلف من شخص لآخر يجري في جميع القرآن.

لذلك دعت الحاجة إلى دراسة التفسير ليفتح على الناس ما خفي من أسرار القرآن الكريم التي تصعب على البعض دون البعض الآخر والتي ربما تكون مفهومة لدى العلماء بمقاييس متفاوتة أيضاً فالعالم لا يحيط بمقاصده إلا من علم المراد ولو بوجه وهذا كالمثال الذي في مقدمة المقال لأن الأسرار القرآنية تحتاج إلى من يستخرجها، لذلك تتفاوت مراحل إلتقاط الشاهد القرآني من عالم إلى آخر ومن باحث إلى آخر، وقد يصعب على العامة من الناس أبسط قواعد تفسير القرآن بالقرآن رغم مرورهم المتكرر والمستفاد أحياناً لكن التوظيف ليس في متناول الجميع، فمثلاً هناك تفسير يسمى التصريح بعد الإبهام وهذا أبسط أنواع تفسير القرآن بالقرآن دون علم البعض إن هذا جزء من التفسير رغم إستعمالهم له، ولأجل تقريب المعنى أضرب لك الأمثلة التالية:

قوله تعالى: (القارعة***مالقارعة***وما أدراك مالقارعة) القارعة 1-3. في هذه الآيات لا يفهم المراد من القارعة حتى بمصاحبة التحليل اللغوي لأن المراد أمر خارج عن نطاق المفردات المألوفة لأصل الوضع اللغوي وإن دلت فإنما تدل على الشيء القارع الذي يكون له ضجيج إما أن يتبادر إلى الذهن أن المراد بها القيامة فهذا لا يستدل عليه بمعاني الكلمات التي وضعها أهل اللغة، ولذلك جاء التصريح بعد هذا الإبهام بقوله: (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث***وتكون الجبال كالعهن المنفوش) القارعة 4-5. فدل تعالى بهذا التصريح على أن القارعة هي القيامة، وإن توسع المفسرون بمعناها.

وهذا يجري في الطارق المراد به النجم الثاقب والغاشية والعقبة التي فسرها بفك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة وكذلك الطامة الكبرى والصاخة ومبهمات أخرى كثيرة فسرها القرآن بعد إبهامها. وهناك نوع آخر من أنواع تفسير القرآن بالقرآن يسمى التفسير الدلالي أي ما يستدل بمعلومه على مجهوله وهذا يعرف من السياق، كقوله تعالى: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً) مريم 28. فقوله: [ما كان أبوك... الخ] دل على أن المراد من: [أخت هارون] المرأة العفيفة لذا أنزل الكلام منزلة التذكير بأبيها وأمها بعد نسبتها إلى هارون. وهذا كالمصطلح المشهور لديهم.

وهناك تفسير يفهم بالطباق، كقوله: (وفاكهة وأبا***متاعاً لكم ولأنعامكم) عبس 31-32. والمعنى ظاهر وهذا كثير جداً كقوله: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) القصص 73. وهناك نوع يفهم تفسيره من المواضع الأخرى وهذا يحتاج إلى فهم وملكة ودراسة شاملة لمتفرقات القرآن الكريم ولا أقصد الحفظ المتسلسل لأن الكثير من الحفاظ لا يستطيع الربط بين متفرقات الذكر الحكيم لذا فإن هذا النوع من التفسير يعتمد على المعاهدة القرآنية المتواصلة فإيجاد الشاهد المناسب ورد المتشابه إلى المحكم والتفريق بين الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام والخاص لا يتوصل إليه الإنسان بمجرد حفظه المتسلسل وهذه ليست دعوة للإبتعاد عن الحفظ. فقوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) الفاتحة 7. لا نجد فيه التصريح والإشارة إلى المنعم عليهم ولكننا نجد التفسير في قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأؤلئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أؤلئك رفيقاً) النساء 69. وهذا كثير في القرآن.

ونوع آخر يعرف بالحذف والإختصار فما حذف في موضع نجده في موضع آخر. كقوله تعالى: (ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً) الرعد 31. فهذه الآية الكريمة لا نجد فيها جواب [لو] ولذلك ذهب بعض المفسرين على أن هذه الآية فسرت بقوله: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) الحشر 21. لذلك كان تقديرهم لكان هذا القرآن، وذهب آخرون على أن جواب [لو] قد وجد في قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) الأنعام 111. فكان تقديرهم [ماكانوا ليؤمنوا] وهذا هو الأقرب لتشابه موضوع الآيتين.

وهناك نوع آخر يفهم من القواعد القرآنية التي لا تختلف في الطرح وإن إختلفت الأشخاص والمناسبات ويسمى هذا النوع [الإستدلال العقلي] ومنه الإستدلال على أن الشاهد الذي قضى ليوسف رغم إنه من أهلها إلا أن العلامات التي توصل لها جعلته على يقين من براءة يوسف، لذلك قدم صدقها وأخر كذب يوسف لأجل التمويه على الحاضرين وبنفس القاعدة جعل يوسف السقاية في رحل أخيه ثم بدأ بتفتيش أوعية إخوته قبله كما قال تعالى: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم إستخرجها من وعاء أخيه) يوسف 76. ونفس السياسة التي إعتمدها الشاهد ويوسف نجدها تتبع في موضع آخر من قبل مؤمن آل فرعون كما قال تعالى: (وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم) غافر 28. فقدم الكذب المفترض لموسى على صدقه فتأمل.

وهنالك طرق أخرى لتفسير القرآن بالقرآن لا يمكن أن نسلط الضوء عليها بمقال واحد لذا نكتفي بما قدمنا، وكل الطرق التي ذكرناها والتي لم نذكرها لا يمكن الوصول إليها بمجرد قراءة القرآن أو حفظه على ظهر قلب بل لا بد من الدراسة والإطلاع على كتب التفسير وعلوم القرآن ومن كان هذا نهجه ودأبه فسوف يجد القرآن في متناول يديه لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً ويشهد بعضه على بعض.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]