العقليات الشوفينية و العنصرية و العشائرية ذات الطبيعة الإقصائية التي حكمت العراق طيلة تاريخه الطويل و الحافل بكل ماهو دموي و مريض و مخجل من أحداث الغدر و القتل و السحل وروائح الموت، تأبى مغادرة المسرح نهائيا رغم المتغيرات الكونية الهائلة التي غيرت العالم، إلا أنه في العراق لاشيء يتغير بشكل حقيقي أبدا..!، و لا أحد يتعظ أو على إستعداد لأن يتعظ من مآسي الماضي البعيد أو القريب، فمن تسهل له الأقدار فرصة السيطرة على السلطة و الحكم في العراق فإنه يتحول على الفور مهما كانت منطلقاته الفكرية و الآيديولوجية السابقة لشخص آخر و مختلف يمارس الهيمنة وينتشي بقوة السلطة وهيلمانها و زخرفها و يتغاضى عن كل الشعارات و القيم و المباديء المعلنة السابقة، فبعد سقوط الدولة الأموية بسيوف أهل خراسان و بقيادة البيت العباسي كان التصريح الأول للثوار العباسيين وهم يزيحون حكم بني أمية هو ذلك الذي أطلقه داود بن علي بن عبدالله بن عباس من أنهم ( أي العباسيين ) لن يسلمون السلطة إلا للمسيح المنتظر!! وفي ذلك التصريح دلالات مهمة للغاية! و طبعا سقطت دولة بني العباس بعد خمسة قرون سقوطا نهائيا بأيدي المغول و أختفت من على مسرح التاريخ بعد قرون من الضعف و الإنحلال و الهيمنة الفارسية و التركية و الأمراء المتغلبين، ولو تركنا الماضي السحيق ودخلنا في عمق التجربة السياسية الحديثة و المعاصرة سنلاحظ أن نظام حزب البعث السابق و الزائل كان قد قرر ستراتيجيا منذ أن عاد للسلطة في إنقلاب 17 تموز / يوليو 1968 الإحتفاظ بها للأبد و عدم التخلي عنها مهما كان الثمن! لذلك فقد تم رفع شعار ( جئنا لنبقى ) في الشارع العراقي وقد تم تمهيد الأجواء الداخلية لكنس و إبادة كل من يشك مجرد شك بأنه يستهدف المشروع البعثي السلطوي لذلك تم القضاء على الجماعات القومية و البعثية المتنافسة قبل أن تشتمل الإبادة على الشيوعيين و أهل اليسار ثم يضاف لهم الإسلاميون من مختلف الملل و النحل، مع تطبيق عملي لمبدأ ( تبعيث ) الدولة العراقية! فالعراقيون ( بعثيون و إن لم ينتموا )!! مثلما كان يقول صدام حسين و ( العراقي الجيد هو البعثي الجيد )!! إستنادا لتلكم الرؤية الفاشية الإستبدادية التي لا تعترف بالآخر و لا تقيم وزنا لحرية العقيدة أو التفكير و تهدف لبناء الدولة القمعية وفقا للأسلوب الفاشي و النازي و الشيوعي المنقرض أي قائد واحد لوطن واحد!! و قد بلغت حدود أوهام القوة في ذلك النظام و خصوصا في طوره الثاني و الحاسم الذي إبتدأ منذ صيف عام 1979 بإنفراد صدام حسين بالسلطة و بنائه لدولة العائلة و العشيرة مبلغا مرضيا مفجعا، فقد كان صدام مثلا يتباهى بعدم قدرة خصومه مهما كانوا على النيل منه و من نظامه!!، بل أن حدود هلوسة القوة المفترضة قد تجاوزت حدود المنطق المعقول حينما أعلن صدام حسين ذات مرة بأن الجيش العراقي يستطيع هزيمة جيوش الولايات المتحدة و ( الإتحاد السوفياتي ) السابق في أي حرب بالأسلحة التقليدية!!، و طبعا كان في ذلك مبالغة أكبر من المرض بكثير و تعبر عن هوس فظيع بالقوة و العنف و ثقة غير عادية بمستقبل نظام مهزوم من الداخل و يعيش أزمة وجودية دائمة، إذ أن الحقائق و سقوط الأوهام قد حدثت بعد مغامرة غزو و إحتلال دولة الكويت ثم الهزيمة الساحقة الماحقة في حرب تحرير الكويت ( عاصفة الصحراء ) التي هشمت بالكامل تلك القوة المزعومة و المبالغ بحدودها إلى أن جرت مياه و دماء و دموع عديدة تحت كل الجسور لينتهي النظام العراقي نهاية درامية في حرب إحتلال العراق في ربيع 2003 و ليتحول النظام بأسره لدمعة هائمة في التاريخ و ليتشتت بطريقة مفجعة و ليتلاشى و كأنه لم يكن ذات يوم ماليء الدنيا و شاغل الناس و أنتهى صدام حسين نهاية مفجعة بعد أن كان يتصور أنه يعيش في قلعة حصينة و حصن منيع و لا يستطيع أحد الوصول إليه، فقد زينت له السلطة المطلقة أوهام مطلقة لحد الجنون فكان ما كان من مآسي و صور مفجعة و نهايات إغريقية صارخة، و بعد إحتلال العراق و عودة المعارضة العراقية السابقة التي كانت شذرا مذرا و حالة كسيحة من حالات العجز و الفشل لتستلم السلطة من الرايات و الأحذية الأمريكية الثقيلة تصور بعض أطرافها أنهم قد لعبوا دورا حاسما في إسقاط النظام و لم يكن ذلك صحيحا بأي وجه من الوجوه، بل و ظهرت مشاريع التسلط و الهيمنة من خلف رايات و شعارات الديمقراطية الرثة التي سادت في العراق الذي تحول لحالة كاملة من الفشل الإداري و السلطوي في جميع مناحي الحياة، إن ما دعاني لذكر ما ذكرت و لتذكير أهل المعارضة السابقة و الحكام الحاليين بحقيقتهم هو ذلك التصريح الذي أعلنه رئيس وزراء حزب الدعوة العراقي السيد نوري المالكي في حفل نفاقي حضرته عشائر النفاق العراقية المعروفة و المعهودة و التي أمطرت المالكي بحفنة من ( الهوسات ) و ( الأهازيج ) الشعبية المنافقة لتصنع منه نسخة معدلة و محسنة من صدام حسين وحيث قطع المالكي تلك الهوسات العشائرية المنافقة ليقول صراحة بأنه : ( ما يقدر أحد ياخذها حتى ننطيها له ) و يقصد أنه لا أحد يستطيع أخذ السلطة منه و من جماعته لكي يعطونها لهم!! و هو أول فشل في أول إمتحان؟ فالمالكي المتدين ظاهريا و أحد قيادات حزب الدعوة الإسلامية يبدو أنه لم يسمع أو يعترف بالحكمة المأثورة
( لو دامت لغيرك.. ما أتصلت إليك )!!
وهو أول درس في التواضع وفي فن إدارة السلطة تم الفشل فيه بشكل واضح، فالمالكي وحزبه لا أعتقد أنه كان يتصور في يوم ما أن يكون رئيسا لوزراء العراق، فحتى في حالة قيام النظام الإيراني مثلا بإسقاط نظام البعث العراقي كما كان مؤملا في حرب الثمانينيات فإن مصير المالكي و رهطه لن يكون قيادة العراق بسبب الخلاف المعروف مع إيران!! فلولا الولايات المتحدة و تحديدا أحذية المارينز الثقيلة ما تسنى للمجاميع الحاكمة في العراق أن تصل لمشارف بغداد!!، و لكن يبدو أن هيلمان السلطة و أوهام القوة و أموال السلطة و إستثماراتها و عسلها قد غير النفوس، إننا نذكر المالكي و رهطه فقط بإنه لودامت لصدام حسين ما وصلت إليك!! و بأن قوتكم المفترضة لا وجود مادي وحقيقي لها.. و نهاية ( أهل طويريج ) سوف تكون في الختام ليست مختلفة عن نهاية ( أهل العوجة ).. طالما بقي الغرور نفسه... فحذار من الزمن و تقلباته و لن ينفع النفاق و أهله أحدا، ولكم يا طغاة المستقبل في سلفكم الطالح أسوة و عبرة....!
ولكن في النهاية لا أحد يتعظ.. و تلك هي المأساة؟
التعليقات