تحديات العلم الحديث في القرن الواحد والعشرين وما بعده



هل سيتمكن العلم الحديث يوماً ما من إماطة اللثام عن أحد أهم وأعقد ألغاز الكون وهي الثقوب السوداء ومعرفة ما يجري بداخلها؟ ومن المعروف أن ظاهرة الثقوب السوداء هي أحد مفاتيح فهم الكون التي ما تزال غامضة كغيرها من الظواهر الكونية الأخرى كالطاقة السوداء أو المعتمة، والمادة السوداء أو المعتمة، وقفزات إشعاعات غاما sursauts gamma، والتي يصفها العلماء بـ eacute;xotiques أو الغريبة وغير المألوفة لأنها تحدث أو توجد في ما وراء الحدود التي تسمح بها الفيزياء المعروفة، والتي بمعرفتها سنكشف عن أسرار القوانين التي تدير الكون المرئي برمته. قبل كل شيء يجب أن أنوه أنه لا يوجد في الفيزياء الكونية وعلم الكونيات شيء اسمه الثقوب البيضاء إنما هي تسمية استخدمتها للتدليل على ظاهرة علمية معروفة باسم الفرادات العارية أو المكشوفة Les singulariteacute;s nues وهي كالثقوب السوداء لكنها تناقضها وتعاكسها كلياً لذللك أسميتها بالثقوب البيضاء.


يمكن النظر للثوب السوداء كنقاط حاجبة membranes باتجاه واحد أي بمثابة غشاء يسمح بالنفوذ من خلاله ولا يسمح بالخروج منه ويعزل كلياً عن الخارج كل شيء يدخل فيه. وإن ما يجري في أعماق الثقب الأسود لا يؤثر على الإطلاق على ما يوجد حوله وخارجه من باقي مكونات الكون المرئي. يهتم علماء الفيزياء النظرية physiciens theacute;oriciens،وليس علماء الفلك astrophysiciens بما يحدث للمادة داخل الثقب الأسود. وفي حقيقة الأمر تقول التفسيرات المعتادة والمتبعة للمعادلات الرياضية التي تصف وتعالج وتقيس الثقب الأسود، بأن المادة المبتلعة من قبل ثقب أسود تضيع إلى الأبد ومعها تختفي كل المعلومات التي تحتويها وتتضمنها تلك المادة. فعلى سبيل المثال لا يمكننا التمييز بين ثقب أسود مكون من مادة طبيعية matiegrave;re ordinaire عن ثقب أسود مكون من مادة مضادة antimatiegrave;re أو مكون من النوترينو neutrinos. فالكتلة la masse مع الشحنة الكهربائية وسرعة الدوران la vitesse de rotation، هي الكميات الوحيدة من المادة التي لا تضيع إبان تشكل أو تكون أو تطور ثقب أسود. وفيما عدا ذلك، لا يمكن الحصول على أية معلومات عن أي شيء آخر، حتى طبيعة المادة التي أدت إلى ولادة الثقب الأسود، والحال أن هذه الحالة تطرح علينا عدة إشكاليات ومشاكل تستدعي الحل أو الإجابة. يوجد في ميكانيك الكم أو الميكانيك الكوانتي meacute;canique quantique، وهو العلم المختص باللامتناهي في الصغر وعالم الجسيمات والجزيئات الدقيقة، خاصية proprieacute;teacute; تدعى unitariteacute; يتعين احترامها وأخذها بعين الاعتبار مهما كلف الأمر في الحسابات والمعادلات والقوانين الفيزيائية الاعتيادية، في حين أن انغماس المادة في الثقب الأسود وابتلاع هذا الأخير لها وضياع المعلومات المرتبطة بها، لا يحترم هذه الخاصية الفيزيائية المسماة unitariteacute;، ولكن هذا لا يعني أن ميكانيك الكم ينفي وجود الثقوب السوداء ولا العكس صحيح أيضاً، بل يؤشر ذلك إلى أن المحيط خارج الثقوب السوداء ليس عازلاً تماماً لما يدور في داخل تلك الثقوب. اكتشف العالم الشهير ستيفن هاوكينغ Stephen Hawkin، المتخصص بالثقوب السوداء، سنة 1975، أن الثقوب السوداء تتبخر مع مرور الزمن لأنها نقطة انطلاق لانبعاث إشعاعات بكميات قليلة جداً لا يمكن رؤيتها، تؤدي بدورها وعلى مدى زمني طويل جداً إلى فقدان الطاقة، أي فقدان مقدار من الكتلة بموجب معادلة آينشتين الشهيرة quot;: الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربع سرعة الضوء E=mc2 quot;quot;، ويستمر التبخر eacute;vaporation إلى أن يبلغ الثقب الأسود مستوى كتلة أقل من ملليغرام واحد لانعرف بالضبط ماذا سيحدث للثقب الأسود بعد ذلك وربما يمكن استعادة جزء من المعلومات المرتبطة بالمادة التي كونت الثقب الأسود علماً بأننا نجهل كلياً في الوقت الحاضر آلية وطريقة حدوث ذلك لأن الوقت الذي يستغرقه تبخر الثقب الأسود يقاس بمليارات المليارات المليارات المليارات المليارات المرات من عمر الكون المعروف لدينا حالياً وهو حوالي 14 مليار سنة. لذلك من المستحيل على العلم في وقتنا الحاضر أن يقدم إجابة قاطعة عما يحدث داخل الثقوب السوداء. ولكن ماذا عن الثقوب البيضاء أو الفرادات العارية أو المكشوفة Les singulariteacute;s nues؟


من المتعارف عليه بين أوساط العلماء أن النجوم ذات الكتل الهائلة جداً eacute;toiles tregrave;s massives تنهار وتنكمش في نهاية عمرها وتتحول إلى ثقوب سوداء، بيد أن بعض النماذج النظرية تنوه إلى إمكانية تحولها إلى ثقوب بيضاء أو فرادات عارية خالية من أفق الأحداث. الثقوب البيضاء هي الشقيقة غير الشرعية وغير المعترف بها للثقوب السوداء والنقيض لها حتى أن الكثير من العلماء أعربوا عن استحالة وجودها لعقود طويلة واليوم تغيرت الآراء وأقر بعض العلماء بإمكانية وجودها.


لقد سبق للعلم أن أدخل العديد من الآراء والأفكار العجيبة والغريبة ومن بينها مصير النجوم الشائخة التي تقترب من نهاية حياتها لا سيما إذا كانت ضخمة وذات كتل هائلة eacute;toiles tregrave;s massives. لايمكن لنجمة كبيرة من هذا النوع، بعد استهلاكها لمخزونها من المحروقات combustible التي غذتها لملايين أو مليارات السنوات قبل انطفائها، أن توازي ثقلها الهائل، وبالتالي سيكون محتماً عليها أن تنهار على نفسها وتتحول إلى ثقب أسود. أما النجوم المتواضعة الصغيرة أو المتوسطة الحجم كشمسنا فإنها ستنهار أيضاً في نهاية عمرها بيد أنها قد تجد صيغة أخرى لاستقرارها في حجم أصغر وتتحول إلى قزم أبيض naine blanche. أما بالنسبة لنجمة أكبر قليلاً من متوسطة أو لديها كتلة كافية suffisamment masive فإن قوة الثقالة graviteacute; فيها تكون بدرجة تمكنها من التغلب على بقية القوى التي تعارض أو تقاوم الانهيار. وانطلاقاً من حجم نجمة لا يتجاوز قطرها أو قطر قلبها، بضعة ملايين الكيلومترات، فإنها سوف تنضغط وتنكمش إلى نقطة ذات كثافة لا متناهية، فإن أغلب علماء الفلك والفيزياء الفلكية والكونيات يعتقدون أن النتيجة ستكون حتماً ثقباً أسود، وهو جسم ذو ثقالة من الكثافة بمكان لا يمكن معها لأي شيء أن يفلت منها إلى الجوار المباشر للثقب. يوجد في أي ثقب أسود جزئين: في مركزه توجد الفرادة la singulariteacute; أي النقطة اللامتناهية في الصغر infiiteacute;simal حيث تتركز وتتكاثف كل المادة المكونة للنجم المنهار. وحول نقطة الفرادة توجد مساحة أو فضاء لايمكن لشيء أن يفلت من جاذبيته أو ثقالته، ولا حتى الضوء. وتسمى حدود هذه المساحة أو المنطقة بأفق الأحداث horizon des eacute;veacute;nements وأي شيء ينفذ إلى داخل أفق الأحداث لن يمكنه أن يخرج أبداً. حتى الضوء الذي يبثه الجسم المنجذب إلى داخل الثقب الأسود إذا دخل لن يخرج بعد ذلك على الإطلاق، وفي نهاية المطاف سيسقط الجسم أو الشيء على نقطة الفرادة.


تتفق قوانين الفيزياء الحالية على كيفية تشكل الفرادة بدقة لكنها غير دقيقة، بل وأحياناً غامضة فيما يتعلق بأفق الأحداث. كما يتفق علماء الفيزياء على ضرورة تشكل أفق الأحداث على الأقل لحجب الثغرات النظرية التي تعتور هذه القضية لأن العلماء والمنظرين لا يفهمون بالضبط حالياً، وعلى وجه الدقة، ما يحث داخل نقطة الفرادة: من الواضح أن المادة تكبس وتتقلص ولكن ماذا يحدث لها بعد ذلك؟ يبررون عدم معرفتهم بوجود أفق الأحداث الذي يحجب كل شيء ويمنعه من الخروج. بعض الأبحاث تعيد النظر وتطعن بصحة هذه الفرضية. وقد تخيل بعض العلماء عدداً من السيناريوهات المتنوعة عن عمليات انهيار النجوم والتي لا يتشكل فيها أفق الأحداث مما يعني أن نقطة الفرادة تظل عارية أومكشوفة، وأن ما يحدث فيها سيكون له تأثير منظور على الحيز المكاني المحيط بها. الفرادات، سواء المغطاة بأفق الأحداث، أو العارية والمكشوفة، رغم غموضها وخاصيتها اللغزية، إلا أنها عبارة عن مناطق تكون فيها قوة الثقالة لامتناهية force de graviteacute; infinie، وحيث تستسلم عندها قوانين الفيزياء المعروفة. كانت نظرية النسبية العامة لآينشتين قد تنبأت بالثقوب السوداء نظرياً لكنها لم تأخذ بالحسبان التأثيرات الكوانتية أو الكمية effets quantiques التي تغدو مهمة في المستويات الصغيرة جداً وتتدخل هذه التأثيرات الكمية لمنع الثقالة من أن تصبح لامتناهية بالرغم من عجز العلماء عن وضع أو إيجاد نظرية كوانتية للثقالة theacute;orie quantique de la graviteacute; تتيح معرفة وتفسير الفرادات بنوعيها المغطى بأفق الأحداث والمكشوف أو العاري، والجدير ذكره أن قطر أفق الأحداث يتناسب طردياً مع كتلة الثقب الأسود أو الأبيض. فعلى سبيل المثال يكون قطر أفق الأحداث horizon des eacute;venements لثقب أسود ناجم عن انهيار نجم بحجم شمسنا حوالي ثلاث كيلومترات. وخلال فترة زمنية لا تتجاوز واحد من ألف من الثانية من انهيار النجم يتكون أفق الأحداث ويحجب ما يدور خلفه في نقطة الفرادة. إن وصف انهيار نجم على نفسه في إطار نظرية النسبية العامة مهمة عسيرة جداً لأن معالات آينشتين عرفت بتعقيدها وصعوبتها لذلك لجأ العلماء إلى وسائل افتراضية تبسيطية فاعتبروا النجم موضوع الدراسة دائري أو كروي ومتجانس الكثافة وأهملوا ضغط الغازات فيه، أي كان أنموذجاً مثالياً، وبالتالي لا يمكن إلا أن ينهار بصورة متناسقة ومتجانسة ويغدو صغيراً بما فيه الكفاية بحث لا يمكن إلا أن يتشكل له أفق أحداث ونقطة فرادة مثاليين أي ثقب أسود حتمي، والحال أن النجوم المنهارة على نفسها في الواقع هي أكثر تعقيداً من هذه الصورة المثالية التي لجأ إليها العلماء للتعاطي مع معادلات آينشتين في هذا المجال. فالكثافات في النجوم المنهارة ليست متناسقة و لا متجانسة، والغازات فيها تمارس ضغوطاً لا يمكن تجاهلها أو إهماله،ا والنجوم نفسها ليست دائرية أو كروية تماماً. ومن هنا يمكننا القول أنه ليست كل النجوم العالية الكتلة في نهاية حياتها ستتحول حتماً إلى ثقوب سوداء.


في عام 1973 تمكن العالم الفيزيائي الألماني هانس يورغن سيفيرت Hans Juuml;rgen Seifert وزملائه نمذجة modeacute;liseacute; انهيار نجم غير متجانس inhomogegrave;ne واكتشفوا بكثير من الدهشة أن طبقات من المادة المتميزة والملحوظة يمكن أن تتقاطع أثناء إنهيارها لتخلق فرادات آنية أو لحظية غير محاطة بأفق أحداث. ومن ثم غدت الكثافة لانهائية، ولكن لم تكن هذه هي حالة كثافة الثقالة lrsquo;intensiteacute; de la graviteacute; ولم يعرض ذلك نظرية النسبية العامة للخطأ. وإن المادة الساقطة على تلك الفرادات المتكونة لم تنكبس أو تنضغط وتنكمش إلى مستوى رأس الدبوس، وبالتالي تخترق المادة تلك الفرادات بدل أن تحبس داخلها أو تختفي. وفي عام 1979 قام العالمان الأمريكيان دوغلاس إيرلي Douglas Earley و لاري سمار Larry Smarr بتجربة محاكاة رقمية بالكومبيوتر لانهيار نجم ذو كثافة واقعية، وأعقبهما تحليل نظري للحالة أجراه ديمتريوس كريستودولوDemetrios Christodoulou من المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا institut feacute;deacute;ral de technologie في زيورخ سنة 1984 وتمخضت النتائج عن تقلص النجم إلى درجة تقرب من العدم taille nulle مما قاد إلى نشوء فراد عارية غير محاطة بأفق أحداث أي تكون ثقب أبيض ذو ثقالة ضعيفة، لكنها ليست نتيجة منتظمة أي ليست الثقالة ضعيفة بالضرورة في كل الحالات المشابهة، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار ضغط الغازات، والضغط الناجم عن دوران الجسيمات داخل النجم وهو يتقلص وينكمش، ومع ذلك أثبت العلماء إمكانية تكون فرادات عارية تطرد المادة الساقطة عليها بدل أن تمتصها وتعكس الضوء الساقط عليها بدلاً من إخفائه بداخلها كما هو شأن الثقوب السوداء، لكنهم لم يفلحوا في معرفة مايجري بداخلها، وقد يكون ذلك ممكناً في الغد القريب.

د. جواد بشارة
[email protected]