تعيش منطقتنا الشرقية، منذ قرون، أوهام التماهي في أوصاف ومصطلحات تندرج تحت أجنحتها حركات وإنقلابات وسلطات سياسية، تفرض أحادية الوجود على الكينونات، الدينية والحياتية من سياسةٍ وإجتماعٍ وقانونٍ وثقافة.
من هذه الأوهام التي مرت علينا ولم تزل، هو وهم القومية الواحدة، والأمة الواحدة، والكيان الوطني الإقليمي الواحد، والحزب القائد، والجماهير المتكاتفة والبطل التحرري...والخ.


لكن لم يبلغ أي وهم من هذه الأوهام، قوة وإنتشار وهم الأمة الإسلامية. وأحيانا برز شعار الأمة العربية، كمصطلح رديف، على بعض الأصعدة لمصطلح الأمة الإسلامية!
إذا ناقشنا قوة إيمان المجموعات البشرية في منطقتنا بهذه الشعارات والمصطلحات، فالأمر مختوم بالفشل مسبقاً. لأن إيمان مجتمعاتنا مبني على التوارث الجامد في اللاوعي الجمعي، الذي لا يخضع لقوانين الصيرورة والتطور، إلا على نطاق الأفراد، أو حدوث إنقلابات كبيرة بفعل جيوش جبارة، بدلت في ما مضى الخريطة الإيمانية للبشرية عبر الإزالة والفرض الجبريين. والأمثلة على ذلك كثيرة!


لذلك، فليس من المفيد أن نخوض جدالاً مع العامة في صحة هذه الأوهام. إنه أمرٌ عبثي أن نقوم بذلك.
لكننا نخوض في التفاصيل قليلاً، في محاولة إستقراء مفيدة لجوهر هذا الوجود، الذي يُصطلح عليه بـ (الأمة الإسلامية)!
(الأمة الإسلامية) - وفق حديث منسوب إلى النبي- تفترق إلى أكثر من سبعين فرقة، كلّها في النار إلا واحدة: ما أنا عليه وأصحابي!، يضيف الرسول (ص).


(الأمة الإسلامية) اليوم تفترق إلى مئات الفرق والجماعات. ولا شك أن أي فرقة أو جماعة تدعي أنها هي الفرقة الناجية التي خصها رسول الإسلام، وإلا فما هو المبرر الحقيقي لوجودها، في ظل نفي الجماعات والفرق الأخرى وتكفيرها وإخراجها من الملّة؟!
هل من شكوك حول هذا التفريق، وتعدد المراجع المختلفة والمتناقضة، والأحزاب والمذاهب المتخاصمة من أقصى المعمورة إلى أدناها؟!


هل من ريبٍ في أن هذه الجماعات والكتل تختلف على كل شئ، إبتداءا بالعقائد والفقه فالسياسة، وحتى يبلغ التشرذم والتفريق المناسبات العامة، التي من المفروض أن تخلق جوّاً من الوحدة في البهجة والسرور، كالأعياد وما إلى ذلك؟!
قد يقول قائل وما الضير، أليس ذلك شأناً مألوفاً لدى الأمم؟!
الجواب: لا!


حين تحكم جماعة ما بضلال جماعة أخرى، وتكفّرها وتخرجها من الملّة، فليس ذلك شأن الأمة الواحدة.
حين تتقاتل الجماعات وتنفي بعضها البعض، وتستمر هكذا منذ نشأتها فليس ذلك شأن الأمة الواحدة.
والحديث المذكور، يحدد معالم وهوية وجوهر الأمة الواحدة، التي تقتصر على جماعة واحدة دون غيرها. لذلك ما برحت الجماعات والفرق الإسلامية في إدعاء كونها الفرقة الناجية دون غيرها، إمعاناً وإصراراً ماضياً في دروب الشرذمة والتفريق، الذي لا يُمارس كصيرورة حتمية لوجود الأمة، أو كإستجابة لمتطلبات وأسباب تكوين معنى الأمة الواحدة على الأرض.
والسبب في هذه الأزمة بنيوي متصل بالإسلام نفسه. فمهما أنكر الناكرون غدا شأن الإسلام اليوم كشأن المسيحية مجزءا إلى فروعات مختلفة، كلّ فرع بمثابة دين قائم بذاته بل هي ـ الفروعات ـ الأديان الأرضية بعينها.


والمسافة الزمنية ذي الأربعة عشر قرناً وتسعة وعشرين عاماً، رسخت تعدد الإسلام، كلما اتسع وابتعد عن مكان ولادته. فهذه المسافة ولّدت عملية تلقيح الإسلام بالعادات والتقاليد المختلفة، حسب الزمان والمكان مما أنشأ أنماطاً كثيرة متناقضة بسم الإسلام نفسه، أثارت جدالات واسعة بين الفِرق والمراكز الإسلامية التي يلد بعضها من بعض.


لا يمكن عد مجموعات متناقضة ومتخاصمة ومنكرة لبعضها البعض، أجزاءا متكاملة في تكوين وتطوير الأمة ومتطلباتها.
إن الإختلاف والتناقض بين الفئات والجماعات الإسلامية جوهري وعقائدي، قبل أن يكون إجتماعياً وسياسياً وثقافياً. الوهابية والشيعة متناقضتان إجمالا. وكذلك الأمر بين الصوفية والتيارات السلفية. وعلى نفس المنوال يمكن فهم المحتويات الأخرى لتكوين المسلمين. فالفروقات بين الإسلام الهندي ـ على سبيل المثال ـ واضحة وأساسية مع الإسلام السعودي أو الجزائري أو اللبناني. والإسلام المغربي يسجل في مستويات كثيرة، الإتجاه المعاكس للإسلام الإيراني أو التركي أو الإندونيسي. الإسلام الكُردي ليس نسخة متطابقة، للإسلام الأفريقي أو الصيني أو البوسني. وليس هناك من إتفاق حيوي بين هذه المكونات، إلا في ما يتعلق بالطقوسات، كالصلاة والصوم وبعض المراسيم الدينية الأخرى. إن آداء الصلاة في اليوم والليلة باتجاه القبلة، لا يكفي بتاتا للقبول بوضع هذه الفئات المختلفة في صف أمة واحدة، ناهيك عن عوامل أخرى في الحياة بشكل عام تضيف فروقات أخرى أكثر جوهرية وحضوراً كالتراث القومي واللغة، والعادات والتقاليد، والجغرافيا والتأريخ فضلاً عن السياسة، وبنية وقوام المجتمع عبر التطورات والتحولات الثقافية المتأثرة بالتطورات العالمية.


نعم هناك مشتركات بين هذه الفئات، ولكن هناك مشتركات بين المسلمين وغيرهم أيضا.
وإذا نظرنا إلى الخريطة الإجتماعية لبلادنا، نجد أدلة كثيرة تناقض الإدعاء بالأمة الواحدة بأي مسمى، دينياً كان أو قومياً أو غيرهما.
فالدروز والعلوييون والمسيحييون والأقباط والزردشتييون والبهائييون والقاديانييون والمندائييون والكاكائييون، لا يمكن عدهم جزءا من الأمة الإسلامية.


كما وأن الصراع داخل الدول الإقليمية القومية، بين العرب والآخرين مثل الأكراد والأمازيغ والتركمان والآشور، عمّق مدلول الشرذمة والإختلاف الذي ينقض إدعاء الأمة الواحدة. وهناك كيانات إقليمية قومية غير عربية مثل تركيا وإيران، تعيش منذ ولادتها العداوات والصراع مع الكيانات القومية العربية. ولم يلعب الإسلام دوراً جديراً بالذكر، في تخفيف حدة الصراع بينها. فضلاً عن إلغاء وجود كينونات أخرى وشعوب أخرى داخل هذه الكيانات، بسم القومية تارة وبسم الإسلام تارة أخرى. فالشعب الكُردي في كلّ من سوريا وإيران وتركيا، مازال يعاني الإقصاء والإلغاء السياسي والثقافي والإجتماعي. فيما لم يستطع الإسلام حتى في منع إستعمال الغازات السامة ضدهم، وأو رفع أسلاك المنع بينهم وبين ثقافتهم!


والواقع الأمازيغي والقبطي، يكرر هذا المشهد بأحوال مشابهة ومختلفة أيضاً.
وعلى الصعيد الإسلامي نفسه، تعاني الفئات الإسلامية الإلغاء والغبن بدرجات متفاوتة، حتى داخل الدول الإسلامية التي تطبق الشريعة. السنّة في إيران يعانون ظلماً وغبناً طائفيا. والشيعة في السعودية ودول أخرى يعانون نفس الأزمة!
وفي أماكن كثيرة حيث تمتعت الفئتان بالقوة، حدثت مجازر مروعة مثل باكستان وأفغانستان والعراق وغيرها.
والإسلام لم يقدر أن يصوغ مصطلحاً متفقاً عليه، بين الفرس والعرب على تسمية الخليج الفارسي عند الفرس، والعربي عند العرب!

وعلى النطاق الإجتماعي والثقافي نجد هجوماً مستمراً في الخطب والمحاضرات، من قبل الرموز الإسلامية ضد المجتمعات الإسلامية، بسبب إبتعادها الكبير والمستمر عن الإسلام، حسب ما يذكرنا بذلك علماء الإسلام أنفسهم يومياً.
وإذا أضفنا إلى ذلك جماعات أخرى لا تتقيد بالدين والتراث، يشبه المشهد أكثر صعوبة في تصديق مفهوم الأمة الواحدة لهذا التكوين المتفرق والمتباعد والمتناقض.


فالأنظمة والتيارات العَلمانية، والإلحادية، والأحزاب السياسية التي تشهد صراعاً وقتالاً مع الحركات الإسلامية، تثبت أنها ليست ضمن عملية فرض مفهوم (الأمة الإسلامية)!
كما وأن الإتجاه الإجتماعي والفردي نحو التمتع بالحياة والشهوات متجاهلاً القيود الدينية، وإنتشار ممارسة المحرّم دينياً، بين البشر المحسوبين على (الأمة الإسلامية)، يزيد من شكوى ومعانات الإسلاميين في تحويل خيالهم ووهمهم هذا إلى واقع قائم!
هناك اليوم شبكات واسعة ومنتشرة للمتاجرة بالجنس، وسط طلب ملح من قبل أناس يُفترض كونهم مسلمين. وهناك المثلية الجنسية تجري في مجتمعاتنا سراً وعلناً، والتي تعاني إزدواجيات متفاقمة ومستمرة، تشكل خطورة كبيرة على الصعيد الإجتماعي والثقافي، قبل أن تنقض كونها جزءا من هوية (الأمة الإسلامية الواحدة)!
أما الحركات الإسلامية، أي طلائع (الأمة الإسلامية) ودعاتها، فهي تعاني التشرذم والإنقسام والصراع في ما بينها أيضاً، ناهيك عن تخلفها وعجزها عن منافسة كتل حضارية متقدمة كالغرب ودول أخرى مثل الصين أو اليابان أو كوريا، كما تحلم بذلك الأدبيات الإسلامية!


في مقال لي منشور سابقاً بعنوان (وداعاً مشروع الحركات الإسلامية) نشر في موقع quot;إيلافquot;، تناولت واقع هذه الحركات، لذلك لا أرى ضرورياً الدخول في هذا التفصيل مرة أخرى، وهو معلوم للجميع على أية حال.
وفي ظل هذه المعطيات الواقعية وأخرى كثيرة، تدحض إدعاء الأمة الواحدة على أكثر من صعيد وأكثر من مستوى، تبقى الإتجاهات الإسلامية متمسكة بشد عصبي بدعواها هذه عبر المزيد من النصوص والخطابات الصوتية، والأناشيد الحماسية والعاطفية. وتوظف ذلك في دفع بعض الأوساط المعدومة من الحياة وأخرى متخمة بالرفاه تعاني بالدرجة نفسها الفراغات النفسية والروحية، وتعاني اليأس، إلى ساحات القتال عبر المفخخات الإنتحارية لإبقاء دعوى (الوحدة الإسلامية) حيّة والإيمان بها واجباً، وكذلك عودتها إلى الساحة بخلافة راشدة منتصرة، حتمية لا تقبل الشك والجدال!

علي سيريني

[email protected]