غنيٌّ عن البيان أنّ الخلافات اليونانيَّة _ التركيَّة تمتدُّ جذورها للحقبة العثمانيَّة، وحروب الأتراك في البلقان، مروراً بما يسمِّيه الأتراك بحرب تحرير تركيا، التي قادها مصطفى كمال أتاتورك، قُبيل إلغائه لدولة الخلافة، وإعلانه تركيا جمهوريَّة علمانيَّة سنة 1923، وصولاً لغزو تركيا لجزيرة قبرص سنة 1974، وإعلانها الشطر الشمالي من الجزيرة دولة مستقلَّة، سمَّتها بـquot;جمهوريَّة قبرص التركيَّة الشماليَّةquot;، لم يعترف بها أحد، سوى تركيا. وثمّة ملفَّات أخرى دخلت على خط الخلافات التركيَّة _ اليونانيَّة، ومنها معارضة اليونان لانضمام تركيا للنادي الأوروبي. وعليه، هنالك خلفيَّات من العداء التاريخي بين الأتراك واليونانيين، لا زالت مستحكمة بمستقبل العلاقات بين البلدين الجارين. وغالباً ما تسود مناخات تصفية الحسابات والمناكفات والمكاسرات السياسيَّة بينهما. في حين، من المفترض أنهما سيكونان ضمن منظومة سياسيَّة، اقتصاديَّة، قانونيَّة، اجتماعيَّة أوروبيَّة واحدة، تضاف إلى كونهما عضوين في حلف الشمال الأطلسي. هذا، إن تمّ قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي.

في سياق ما تمَّ ذكره، دخل ملفّ جديد على هذه المناخات المتأزِّمة بين البلدين، والتي تهدأ وتسخن بشكل متواتر، ألا وهو ملفّ المهاجرين غير الشرعيين. فبعد أن انتهت صلاحيَّة المعبر البحري المغربي _ الإسباني، واللّيبي _ الإيطالي، واللبناني _ الإيطالي، والمعبر الجزائري _ الفرنسي جوَّاً، أصبحت تركيا المنفذ والمُرسل الوحيد للاجئين غير الشرعيين إلى أوروبا. حيث يتوَّجه إليها اللاجئون من دول شمال وجنوب ووسط وغرب أفريقيا، وفلسطين ولبنان وسورية والعراق وإيران وأفغانستان وباكستان والهند ودول جنوب أسيا...الخ، ومنها إلى أوروبا، عبر اليونان. و70 بالمئة من هؤلاء اللاجئين يدخلون تركيا بشكل رسمي، جوَّاً وبرَّاً، و30 بالمئة، يدخلونها، بشكل غير شرعي عبر سورية والعراق وإيران. وعليه، باتت تركيا المصدِّر شبه الوحيد لموجات الهجرة غير الشرعيَّة إلى أوروبا، وصارت اليونان المستقبِل (المستورد) شبه الوحيد لهذه الموجات. ويتمّ تنظيم إرسال موجات اللاجئين عبر التنسيق بين مفايات تهريب البشر في تركيا، بالتنسيق مع المافيات الموجودة في سورية بالدرجة الأولى، وفي العراق وإيران بالدرجة الثانيَّة. وليس بخافٍ تورُّط بعض الأطراف في الأجهزة الأمنيَّة في البلدان الآنفة الذكر، ضمن تلك المافيات، وخاصّة في سورية، لتحقيق غايات سياسيَّة، بالدرجة الأولى، واقتصاديَّة بالدرجة الثانيَّة. وتحديداً، فيما يتعلّق بتشديد القبضة الأمنيَّة على الأكراد السوريين، وحرمان مناطقهم من التنمية، ناهيكم عن حرمانهم من الحقوق القوميَّة والسياسيَّة والثقافيَّة، وفتح منافذ الهجرة والهرب من سورية أمامهم، وصولاً لتحقيق تغيير ديموغرافي في المناطق الكرديَّة، شمال وشمال شرق سورية. دون أن ننسى، أن هنالك تنسيق سياسي وأمني سوري _ تركي، فيما يتعلّق بالملفّ الكردي عموماً. وللأسف، هذه السياسة السورية، قد خطت أشواطاً لا بأس بها، بفعل التعامي الدولي عنها، والتراخي السياسي الكردي حيالها.

ولئن كانت اليونان تعلم أن هذه الموجات لن تستقرّ فيها، وهي عابرة إلى البرِّ الأوروبي، لذا لم تشدد القيود على المهاجرين. لكن، بعد أن صارت تعاني من التخمة والازدحام الشديد، بفعل موجات اللاجئين غير الشرعيين الآتية من تركيا، اعتبرت أثينا غزارة وازدياد حجم هذه الموجات كنوع من الضغط أو الاستفزاز السياسي الذي تمارسه أنقرة ضدَّها. لذا، وبطريقة قذرة وغير شرعيَّة، وفي سرّيَّة تامَّة، ودون علم الأمم المتّحدة والاتحاد الأوروبي، بدأت اليونان ترحِّل أو تطرد اللاجئين إلى تركيا، في انتهاط سافر وفاضح لكافّة معايير ومبادئ وأخلاقيَّات الاتحاد الأوروبي. والأسئلة التي تتبادر للذهن هنا: كيف يتمّ ذلك؟. ولماذا لم تقدِّم أنقرة أيَّة شكوى رسميَّة ضدَّ اليونان، وهي تعلم، حقَّ العلم، أن أثينا تنتهك سيادتها وحرمة أراضيها؟!. ثمّ أن الغالبيَّة العظمى من اللاجئين المُرحَّلين إلى تركيا، هم من العرب والمسلمين، سواء أكانوا أفارقة أو آسياويين، فلماذا لا تدافع تركيا _ الدولة المسلمة، وصديقة العرب _ عن حقوق هؤلاء المهاجرين أمام المنظمات الدوليَّة، ذات الشأن والصلة؟!.

فيما يتعلَّق بكيفيَّة ترحيل اللاجئين؛ تقوم السلطات اليونانيَّة، وتحديداً أجهزة الأمن والشرطة، بإجبار اللاجئين على التوقيع على أوراق يونانيَّة، غير مترجمة، لا تخبرهم عن فحواها، وإذ بها تتضمن موافقتهم على ترحيهم. وحتّى لو لم يوقِّعوا على تلك الأوراق، يقوم البوليس اليوناني بجمع عشرات المهاجرين من المعسكرات، وإرسالهم إلى سجون خاصّة بالأجانب، كسجن أدابون في أثينا، (يضمّ ما يزيد عن 4 آلاف مهاجر، وفق بعض الشهادات)، أو إلى سجن فيلاكيو القريب من الحدود البريَّة التركيَّة _ اليونانيَّة، والذي غالباً ما يكون مكتظَاً بالمهاجرين، ويتسع لأكثر من 3 آلاف مهاجر. ثمّ يتمّ اقتياد المهاجرين على متن شاحنات رمي القمامة إلى سجن حدودي يوناني. ثمَّ يمّ تسليمهم إلى المافيا اليونانيَّة التي تتولَّى نقلهم على متن زورق صغير، لعبور نهر، يعتبر الحدّ الفاصل بين تركيا واليونان. وأثناء تنفيذ إجراءات نقل البوليس اليوناني المهاجرين من المعسكرات إلى السجون، يكونون مقيّدي الأيدي، وتحت حراسة أمنيَّة مشددة للغاية، ويتعرَّضون للمهانة والإذلال والشتائم والعنف والتهريب النفسي، وأحياناً الجسدي. أمّا عمليَّة استلام المافيا اليونانيَّة لمجموعات المهاجرين (يتراوح عدد كل دفعة من 80 إلى 100 شخص، بين طفل وامرأة ورجل)، من البوليس، ونقلهم ليلاً إلى الضفَّة التركيَّة، فيتم ذلك تحت تهديد السلاح والهراوات، وفي حالة ترهيب نفسي شنيعة. وغالباً ما يتعرَّض المهاجرون للضرب بالهراوات، بشكل وحشي. وبعد الانتهاء من نقلهم للجانب التركي، تطلق عناصر المافيا رصاصتين في الهواء، كي يأتي حرس الحدود الأتراك ويلقي القبض على المُرحَّلين!!. وكاتب هذه السطور، كان شاهد عيان على هذه التفاصيل المرعبة، التي لا يتَّسع هذا المقام لسردها بالكامل، لكونه كان أحد ضحايا الترحيل القسري التعسُّفي اليوناني للمهاجرين إلى تركيا. ومن الأهميَّة بمكان ذكر؛ إن اليونان قد زادت من القيام بحملات الترحيل تلك منذ 1/7/2009. وربما تجاوز عدد المرَّحلين، للحظة كتابة هذا المقال، 10 آلاف مهاجر.

كل الذين يتمّ ترحيلهم إلى تركيا، تقوم السلطات اليونانيَّة بأخذ بياناتهم الشخصيَّة وصورهم الفوتوغرافيَّة، وبصماتهم تقليديَّاً والكترونيَّاً، وتسجيلهم لدى دائرة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، كي تحصل الحكومة اليونانيَّة على نفقات الإعاشة اليوميَّة لهؤلاء المهاجرين من هذه الدائرة، والبالغة 50 أورو تقريباً، عن كل شخص. يعني، تقبض السلطات نفقات إعاشة المهاجرين مسجَّلين لدى دائرة الغوث التابعة للأمم المتحدة، وهذه الأخيرة، لا تعلم أن الكثير منهم مرحَّلون!!. وعليه، أن ترحيل اللاجئين غير الشرعيين إلى تركيا، ضمن تلك الظروف السالفة، ليس انتهاك للقانون الدولي والميثاق العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين للحقوق المدنيَّة، ولاتفاقيَّة جنيف، ولكافة الأعراف المواثيق الدوليَّة، وقوانين ومبادئ الاتحاد الأوروبي...، وحسب، بل هي فضيحة قانونيَّة وسياسيَّة وأخلاقيَّة، يندى لها جبين وضمير العالم المتحضِّر.

أمَّا بخصوص السؤال الثاني؛ لا تتخذ تركيا أيّة إجراءات قانونيَّة بحقّ اليونان، كي لا تستفزّها، فتزيد من ممانعتها لمساعي انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي، من جهة، ومن جهة أخرى، لكون تركيا تعلم أنه هنالك جهات فيما يسمَّى بـquot;الدولة الخفيَّةquot; فيها، متورِّطة في تهريب البشر من تركيا إلى اليونان. وعليه، تبقى تركيا صامتة حيال هذه الانتهاكات لسيادتها، خشية أن فتح تحقيق نزيه وشفاف ومستقل حول هذا الأمر، قد يفتح عليها أبواب، هي بغنى عنها!. ولو شاءت، لسدّت باب الهجرة غير الشرعيَّة منها إلى اليونان، ولسدَّت منافذ ترحيل اللاجئين على اليونانيين، عبر رصد حملات الترحيل، عن طريق الأقمار الاصطناعيَّة، أو نصب كاميرات مراقبة، وتشديد الإجراءات الأمنيَّة والدوريات على حدودها البريَّة والبحريَّة. وعليه، بإمكان تركيا ضبط اليونانيين متلبِّسين بالجرم المشهود، وتقديم الصور للمؤسسات الدوليَّة والأوروبيَّة المعنيَّة كأدلَّة دامغة تدين اليونان، على اعتبار أن البوليس اليوناني يقوم بتجريد المهاجرين من كل شيء يخطر في البال، يدلّ على أنّه كان في اليونان، ربما يتمّ يستخدمها المهاجر كوثيقة تدلّ على أن السلطات اليونانيَّة قد رحَّلته بشكل تعسُّفي وقسري من أراضيها.

حاصل القول: يبدو أنَّ الصمت الدولي والأوروبي والتركي ضدّ اليونان سيبقى على حاله، ولن يحرِّك أحد ساكناً في هذا الصدد!. ويبدو أنَّ أنقرة وأثينا ستستمرَّان في لعبة التراشق بالمهاجرين غير الشرعيين!. ويبدو أنَّ هؤلاء أيضاً قد باتوا حطباً للخلافات التركيَّة _ اليونانيَّة، لأجل غير مسمَّى!!.

كاتب كردي سوري

استوكهلم
[email protected]