أثناء زيارتي السياحية لمدينة كراكوف البولندية قمت بزيارة خاطفة لأكبر وأشهر معسكرات الاعتقال ومعسكرات الإبادة والتي أنشأها النازيون عقب احتلالهم لبولندا أبان الحرب العالمية الثانية عام 1939. سمي المعسكر أوشفيتز نسبة إلى اسم المدينة القريبة من كراكوف وسبب اختيارهم لها هي موقعها الجغرافي المميز و المنتصف لكثير من المدن الأوروبية لتسهيل عملية نقل المعتقلين إليه. قبل الخوض في تفاصيل الرحلة يجب أن أوضح أمرا مهماً وهو أنني لا أنكر عمليات الإبادة و التي راح ضحيتها الكثير من الأبرياء أكثرهم كانوا، نسبة إلى التاريخ الذي كتبه الفريق المنتصر، من اليهود.

منذ عشرات السنين كان لدي فضول و حب استطلاع شديدين للوقوف مكان الحدث الجلل عسى أن يساعدني على فهم أكثر لهذا الفصل المخزي من التاريخ البشري وأيضا للوقوف على قاعدة معرفية صلبة لفهم القصص المتناقضة التي يرويها المؤرخون عن هذه المعسكرات بين مؤيد ورافض.

عند دخولنا مع الوفد السياحي للمعسكر وقفنا أمام المباني المتشابهة والتي رأيتها في كثير من الأفلام الوثائقية و يفصل الواحد عن الآخر بضع أمتار. عاد بي الزمن أكثر من 60 عاماً و تخيلت نفسي مكان الضحايا في هذا المعسكر العنصري و انتابني شعور طبيعي بالتعاطف معهم واغتالت فترات التعاطف هذه تعاطف مماثل و معاصر لمعاناة الكثير من الضحايا في كل مكان في الأرض وأولها بالطبع ضحايا النظام العنصري في إسرائيل.

دخلنا على أكثر من نصف المباني و رأينا الكثير من الصور لأطفال ونساء عزل مع شرح وافِ عن كيفية وصولهم بواسطة القطارات من كل أطراف أوروبا إلى هذا المعسكر. عندما سأل أحد الزائرين المرشدة السياحية لماذا غالبية النساء يبتسمن ويبدو عليهن وعلى الأطفال الهدوء أجابت quot;عند قدومهم إلى المعسكر قيل لهم بأنهم هنا للحفاظ على أرواحهم وأيضا لتوفير عمل مناسب لرجالهم ولبعض النساءquot; وهذا كلام فيه منطق وكثير من الواقعية.

تقول المرشدة أنه عند وصول المعتقلين بواسطة القطار يقوم الضباط بتوزيعهم على مجموعات يتم التخلص من بعضهم وخاصة أهالي المعارضين للنظام أو غير المؤهلين من الرجال جسمانياً وصحياً للعمل في المصانع والمناجم المجاورة حيث أن جميع المعتقلين يستخدمون في أعمال شاقة لا تقل عن 12 ساعة يومية في أماكن قريبة من المعسكر. عملية الإبادة تتم باحترافية وسرية عاليتين حيث رأينا في إحدى الغرف مجسمات لنساء عاريات مع أطفالهن ذكرت المرشدة أنه كان يطلب منهن خلع ملابسهن استعداداً لأخذ حماماً جماعياً ولم يكن لديهن أدنى فكرة بأنهن على بعد دقائق من الاختناق عن طريق علب الغاز في الغرف المجاورة. كثير من النساء يتم حلق شعورهن على الآخر وشاهدنا أكواماً منها في إحدى الغرف ولا تزال تحتفظ بألوانها الثلاثة: الأسود والأشقر والرمادي (الأبيض). لم أستطع تصوير مجسمات النساء العاريات ولا شعورهن تقديراً لما عانينه من اضطهاد وإذلال.

دخلنا بعدها على غرفة الغاز و مساحتها قريبة من 160م مربع. كان الجنود النازيون يدخلون الضحايا الذين يريدون التخلص منهم إلى هذه الغرفة و تكفي لإيواء 600 معتقلا ً وفي أواخر أيام المعتقل كانوا يحشرون فيها قريبا من ألفي شخص. يقوم بعدها الجنود بإغلاق جميع الأبواب ومن ثم إلقاء عبوات الغاز عن طريق فتحات المداخن المتواجدة على سقف الغرفة. تستغرق عملية الاختناق حدود عشرين دقيقة وبعدها يحملون الجثث للأفران المجاورة لحرقها ورأينا هناك فرنين شبيهين بالأفران التي تستخدمها مطاعم البيتزا الحالية و يكفيان لحرق 4 الى 6 جثث في آن.

تختتم عملية الإبادة بإلقاء رماد جثثهم في النهر أو الحقول البعيدة لإخفاء أي دليل على الإبادة الجماعية. الجملة الأخيرة تكررت كثيراً من المرشدة فكانت تقول بأنه تم القضاء على أغلب الأدلة العينية والمادية باستثناء بعض المستندات والتي وجدها الجيش الروسي بعد هزيمة الألمان و تثبت الإحصائيات المدونة في المعتقل أن العدد الإجمالي للضحايا بما فيهم اليهود هو مليون وخمسمائة ألف ضحية!

لفت نظري أن المرشدة السياحية تذكر فقط الضحايا من اليهود ويبدو أنها تدربت على أيدي أناس يريدون منها التركيز على الضحايا اليهود دون سواهم والله أعلم! كنت وللأمانة أنصت بتعاطف وشفقة على مصير الضحايا ولم أجعل كرهي الشديد لسياسات إسرائيل العنصرية وما تفعله مع شعبنا الفلسطيني الأعزل يجعلني أكذب الروايات التي كانت تسردها ولكن لساني الطويل فاجأ المرشدة بسؤال إن كانت هناك شعوب أخرى غير اليهود. توقفت قليلا ربما لتبلع ريقها وذكرت أن هذه المعسكرات أنشأت لكل المعارضين لسياسة الحزب النازي ولم يفرقوا شعبا عن آخر ولكن كانت الأكثرية من اليهود. هذه معلومة وإن كانت موثقة لا يذكرها أبداً النظام الصهيوني وإعلامه المسيطر على الرأي العام الأميركي والأوربي وإن كان الأخير بدرجة أقل.

شاهدنا وفدا سياحيا إسرائيليا كبيرا معتمرين طاقيات الرأس الشهيرة وهم ينظرون بأسى على مصير أجدادهم وآبائهم. قلب وشتت هذا المشهد أفكاري و تذكرت على الفور و بحرقة شديدة عمليات القتل والإبادة الجماعية والتي وقعت عام 1982 في مخيمات صبرا وشاتيلا و ومجزرة قانا في شهر إبريل من عام 1996 والتي ذهب ضحيتها أكثر من 106 من الأطفال والنساء بهجوم صاروخي إسرائيلي لم يدان مثل العادة من قبل مجلس الأمن إضافة إلى كثير المجازر في الخمسينات والستينات من القرن الفائت مثل دير ياسين وحرق المسجد الأقصى هذا خلاف تهجير ملايين من الشعب الفلسطيني العزل؟ أردت أن أقترب من الوفد وأطرح سؤالا على أحدهم هذا السؤال quot; كيف يتحول المجني عليه سابقاً إلى جانياً خلال أقل من نصف قرن وقبل أن تجف ذكرى الإبادة الجماعية؟quot; ولكن لساني الطويل كان حكيماً هذه المرة و عرف أنه ربما يتم قصه بتهمة معاداة السامية وهذه جريمة يعاقب عليها مرتكبها بلا هوادة في كل أنحاء أوروبا!

جلست طوال رحلة العودة إلى الفندق أفكر.... كيف بأفراد شعب مر كبار السن منهم بتجربة قاسية وسردها لأبنائه وأحفاده، كيف يقف هذا الشعب موقع المتفرج تجاه حكومات دولته المتعاقبة وهي تكرر نفس التجربة من إذلال وتصفية للشعب الفلسطيني؟ كيف يمارس نفس سياسة الجلاد النازي مع شعب أعزل؟ كنت أجلس بجانب منسق الرحلة النمساوي وهو شخص ظريف للغاية وتحدثت معه عن العبر التي يجب على الإنسان أن يستفيد منها واتفقنا بأن ذاكرة الإنسان وللأسف ضعيفة إلا ما يخص مصلحته. ذكرت له في هذا السياق تضخيم الإعلام الغربي والمسيطر عليه من قبل المؤسسات الصهيونية على أخطاء العرب والمسلمين وتبرير كل الأفعال العدوانية والصهيونية التي يمارسها الكثير من الإسرائيليين مع الشعب الفلسطيني! استطاع لساني الطويل (والذي بالفعل بحاجة لقص) هذه المرة أن يفلت من قبضة عقلي شبه المنطقي وسأله إن كان الإعلام مارس نفس التظليل والتحايل في مسألة هذه المعسكرات؟ لم يروي عطشي لجواب مفهوم ولا أدري إن كان بسبب دوامة الخوف المسيطرة على الأوروبيين من الاتهام بمعاداة السامية أو بسبب عدم اتفاقه معي!

أغفر لمن يسرد قصة مليئة بالمبالغات وبعض المغالطات فكلنا في أوقات المحن نبالغ في حادثة ما لنيل تعاطف الآخرين. ولكن عندما يسرد قصة ثانية وثالثة كلاهما مليئتان بالمبالغات والمغالطات يحق لي أن أتوقف وأتساءل عن كل القصص التي ذكرها سابقاً وأحاول أن أتبين الحقيقة من الخيال فالمنتصر مع نشوة النصر دائما ما يمزج الحقيقة بالخيال و لمصلحته بالطبع!!

نبيل فهد المعجل
[email protected]