لم يكن مستبعداً أو مستغرباً أن تلقى quot;فذلكاتquot; رئيس الوزراء التركي، رجب طيّب أردوغان في دافوس، كل هذا التطبيل والتزمير والتهليل في العالم العربي. فالشعوب القوَّالة، بخلاف الشعوب الفعَّالة، تستسيزغ وتستمرئ وتستطيب الأقوال، لا الأفعال. ناهيكم، عن أن العرب، باتوا يبحثون عن المعادل السياسي للتغلغل والنفوذ الإيراني في العالم العربي. فلا غرابة في أن نجد يافطة، كُتِبَ عليها: quot;شكراً لأردوغان.. شكراً لتركياquot;، موجودة، حتّى في دار القضاء السوري (القصر العدلي) بدمشق، تحمل توقيع المحاميين السوريين!، ناهيم عن المظاهرات وموجة التهليل والتبجيل التي لاقاه كلام أردوغان في دافوس، ضدّ بيريز، وانسحابه من المؤتمر، الذي فسَّره العرب، بأنه كان ضدّ رئيس الكيان العبري، وتضاماً مع محنة غزَّة، على خلفيَّة الحرب الإسرائيليَّة عليها!. ولم يكن الأمر، كما توّهمه معشر quot;الممانعينquot; العرب. ذلك أن انسحاب أردوغان، كان اعتراضاً على مدير الجلسة، الذي لم يمنحه 25 دقيقة أسوة ببيريز، وأفسد عليه فرصة أن يملي على العالمين العربي والإسلامي، مواعظه وفذلكاته المعتادة، غارفاً من معاناة الشعب الفلسطيني، شأنه شأن إيران وسورية، وبعض الدول العربيَّة، التي هي على علاقة، أقلّ استراتيجيَّة بإسرائيل من تركيا. والحقُّ أن تصرف أردوغان، وردَّة فعل quot;الممانعينquot;، كان ينطوي على قسط وافر من النفاق، أقلَّه، من الجانب العربي. إذ أنه كان هنالك ثمّة العديد من الكتَّاب والصحفيين في الصحافة الإسرائيليَّة، تجاوزت انتقاداتهم للحرب الإسرائيليَّة على غزَّة، ووحشيَّة آلة الحرب الإسرائيليَّة بحقّ المدنيين والأطفال والنساء الفلسطينيين، انتقادات أردوغان لها، وكانت أكثر جرأة وحدَّة منها، فلماذا لم يتعاطى هؤلاء quot;الممانعونquot; مع أولئك الإسرائيليين، بنفس القدر الذي تعاطوه مع أردوغان!!.

قبل أشهر، أطلق مواطنون متطرّفون أتراك، منتمين إلى حزب الحركة القوميَّة المعارض MHP، النار على متظاهرين أكراد، يحملون أعلام حزب العمال الكردستاني، وصور أوجلان، في مظاهرة سلميَّة باسطنبول، فأصاب نساءاً وأطفال بجراح. وحين أثارت بعض الصحف التركيَّة هذا الحادث، ردَّ أردوغان، مبرراً تصرُّف المتطرِّفين الأتراك، ضدّ المتظاهرين الأكراد: quot;أنصح بالصبر. ولكن إلى متى سيبقى المرء صابرًا؟. عندما تتعرَّض حياة مواطنينا للتهديد، ويكون لديهم الوسيلة لحماية أنفسهم، فعندئذ سوف يفعلون ذلكquot;. هذا التصريح، هو ليس تبرير لإطلاق النار على المتظاهرين الأكراد وحسب، بل أمرَ وشرعنة لفعل ذلك!. إذن، مظاهرة سلميَّة، هي خطر على حياة المواطنين الأتراك برأي أردوغان، لذا، يفتي بإطلاق يد الأتراك في التعاطي الدموي مع هذه المظاهرات!. وفي احتفالات عيد النوروز الكردي سنة 2006، قتلت قوى الأمن التركيَّة 14 مواطن كردي، بينهم ستة أطفال، وأربع نساء، وجرح العشرات. وهنا أيضاً، برر أردوغان، دمويَّة قوى الأمن، تجاه المحتفلين الأكراد، بالقول حرفيَّاً: quot;حتّى ولو كانوا أطفال ونساء، فقوى الأمن ستعمل ما ينبغي عليها القيام به. الأطفال، مكانهم المدارس وليس المظاهرات، وكذلك النساء مكانهم المنازلquot;. ناهيكم عن إطلاق أردوغان، يد العسكر في الحرب على حزب العمال الكردستاني وأكراد تركيا، والاجتياح العسكري لكردستان العراق، بهذا الخصوص، أيَّاً كانت الأكلاف، وكائناً من كان الضحيَّة. والحال هذه، ما الفرق بين أردوغان وبيريز، لجهة تبرير الاثنين قتل الأطفال النساء، بحجَّة مكافحة الإرهاب؟!. وبل حتّى أن حجَّة بيريز، هي أقوى وأرجح من حجج أردوغان المجيزة لقتل الأطفال والنساء الأكراد، في المظاهرات السلميَّة. فبينما quot;حماسquot;، أنهت العمل بالتهدئة، وعادت لإطلاق الصواريخ على أسرائيل، كان حزب العمال الكردستاني قد أعلن عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد، خمس مرات، وتنازل عن شعار الدولة القميَّة الكرديَّة، وتبنَّى الجمهوريَّة الوطنيَّة التركيَّة، الجامعة والضامنة لحقوق الأكراد والأتراك على حدٍّ سواء، دون أن تستجيب الحكومات التركيَّة، ومنها حكومة أردوغان. فرغم زعمه الإسلام المعتدل، إلاّ أنه يشرعن قتل أطفال ونساء الأكراد المسلمين، إنْ هم طالبوا حقوقهم الديقراطيَّة، في مظاهرات سلميَّة!. وهذا ما جرى في 15|2|2009، في مدينة باطمان ودياربكر وهزخ وجزيره...، حيث أصيب أكثر 90 شخص، معظمهم من النساء والأطفال، برصاص قوى لأمن التركيَّة،بالإضافة إلى اعتقال أكثر من 200 شخص، بينهم نساء وأحداث ومسنين. وذلك على خلفيَّة خروجهم في مظاهرات سلميَّة احتجاجيَّة على عملية اختطاف وسجن أوجلان، في ذكرى الحادية عشرة. فحين يودّ الأخوة العرب معرفة حقيقة أردوغان، وقياس صدقيَّة منسوب quot;مزايداتهquot;، يكفيهم أن يكون الواحد منهم كرديّاً، ولو لنصف ساعة. أو أن الأمر لا يعينهم، بقدر ما يعنيهم سماع الكلام النافق من أردوغان!.

ومثلما كان عدد الضحايا الفلسطينيين، هو المعبر الانتخابي الاستراتيجي إلى الفوز بالحكومة في الانتخابات الإسرائيليَّة، كذلك الحال في تركيا، عدد الضحايا الأكراد، وخاصة من عناصر حزب العمال الكردستاني، هو المعبر الاستراتيجي للوصول والبقاء في الحكومة. زد على ذلك، أن أردوغان، يحصي عدد قتلى الكردستاني، فخراً واعتداداً، في حين يحصي عدد الضحايا الفلسطينيين، أسفاً ومزايدة على إسرائيل. وهذا، ليس تبريراً لوحشيَّة الكيان العبري ضدَّ غزّة، أو لموقف بيريز في دافوس، بقدر ما هو مقاربة بين السيّئ الإسرائيلي والأسوأ التركي، فيما يخصّ بالحروب، واستثمار عدد القتلى.

(في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في إسطنبول، بداية تشرين الثاني، اعتلى أردوغان المنصَّة، وألقى كلمة مليئة بالطنين والرنين الخطابي، مردّداً كلمة quot;الإرهابquot;، قاصداً العمال الكردستاني. والحضور من الاقتصاديين ورجال الأعمال ووزراء الماليَّة وأصحاب محافظي البنوك، أتوا للتداول حول الأزمة الاقتصاديَّة العالميَّة، بينما تحدَّث إردوغان طيلة 25 دقيقة حول quot;الإرهابquot;!. وكانت نبرة حديثه متقطِّعة، يشوبها الاندفاع والتهديد، وكأنَّما كان شعرَ بعدم الاهتمام الذي ساد في الصالة. وثم أضاف بعض العبارات القصيرة، بخصوص الأزمة الماليَّة التي لا تعتبر في تركيا _ حسب زعميه _ سيئة لهذه الدرجة. وغادر المنصَّة متعباً. فتساءل أحد الاقتصاديين: quot;على أيّ كوكب يعيش هذا الرجل؟quot;). هذا ما كتبه ميشائيل تومان، الكاتب في صحيفة quot;دي تسايتquot; الأسبوعيَّة الألمانيَّة، ومدير مكتبها الإقليمي في الشرق الأوسط والأدنى، موجِّهاً انتقادات شديدة لأردوغان، وسلوكه المرائي في العمل السياسي. في حين، قال فهمي كورو، الكاتب التركي الذي كان مقرَّباً من أردوغان، عن الأخير: quot;لقد بدأ مثل أوباما وانتهي مثل بوشquot;. فردَّ أردوغان على حليفه وصديقه السابق (كورو) بالقول: quot;يجب عليه أن يخجل على نفسهquot;. كما استقال العديد من كبار رموز حزب العدالة والتنمية، الرجل الثاني في الحزب، مير محمد دنغير فرات. quot;وهكذا يصبح رئيس الوزراء وحيدًا. ينقصه شخص قوي مقرَّب منه، يعتمد عليه، ويخالفه في رأيه. فمَنْ الذي ما يزال ينصحه؟)، يضيف تومان، في مقاله السالف الذكر. فأردوغان، الذي يتراجع رصيه السياسي والجماهيري في تركيا، يعرف من أين يدغدغ العرب، كي تقول فيه المديح، ما لم يقله مالكٌ في الخمر.

والمتابع للإعلام التركي، لن يألو جهداً في معرفة، زيادة حجم الانتقادات الموجَّهة لأردوغان. إلاّ أن تركيا، وحكومة عدالتها وتنميتها، لا تطيق أن يُكتب فيها نقد، في الإعلام العربي أو الأوروبي. وتضيق ذرعاً بمن يحاول أن يكشف جزء من حقيقة المشهد التركي للمفتتين به من العرب على وجه الخصوص. وهذا ما دفعت السفارة التركية للتدخل لدى صحيفة عربيَّة، وتوجيه اللوم والعتب للجهة السياسيَّة الداعمة لها، ما دفع هذه الصحيفة، تتحاشى نشر مقالات كاتب هذه السطور، فيما يتعلّق بنقد تركيا، أو استشفّ منها، ميلان لوجهة النظر الكرديّة!.

حاصل القول: كثيرون جداً، ممن صار حقيقة أردوغان، مفتضحة لديهم في تركيا. لكن، حملة التسويق لتركيا على وجه العموم، ولأردوغان على وجه الخصوص، في العالم العربي، لا زالت على أشدّها. والخشية أن يكون التسويق العربي لأردوغان ولتركيا، مردُّه، الرغبة العربيَّة في شتم وإهانة واتهام دول عربيَّة معيّنة، بدعم إسرائيل، على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، لذا، فأصحاب هذه الرغبة، بحاجة لعكاز، أو دريئة لممارسة فعل الشتم والاتهام ذاك. فتارة، يشيدون بشافيز، وتارةً بإيران، وتارةً بتركيا...، في هذا المسعى. بالنتيجة، إن التغلغل السياسي والاقتصادي والثقافي التركي، للعالم العربي، لن يكون فال خير على العرب. وليس لزاماً على العرب أن تكون بوصلتهم؛ إمّا في طهران او أنقرة أو واشنطن. وينبغي أن يكون لهم خيارهم الخاص بهم، بدلاً من التعويل على رهان جديد، يجعل من المشاكل والقضايا العربيَّة، حطباً وقوداً للمصالح التركيَّة، كما هو الحال، بالنسبة لاستثمار إيران لهذه المشاكل والأزمات والقضايا، لخدمة مصالحها. وأيَّاً يكن، فتصريحات قائد القوَّات البريَّة الإسرائيلي، وردِّه على أردوغان، حول ارتكاب تركيا جرائم ضد الإنسانيَّة بحقّ الأرمن والأكراد، وغزوها لقبرص سنة 1974، هذا التصريح، وردّ هيئة الأركان التركيَّة على مزراحي، هو لزوم المسرحيَّة، لإعطاء انطباع للعرب، ألاَّ تنسيق بين أنقرة وتل ابيب، وأن هنالك توتُّر بين تركيا وإسرائيل، فيزداد التهافت العربي على تركيا وأردوغان، وتسويقاً له. ويكفي القول: إن تركيا بأمسّ الحاجة للوبي اليهودي في أميركا، فيما يتعلَّق بتعطيل قانون إدانة مذابح الأرمن في الكونغرس الأميركي، فضلاً عن قضايا داخليَّة وخارجيَّة أخرى، ينبغي أن تكون إسرائيل إلى جوار تركيا. وبالتالي، التراشق بالتصريحات بين المسؤولين الأتراك والإسرائيلين، هو لزوم تعبيد طريق تركيا أكثر في العالم العربي والإسلامي. وعليه، تنجح إسرائيل في إدارة شؤون العرب، من حيث لا يحتسبون.

هوشنك أوسي


كاتب كردي مقيم في بيروت
[email protected]