لأجل تفسير مجرى التأريخ لابد من العودة الى الوراء لمناقشة اهم الآراء التي تناولت هذا الامر، لا سيما ان فلاسفة التأريخ قد طرحوا الكثير من الاسئلة المرتبطة بموضوعة التأريخ وتطرقوا الى ابعاده ومراميه لأنهم وجدوا ان كتابة التاريخ او استذكاره لن تكون مجدية
بدون ادراك قيمة ذلك بالنسبة للواقع لا سيما الواقع الانساني حيث اختلف الفلاسفة منذ القدم حول تفسير مجرى التأريخ متجنبين التفسير الذي يطرح مبدأ السير العبثي كأساس لحركة التأريخ الذي تشير اليه اعتراضاتهم الجدلية اثناء مناقشتهم لهذا الرأي او ذاك منساقين فكراً او ميلاً الى تفسيره على اساس التحريك سواء جاء هذا التحريك نتيجة صراع ازلي بين السكون والحركة، الفوضى والنظام كما تصور ذلك الاقدمون من سكان وادي الرافدين او نتيجة تبادل أدوار والتقاء ارادات كما اعتقده المتأخرون منهم.. لتحفل فلسفتهم بأقدم أساس لفكرة المجتمع الفاضل بطرحهم فكرة المجتمع المثالي او النموذج الذي يمثله بنظرهم مجتمع الآلهة الذي يعد بمثابة الالهام للمجتمع الارضي والحافز لتطوره الى الافضل لذا تفرعت الافكار الرافدينية وامتدت ابعادها عبر الزمان- المكان لتتبلور في اتجاهين، الاول وجداني مثلته الحضارات الشرقية كالحضارة الهندية والفارسية والسريانية واخر عقلي مثلته الحضارات الغربية لا سيما اليونانية والرومانية إذ اتجهت الرؤى والمعتقدات الشرقية الى رؤية العالم كساحة للمواجهة بين عنصري الخير والشر حيث تتسبب هذه المواجهة في حركة التأريخ التي قد تكون ابدية او تنتهي بانتصار احدهم حيث اعتقد كثيرون بانتصار عنصر الخير مما يضفي على حركة التأريخ طابعاً دينياً اخلاقياً والا ستبدو هذه الحركة عبثية او ظالمة وهو ما لا يستسيغه العقل البشري التواق للشعور بالامان والطمأنينة.
على النقيض من ذلك كان الغرب وبالذات اليونان تتبوأ اعلى مراتب الحضارة المتأتية من زخم القيم الحضارية الوافدة عبر البحر والتي وضعت اليونان على رأس العالم المتحضر انذاك لتنشأ دول مزدهرة ونظم سياسية متطورة كانت الاساس لبروز فكرة الجمهورية او المدينة الفاضلة (لأفلاطون) التي تمخض عنها فيما بعد مفهوم العناية الالهية لـ (اوغسطين) الذي انبثق انسجاماً مع الرؤى المسيحية ليكون التأريخ سبيلاً لتشييد مدينة الله على الارض يشاطرهم في بعض ذلك المسلمون رغم انهم يتطرفون في نسبة حركة التأريخ الى الله ويعتبرونها حركة آلهية أي خاضعة بشكل كلي لمشيئة الله حيث يرى بعضهم لا سيما (الشيعة) ان هناك عصراً ختامياً يبلغه التأريخ في نهاية حركته وذلك بظهور الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي يملأ الدنيا قسطاً وعدلا كما مُلئت ظلماً وجورا وهي فكرة مطروحة من جميع الرؤى والمعتقدات سواء الغيبية منها او العقلية ولكن بتفاصيل ومعان مختلفة الامر الذي يطرح احتمالية ان يكون هذا الشعور فطرياً داخل النفس الانسانية سواء على سبيل التمني او التيقن.
ومع ذلك لم يتوقف المسلمون عند النظرة الدينية لحركة التأريخ انما استعاروا فكرة المدينة الافلاطونية الفاضلة بعد ان كملها واعاد طرحها الفيلسوف الاسلامي (الفارابي) ومع ان الرؤيتين المسيحية والاسلامية قد اعطت الدين بعداً محورياً الا انها لم تبعد كثيراً عن الواقع بعد ان حاولت الوصول الى طريق يضمن بلوغ النهاية السعيدة لحركة التاريخ ومن وجهة نظر غير دينية فان تلك المحاولة لها ما يبررها لأجل الوصول بالمجتمع الانساني الى بر الامان وليست رؤية مضللة كما يرى البعض لان الاساس النجاح في تخطي العقبات مهما كانت الوسيلة المتبعة لذا نجد ان الرؤية المخالفة المرتكزة على العقل وحسب شاطرتها هذا المفهوم وان كانت اكثر تركيزاً على الجوانب الواقعية لنجد مدينة افلاطون وقد مثلت بشقيها اليوناني والشرقي ضرورة انسانية لابد من بلوغها لتجاوز الطغيان والفساد المستشري في العالم انذاك مع ان حصولها ليس امراً حتمياً وان رجح ذلك بشكل ما لكونها حاجة الجميع ومطلب التاريخ لذا وجدنا ان التطور الفهمي لحركة التاريخ قد جاء متساوقاً مع تطور العقل وتعقد نسخه حيث بحث الفيلسوف (فيكون) قصور مبدأ العناية انطلاقاً من ملاحظاته في الواقع معتبراً ان العناية لا تمثل بحد ذاتها اساساً لحركة التاريخ انما تأتي الحركة وفقاً لمبدأ التقدم الكامن في الوجود الامر الذي استند عليه (اوكست كونت) في تقسيمه لمراحل التاريخ معتبراً ان هناك ثلاث فترات اساسية ميزت هذا التقدم الاولى اسطورية وتمثلها الفترة التي تسبق ظهور الحضارة اليونانية والثانية فلسفية وتمتد من بزوغ الحضارة اليونانية الى مستهل القرن السابع عشر والثالثة علمية وتمتد من القرن السابع عشر والى الان حيث اثرت هذه الرؤى على تطور فلسفة التاريخ لا سيما بعد ان حرك مبدأ التقدم البحث عن سبب له والا لن يكون هذا التقدم مفهوماً او واضحاً حيث ترادف ذلك مع الاعتراف بان هذا السبب ليس بالضرورة علوياً كما في مبدأ العناية او التحريك انما هناك اسباب نابعة من نسيج التاريخ ذاته منها ما هو بيئي او ديني او عرقي او اقتصادي كما طرحت ذلك النظريات اللاحقة ابتداءً من المبدأ البيئي (لتوماس بكل) الذي اشار الى ان حركة التاريخ هي نتاج حتمي للبيئة اذ كلما كانت البيئة غنية بالموارد كلما كانت اكثر تحريكاً للتاريخ والعكس صحيح والدليل ان الحضارات القديمة نشأت في الغالب حول وديان الانهار كما في حضارات النيل والرافدين والهندوس لكن ماذا عن وديان انهار اخرى كالأمازون والكونغو والمسيسبي التي لم تشهد مثل تلك الحضارات الى ازمان متأخرة؟ لقد وضع هذا التساؤل حداً لهذا التفسير واصبح هناك بديل جدلي طرحه (هيغل) في فلسفته التي ابان فيها عن ان التأريخ هو مسيرة الفكرة المطلقة الى التحقق معتبراً تعاقب الحضارات والدول على انه انتقالات لهذا التحقق.
لكن التفسير الهيغلي لحركة التاريخ لم ينه المشكلة بشكل تام اذ فضلاً عن اطلاقه تساؤلات جديدة يؤخذ عليه ايضاً طابعه الموناليزي اي انطواؤه على وجهين مختلفين (الاول) يميني يرى في التقدم صفة كونية وبالتالي لا يمكن التدخل فيه بشكل مجحف اما (الثاني) فيساري يرى عكس ذلك معتبراً ان الجدلية بافتراضها دوام التغيير تسوغ الثورة بهدف تقليص مراحله الى الهدف المنشود لكن من بمقدوره دفع التاريخ الى لحظة الاكتمال؟ اذ تطرح الجدلية مفهوم الصراع او التناقض كأساس لحركة التاريخ ولابد ان يفرز الصراع الفئات الاكثر حيوية وفقاً لاسباب موضوعية وذاتية حيث طرح البعض وعلى رأسهم (نيتشة) مفهوم العرق المتفوق الذي شخصه بالعرق الابيض معتبراً المنجزات نتاجاً طبيعياً لنشاطه دون سواه ورغم انتشار هذا الرأي الذي رسخ الفكرة العنصرية واعطى الشرعية لحالة الاستعباد الا ان هناك رأياً مضاداً طرحه اخرون ابرزوا فيه دور الاعراق الاخرى خلال مراحل معينة من التاريخ معتبرين الحضارة الاوروبية نتاجاً طبيعياً لتراكم ابداعات الحضارات الاخرى معتبرين الظروف الفاعل الوحيد في بلورة التقدم ولعل ابرز ممثلي هذا الرأي الفيلسوف (شبنجلر) الذي تنبأ بقرب سقوط الحضارة الغربية. اخرون رأوا في الدين سبباً للتقدم مقارنين وضع اوروبا في فترة الهيمنة الدينية في القرون الوسطى بوضعها بعد عصر النهضة الذي شهد تراجع الدين بعد الاصلاحات التي طرأت عليه اما الاقتصاد فقد اعتبره البعض لا سيما (ماركس) الفاعل الاساس في حركة التاريخ لان التباين بين تقاليد الانتاج ونمطه سيكون كفيلاً بتحريك المسيرة الاقتصادية بحثاً عن التطابق الذي لا يأتي مطلقاً وبالنتيجة سنجد ان التطورات الانتاجية هي التي تحتم انهيار الطبقية بحسب الرأي الماركسي لان رأس المال يتبع الانتاج لا العكس ومع ان تلك النظرة كانت سليمة نوعاً ما الا انها ليست دقيقة تماماً لان دور رأس المال دور حيوي في عملية الانتاج وبالتالي سيكون هناك دور مزدوج بين وسائل الانتاج ورأس المال مع ارجحية واضحة للاخير.
واذا كان هذا الاختلاف قد ولد الفكرتين الشيوعية والرأسمالية الا ان للتأثير الايديولوجي دوره الحاسم ايضاً حيث انقسم العالم الى معسكرين هيغليين متقابلين احدهما اليمين المتمثل بالرأسمالية والاخر اليسار المتمثل بالشيوعية بكل طروحها الاقتصادية والفكرية لينشأ نتيجة ذلك صراع طويل غرضه فرض الهيمنة الايديولوجية على العالم الامر الذي حول ذلك الصراع من صراع ساخن الى بارد حيث رأينا ان النتيجة النهائية له كان انهيار احدهما الشيوعية فاسحاً المجال لتفرد الطرف الاخر الرأسمالية الذي اعلن بغرور وخيلاء ان معركة التاريخ قد حسمت لصالحه مستبشراً ببلوغ التاريخ نهايته وذلك وفقاً لاطروحة الاميركي (الياباني الاصل) (فوكوياما) ثم استدرك ذلك الاعلان المتسرع بأطروحة جديدة طرحها (صوموئيل هنتنغتون) الذي ابرز حصول صراع اخير اقطابه هذه المرة ليست ادياناً او اعراقاً او ايديولوجيات انما حضارات معتبراً ان الحضارة الاسلامية ومعها الكونفشيوسية تمثل الطرف الاخر من الصراع في مقابل الحضارة الغربية معتبراً ان هذا الصراع ما هو في حقيقته الا صراع يائس لان التاريخ قد اشر وبشكل نهائي فوز الغرب في معركة الوجود وما على الحضارات الاخرى إلاّ اتخاذ طريق واحد وهو الاندماج مع الغرب وتبني قيمه وافكاره لكن هل فعلاً ان التاريخ بلغ نهايته وان الصراع الحضاري هو الاخير الذي يشهده؟ لا شك ان كثيرين قد آمنوا بذلك معتبرين هذه النتيجة ثمرة لكفاح انساني طويل مشبهين فوز الغرب بسباق يحصد نتيجته من يثبت جدارة في خوضه لكن هل لهذا السباق نهاية فعلاً؟ او انه سباق لا نهائي اصلاً.
ان الاعتقاد ببلوغ نهاية ما هو امر صميمي واساسي لمسيرة الانسان وعلينا لكي نؤمن الفوز حقاً بدلاً من ان ننبذ فكرة السباق نطرح مفهوماً جديداً معبراً عن الهدف الذي نتوق اليه وعلينا ان نتعامل مع الحقيقة بشكلها البائن لنكسب ثقة بعضنا البعض وننبذ اصول او مبادئ الصراع لنستبدلها بقواعد اللعب وليكن التاريخ بعد ذلك ساحة نمارس فيه لعبنا وصولاً الى ما هو افضل للجميع.
باسم محمد حبيب
التعليقات