التطور القانوني الجديد بتعميم الإنتربول الدولي لأسماء عدد من كبار المسؤولين الأمنيين المغاربة لمسؤوليتهم عن خطف و تغييب و لربما إعدام المعارض المغربي الأشهر في العصر الحديث السيد المهدي بنبركة عام 1965 ومن ثم التعليق السريع لذلك القرار و تجاوزه من وزارة العدل الفرنسية قد جاء في توقيت غريب ليخلط جميع الأوراق و يعيد للذاكرة أحداث محزنة و مريعة مر عليها ما يقارب النصف قرن من الزمان جرت خلالها مياه عديدة تحت كل الجسور و أفرزت تطورات سياسية و مجتمعية و قانونية تجاوزت بكثير مآسي تلك المرحلة الحرجة من تاريخ المغرب السياسي الحديث ؟، فالمصالحة الوطنية مع الماضي و مع التاريخ القمعي السابق قد أضحت حقيقة ميدانية، و لجان الإنصاف و المصالحة و إن لم تكن قد حسمت ملفات العديد من القضايا إلا أن الجزء ألأكبر منها قد تم إنجازه، كما أن المصالحة مع الماضي تعني إسدال الستار على العديد من المآسي التي حدثت و التي كانت للظروف الدولية و الإقليمية و أحوال الحرب الكونية الباردة دور كبير في إقرارها، المغرب الرسمي لم ينف أبدا تاريخ و حقائق مرحلة العنف أو ما عرف في ألأدب السياسي المغربي بمرحلة سنوات الرصاص، بل أنه قد إمتلك من الشجاعة و الشفافية ما جعل أقلام الذين عانوا من نتائج و تداعيات و أهوال تلك المرحلة مشرعة و مفتوحة بالكامل لذكر كل ما حدث و بتفاصيل دقيقة ووفق طريقة لا يوجد ما يماثلها في العالم العربي، فمأساة سجن ( تازمامرت ) الصحراوي الرهيب مثلا قد أضحت من الحقائق المرعبة التي تلهج بذكرها العديد من الكتب و الروايات و المقالات التي كتبها ضحاياها أو المهتمين بالتاريخ السياسي للمغرب الحديث، و المغرب شأنه شأن جميع دول العالم الثالث شهد مراحل صراع داخلي و إحتقانات عنيفة عبرت عن نفسها بأكثر من محاولة إنقلابية و بالعديد من أحداث العنف و التمرد التي حملت طابعا ثوريا و صداميا مع السلطة، و المغرب الرسمي كدولة و مؤسسات إستطاع أن ينفذ بصعوبة و لربما بمعجزة من أحوال الإنقلابات العسكرية التي هزت الشرق العربي و غيرت الكثير من الأولويات و البرامج وخطط التنمية، بعد أن شوه العسكر السياسة كما حصل في ليبيا و العراق و سوريا و أماكن أخرى عديدة.

لقد تمكن العرش الملكي من تجاوز العديد من الإشكاليات المحرجة و أستطاع عبر الشعار الذكي الذي رفعه الملك الراحل ( الحسن الثاني ( إن الوطن غفور رحيم ) أن يمتص قوى الزخم الثورية الإنقلابية و أن يصل لتفاهم مؤسساتي مشترك مع المعارضة الشعبية التاريخية التي أتيحت لها فرصة المشاركة بل قيادة العمل الحكومي في المغرب إعتبارا من أخريات أيام الحسن الثاني عام 1998 وحيث تم التفاهم بين رفيق المهدي بن بركة السيد عبد الرحمن اليوسفي لتشكيل حكومة التوافق أو التناوب الوطنية التي كانت في وقتها حدثا مثيرا للإهتمام، و حيث تمت تصفية العديد من تركات و ملفات الماضي السوداء و منها قضايا المعتقلات السرية و التعذيب الممنهج و تعويض المتضررين و المصالحة مع الماضي و التوجه لترسيخ العملية السياسية على قواعد ديمقراطية لا تتأثر بالهزات و العواصف رغم العديد من النواقص و الخروقات التي لا تفسد للود قضية، و قضية إختفاء أو خطف المعارض المغربي اليساري المهدي بن بركة تظل واحدة من أكثر القضايا غموضا في تاريخ العالم المعاصر.

فالإتهامات ما برحت تتطاير من هذا الطرف أو ذاك دون الوصول للحقيقة الكاملة، فالمهدي قد إختفى من الوجود إعتبارا من يوم 29 أكتوبر 1965 بينما كان بصدد التحضير لمؤتمر القارات الثلاث الذي كان مقرر إنعقاده في ربيع 1966 و كانت العديد من الأجهزة السرية تطارده في تلك المرحلة التي إستعر فيها الصراع وحملات المطاردة و الحرب الباردة، وقد وجهت الإتهامات لوزير الداخلية و الدفاع المغربي الأسبق الجنرال محمد أوفقير بالتخطيط و التنفيذ لتلك العملية و لكن ظل أوفقير و حتى لحظاته الأخيرة في حالة صمت تام، بينما قدم نائبه وقتذاك ورجل المغرب القوي فيما بعد الجنرال أحمد الدليمي نفسه لسلطات التحقيق الفرنسية و لم يثبت عليه أي إتهام و أطلق سراحه عام 1967 ليظل الملف معلقا برقبة أوفقير و رجاله، فالذين تطاردهم الإتهامات اليوم كانوا من أهل المؤسسة الأمنية و الإستخبارية التي حكمت المغرب، فالجنرال حسني لن سليمان مثلا وهو منذ عام 1977 القائد العام للدرك الملكي المغربي كان يشغل وقتها منصبا أمنيا حساسا، و الجنرال عبد الحق القادري مدير المخابرات العسكرية الأسبق و المفتش العام للجيش الملكي المغربي حتى عام 2004 كان يشغل منصبا أمنيا في السفارة المغربية في باريس أما ميلود التونسي فكان أحد رجال المخابرات.

أما السيد عبد الحق العشعاشي وهو أحد رجال المؤسسة الأمنية و الإستخبارية فكان يشغل منصب مدير مكتب العقيد أحمد الدليمي مدير ألأمن الوطني وقتها، و العشعاشي اليوم يعيش متقاعدا و مريضا في أيامه ألأخيرة في سكنه في ( حي السويسي ) الراقي في الرباط بينما توفي شقيقه الأكبر و رجل المخابرات محمد العشعاشي قبل سنوات !!و المتورط هو الآخر في ذلك الملف الشائك، جميع هؤلاء لا أعتقد أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة بعد أن رحل الجنرالات الذين قادوا سنوات الرصاص وهم أوفقير و الدليمي أعوام 1972 و 1981 ؟ و ملف الإختطاف تحول لقضية دولية جميع أوراقها حبيسة الملفات السرية لأجهزة المخابرات الدولية الفاعلة كالأميركية و الفرنسية و حتى الموساد الإسرائيلية، و المهدي بن بركة قد رد له الإعتبار وطنيا وهو يحظى اليوم بمكانة متميزة في الضمير السياسي و التاريخ النضالي للشعب المغربي، وبرغم كل الإنفتاح الديمقراطي في المجال المعلوماتي في المغرب إلا أن قضية إختفاء بن بركة ظلت تسبح في وادي سحيق من الغموض وحتى المعلومات التي أعلنها العميل السابق في المخابرات المغربية ( أحمد البخاري ) عن كيفية خطف و تعذيب و موت بن بركة ظلت الشكوك تحوم حولها وحول مصداقيتها ! فلا وجود للجثة و لا لأداة الجريمة!! ويبدو أن جدران الصمت المطبق تأبى أن تغادر هذه القضية الغامضة و الشهيرة و التي تعيد إلى الأذهان بغرائبيتها و غموضها كل ذكريات ( سنوات الرصاص ) التي أضحت من أساسيات الذاكرة التاريخية للمغرب المعاصر، فملفات القمع في العالم العربي تظل واحدة من عجائب الدنيا! و ما كشف عنه لا يعدو سوى أن يكون القليل ؟ إذ تبقى قضية كشف ملفات المخابرات العربية من المستحيلات الخالدة.. كالغول و العنقاء.. و الخل الوفي..؟

[email protected]