من يسمع اليوم في العراق،تردد قولة أو صيحة (السيد النائب) وكم، وكيف تتردد، وما تحدثه في النفوس،لا بد أن يعتقد بعودة ( السيد النائب ) صدام من قبره عبر أعماق العقل الباطن لبعض الناس، غدد الخنوع لدى بعض عساكر السلطة، أو مراكز الإعلام!

من المعروف أن صداماً حتى حين كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، كان هو الحاكم الفعلي للعراق، وكان البكر يشكو لمقربيه كيف وقع ببلاهته ورعونته بفخ السيد النائب،وقد أشار لذلك بشكل مبطن في خطاب تنحيه الإجباري عن السلطة!

وقد ظل (السيد النائب) يحكم العراق بمخالبه، وبالحديد والنار، في أعوام السبعينات حتى إبعاده للبكر نهائياً، وصعوده أواخرها، وقتله له فيما بعد، وحكمه العراق كرئيس وبالطريقة المعروفة.

ولأنه يعرف وقع قولة السيد النائب) في نفوس الناس، فقد منع تابعه الخنوع عزة الدوري من استعمال لقبه الفضي ( السيد النائب ) فعرف برئيس المجلس الزراعي الأعلى أكثر من منصبه نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة،بينما فضل العراقيون تسميته بمسؤول خط الدراويش في مجلس قيادة الثورة، ظالمين الدراويش الطيبين بذلك، أو ( أبو الثلج )،وأعتقد إنها تسمية غير موفقة، فبيع الثلج مهنة شريفة، خاصة في العراق الساخن دائماً كجسد المحموم بالعشق،والثلج يوحي بالبراءة، وبأن الدنيا برداً وسلاماً، بينما كان لا ينبعث من عزة الدوري ومن أصحابه سوى النار والعار!

واليوم وبعد أن طوي ذلك العهد كما قيل وكما أشيع في الصحف والفضائيات، تسمع أين ما التفت في بغداد قولة وصيحة (السيد النائب) تقفز كالبراغيث من شاشة التلفزيون،ومن صفحات الجرائد، ومن الشارع حين يمر موكبه، ويسد الطريق وتخرج حمايته لتزحم الناس وتدفعهم، لتشق له الطريق سالكاً عريضاً بقعقعة السلاح، أو بإطلاق الرصاص في الهواء، أو بصفع الناس وركلهم وإذلالهم!

في بغداد اليوم مئات النواب: نواب البرلمان ونائبي رئيس البرلمان، ونائبي رئيس الجمهورية، ونواب رئيس الوزراء، حتى رؤساء المؤسسات والشركات والعشائر لهم نواب، كذلك الحال في كردستان، كلهم اليوم، لا ينادون بوظائفهم المحددة المفهومة الواضحة،وبالطريقة الحضارية المهذبة التي تليق بمقاماتهم كرجال مسؤولية لا رجال استعراض وفخفخة وأبهة ورعب، بل يتقدمهم ويتبعهم هذا اللقب المخيف الغامض محمولاً على الرشاشات وعضلات رجال الحماية ليلقي الروع في القلوب:السيد النائب! وإذا أضفنا لهؤلاء أسماء متنفذين بأجهزة الدولة لا تعرف طبيعة وظائفهم ولا مواقعهم، ولم ير أحد وجوههم، أو يتشرف بمصافحتهم ككائنات بشرية من هذه الأرض، وليس من كوكب آخر، بل يسمع فقط ألقابهم،فهذا أبو كرار،وذاك أبو جرار، وهذا أبو حيدر،وذاك أبو أيسر، وهذا أبوب سناء وذاك أبو هناء،وبلاء، أما نوابهم فيلقب كل نفسه ب( السيد النائب ) فيكون لرنين لقبه على المواطن المسكين وقع أشباح القبور على سابل ليل!

ولك أن تدرك حجم الرعب الذي ينهال على الناس من فوق ليلتقي بهول رعب آخر يصعد من تحت، حيث التفجيرات الإرهابية والعبوات اللاصقة والحرائق وعصابات السطو على البنوك ومحلات الصيرفة وخطف الأطفال والرجال والنساء وحتى الشرطة،وأسماء وألقاب رؤساء عصابات الخطف ونوابهم! كماشة رعب وهول!مسكين شعبنا!

ترى ما سر هذه الظاهرة؟ أهي نزعة مكبوتة حيث يقال أن الضحية تقلد جلادها؟ وإن هؤلاء المهووسين اليوم بألقابهم كانوا طيلة وجودهم خارج العراق معارضين لصدام،أو منافسين له على السلطة والحكم، لم يكونوا يشعرون أنهم أرقى منه بمشروعهم الحضاري أو بسلوكهم وشخصياتهم وأرواحهم وضمائرهم؟ أكانوا حتى وفي لا وعيهم يشعرون بالدونية أمام السيد النائب، بينما هو لم يكن سوى سفاحٍ قاتل ولصا كبير وضيع؟ وهم ضحايا يفترض أنهم يناضلون من أجل شعبهم و مستقبل أفضل له؟

ما يؤسف له أن الأيام الحالية ترينا أنه لم يكن في جعبتهم غير لغة التسلط، والتهالك على المال، وحب الظهور، وإخضاع الناس أو إذلالهم مقابل لا شيء: فلا توفير خدمات ولا إسعاف جراح،ولا إشراقة صباح!

بعض وسائل الإعلام ساهمت في هذه اللعبة المفزعة أيضاً، فهي قد تملقت وتزلفت وكذبت وكانت تقصد الكثير بلقب السيد ( السيد النائب )، فهي تعرف أنه كما في حالة صدام أخطر من لقب الرئيس،وقد ظلت امتداداً للمدرسة الإعلامية الصدامية التي عودها على الخنوع والانحناء تواصل تأليه القائد والركوع له؟

البعض يقول أنها نزعة عراقية أزلية لتعاقب الطغاة على حكم العراق!

لكن ميثيولوجيا العراقيين تقول أن جميع الآلهة حتى عشتار وتموز لم تبق معتكفة في السماء، بل هبطت على الأرض وعاشرت الناس وتمازجت معهم، وتبادلت معهم الحب والوفاء،حتى قيل أن العراقيين هم الذين صنعوا آلهتهم وملوكهم، وليس العكس!

ما ذا جرى لعقول هؤلاء؟ لماذا يطربون اليوم وينتشون لصيحات وأنات الخضوع لهم من الناس، ويثورون لأدنى معارضة أو صوت مختلف أو حتى مناداتهم بأسمائهم أو وظائفهم دون هالات التمجيد والإعلاء والتأليه، كأن يقال نائب في البرلمان،ونائب لرئيس الجمهورية ونائب رئيس الوزراء وحسب،دون هالة غموض ورعب وفزع وتمجيد وقعقعة سلاح أو مكرفونات! أيها السادة: النواب الأعلى والأدنى، الأصل أو الفرع، احذروا من ظاهرة عبادة الحاكم،احذروا من تضخيم السلطة لتسحق الفرد، احذروا من نفخ الكراسي كبالونات ومناطيد، تذكروا صدام ومصيره وقبله هتلر وستالين وموسيليني، أين هم؟ نواباً ورؤساء،سلوا المؤرخين عنهم،سلوا القبور والصدور، سلوا منافذ الحصون، فجوات الغصون، هل تذكر كم مر بها من هواء؟