الإخوان المسلمون تنظيم إسلامي مصري، في الأساس، عمل على تصدير تصوراته الخاصة، حول الدين والإنسان والحياة، إلى عديد دول عربية وإسلامية، فتقدمت الفروع وغرق الأصل في أصوليته. في ثلاثينات القرن الفائت، مع جيل المؤسسين الأربعة، قدم الإخوان المسلمون تصوّراً إسلاميّاً ذكياً في التربية والحقوق والتحرّر، وكان أن أصبح الإخوان التيار الأكثر حضوراً في مصر، والأقدر على التأثير في الحياة السياسية المصرية، وحتى في السياسة الخارجية المصرية، على نحو ما حدث في حرب 1948م. بعد ذلك دخل الإخوان في الدوّامة الأولى، وهي اغتيال المؤسس الأكثر خطراً في تاريخ الإخوان quot;حسن البناquot; قبل أن يتمكّن من تحويل القيادة الفردية الكارزمية إلى مؤسسة راسخة.. ثم الدوامة الثانية: وصول العسكر، أعداء الحريات، إلى الحكم على أنقاض الملكية الديموقراطية. أدناه سأستعرض مواقف إخوان مصر من التنظيم الدولي على ضوء تصريحات محمد مهدي عاكف، مرشد الإخوان، الأخيرة حول رغبته في التنحّي عن المنصب مع بداية العام القادم.

(1)

برحيل المرشد، المؤسس، ووصول العسكر إلى الحكم، توقف الإخوان المسلمون عن الإنتاج، أعني إنتاج التصورات القادرة على الاشتباك المدني الإبداعي بالحياة، الدخول بالنص إلى السوق، الشارع، الجامعة، المؤسسة،.. إلخ لإعادة تشغيله وتقديم فهوم جديدة أكثر حداثة ومرونة.
لم يستشعر الإخوان خطورة أن يستمروا لعقود من السنين عالة على أفكار المؤسس، وما قد يسببه ذلك من نسخ للحركة وتجاوزها تالياً لافتقارها لليونة اللازمة. بل ذهبوا لأبعد من ذلك، فإنهم يتباهون بأن جماعتهم لا تخرّج مفكّرين ولا تؤلف كتُباً، على نحو ما تفعله تنظيمات سياسية وإسلامية أخرى. والسبب في ذلك، طبقاً للإخوان، انشغالهم بتربية الرجال!

وبدلاً عن أن يقسّم إخوان اليوم تاريخ الحركة الذي تجاوز الثمانية عقود إلى فترات للنمو والتحوّل، كما يحدث مع أي تنظيم أو إيديولوجيا، فإنهم على العكس من ذلك ينظرون إلى تاريخ الحركة بوصفه حلقات من quot;المحنquot;. وهكذا أصبح لدى الإخوان : المحنة الأولى، المحنة الثانية، المحنة الثالثة.. بما تبطنه مفردة محنة من معاني التقوقع والضمور والتكيّس والاختباء والألم، وتأجيل الخصوبة. أي أن المحنة هي شرط بيئي شديد القسوة تمثّل إحدى أهم عمليات الانتخاب الطبيعي. والاجتماعية الدارونية تشدّد في مثل هذه اللحظات على quot;فرَضيةquot; أن البقاء للأقوى/ الأصلح/ الأقدر على التكيّف والتحوّل. إن تقسيم تاريخ حركة الإخوان إلى سلسلة متناسلة من المحن يحمل اعترافاً ضمنيّاً بأن حركة التطوير في فكر الإخوان قد توقفت عند المحنة الأولى، عقب ثورة يوليو. وهو ما سيعني بالضرورة عند أفكار المؤسس.

على النقيض من ذلك، فقد تطوّرت أفكار التنوير الإسلامي التي أطلقها المؤسس حسن البنا، بشكل مطّرد، وإن كان بطيئاً أيضاً، في عديد دول عربية وإسلامية وصلت إليها. وشهدنا نشوء حركات إسلامية سياسية شديدة الذكاء، حتى على مستوى البلدان الأشد تخلّفاً كاليمن. وكلها لا تزال تعترف في أدبياتها بأنّها استهدت في مرحلة ما بأفكار التأسيس، للإخوان، أو أنها لا تزال على علاقة عضوية خفيفة بمركز التنظيم في القاهرة. ويبدو أننا أصبحنا مع نهاية القرن الفائت أمام تنظيمات للإخوان المسلمين، وليس تنظيماً واحداً. وكلما كان التنظيم قريباً من المركز، القاهرة، كان أقل قدرة على التحوّل، وأقل كفاءة في فهم ما الذي يجري في العالم والتعامل الجاد والمسؤول معه. كأن مقولة: اغتربوا ولا تضووا، أي ابتعدوا عن المركز القريب وإلا أصابكم الهزال والضوا، تحظى بقدر معتبرٍ من المعقولية في هذه المعادلة.

( 2 )

وفي مصر، بلد التأسيس، ارتد الإخوان إلى الداخل، وانشغلوا بالتربية والأعمال الخيرية، تحاصرهم أعين أمن الدولة في كل مكان. وعند كل انفراجة في العمل السياسي كان الإخوان المسلمون يفاجئون المراقبين بأمرين: بحضورهم الطاغي في كل تكوينات المجتمع المصري، وبفقدانهم للياقة السياسية. وبطريقة لا يمكن فهمها على نحو نهائي يتصدّى وعّاظ الجماعة للعمل السياسي بذات الطريقة التي يتعاملون بها مع ثنائية quot;الخطيئة والتوبةquot; دون إتاحة مساحة معقولة، على مستوى صياغة المبادرات والقرارات، لمثقفي الجماعة الذين يمتلكون القوة الناعمة والقدرة على فك عزلة الجماعة عن محيطها السياسي الرسمي والنخبوي، كالعريان وأبو الفتوح وجمال حشمت، وغيرهم. وهو ما بدا واضحاً في آخر عملية تجديد لمكتب الإرشاد، حيثُ جرى تصعيد رأسي لخمس شخصيات لا يعرف عنها أي انشغال سياسي حقيقي. بل من المعلوم أن بعضها تعاطى السياسة بشكل ساذج أصاب كثيرين من شباب الإخوان، مدوني الإخوان تحديداً، بالخجل والغضب في آن.

ويبدو أن كل اعتلالات السياسة في مصر قد انتقلت إليهم أو ورثوها. فكما أنهم يسخرون من مجمل النظام السياسي العربي بالقول، على سبيل المثال، لا يوجد رئيس عربي سابق، فإن الحقيقة المناظرة هي أنه لا يوجد أيضاً مرشد للإخوان المسلمين، سابقاً!

وكما أن الدولة المصرية تقاتل لأجل احتكار منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، بوسائل عديدة بعضها مثير للريبة، فإن الإخوان في مصر يقاتلون لأجل احتكار منصب المرشد العام للإخوان المسلمين، بوسائل بعضها مضحك وبعضها مخيف، كون بعض هذه الوسائل تحفل بتبريرات تقترب أحياناً من فكرة quot;الحق الإلهيquot;.

(3)

في الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة حصل الإخوان على 20% من مقاعد البرلمان. ولكي يثبتوا للعالم أنهم معنيون بالفعل المدني، الثقافي والسياسي، فقد كان أول استجواب قدموه في البرلمان هو لوزير الثقافة المصري حول تهريب الآثار المصرية، في أول جلسة برلمانية.

كانت الإشارة ذكية بما يكفي لأن تفتح شهية المادحين والمناوئين. غير أن الأمر تغيّر بصورة دراماتيكية حين كان مطلوباً من الإخوان أن يقدّموا تصوّراتهم حول الدولة والسياسة والاجتماع على شكل مسوّدة حزب سياسي. لقد عمد الإخوان إلى كتابة مسوّدة مليئة بالتفاصيل، أرسلوها إلى 50 شخصية سياسية وفكرية واقتصادية مرموقة، للمناقشة وطرح الأفكار. لقد كان هذا السلوك محمودا وحداثياً أكثر من المتوقّع، لولا أنه انقلب للضد حين تجاهل الإخوان كل تلك الملاحظات التي وصلتهم في عديد موضوعات حادة وحاسمة. هناك، من هذه الشخصيات، من فضّل مناقشة المسوّدة عبر وسائل الإعلام، بيد أن كثيرين أرسلوا ملاحظاتهم إلى مكتب الإرشاد.. ومع هذه المسوّدة خسر الإخوان المسلمون معظم ما أنجزوه منذ بداية الألفية. على وجه الخصوص، حين تعاملوا بتعالٍ مع ملاحظات المثقفين والمفكّرين، من بينهم مثقفين في التنظيم نفسه، وأصرّوا على تبنّي آراء فقهية يمينيّة، فاقدة لليونة والسلاسة، مثل إشكالية رئاسة القبطي والمرأة. وهو موقف جعل صحفيّاً معروفا، إبراهيم عيسى، يكتب في صحيفة الدستور بطريقته الخاصة quot;مش لما يسلموا اللي بيحكمونا!quot;.

وبالرغم من حديث الإخوان عن المواطنة المتساوية، فقد جاءت الخطاطة،مسوّدة الحزب، إقصائية عنيفة تحرّم منصب رئاسة الدولة على المرأة والقبطي، في حين هم يتحدّثون عن شكل للنظام السياسي تحكمه مؤسسة دستورية لا شخص بعينه! وفوق كل هذا، أضافوا تصوراً خاصاً بهيئة علماء لا تختلف عن فكرة الحرس الثوري، أو مجلس الفقهاء، الذي يملك الحل والعقد. أي حديقة خلفية لها قوة أعلى من أجهزة الدولة. وهو تصور عبثي للغاية لا يتساوق بالمطلق مع الحديث عن سيادة النص الدستوري المشار إليه، طالما وجد جهاز قضائي قادر على العمل بمقتضيات النص الدستوري، وجهاز قهري، شرطة، مهمّته إجبار الجميع على احترام وحراسة القانون.

تدخّلت شخصيات أكثر تنويراً، مثل عصام العريان في مصر والبيانوني من لندن والغنوشي من باريس وحتى القرضاوي من الدوحة، لإنقاذ جماعة الإخوان من التهم التي انفجرت كالسيول من كل مكان، حول إقصائية الجماعة وعنفها واتخاذها العمل السياسي مجرد ذريعة للوصول إلى دولة الفقيه. تحدث هؤلاء عن حق المرأة والقبطي في رئاسة الدولة، ورفضوا فكرة إرغام المجتمع على خيار بعينه، وأن الناس إذا اختاروا رئيساً قبطيّاً فهذا اختيارهم الشخصي ولا حق لأحد في منعهم من ذلك. كما أن دين رئيس الدول أو جنسه ليس بذي بال ما دام عرضة لعين الدستور والقانون، اللذين يهدفان إلى حراسة الكليات الخمس : النفس والنسل والدين والعقل والمال. حتى أن مثقفاً شيعيّا، محمد خاتمي، تبنّى مثل هذا الرأي صراحة مع أنه رأسَ دولة كبيرة يحكمها الفقيه.

بعد ذلك بأيام قليلة قرأنا تصريحات، نسبتها صحيفة المصري اليوم إلى عضو في مكتب الإرشاد، تهدد باستثناء عصام العريان من حضور أي مناقشات مهمة حول القضايا المفصلية باعتباره متهوّراً وغير مسؤول، ولن يعتد برأيه. دافع العريان عن نفسه بإسناد آرائه حول قضايا الخلاف في برنامج حزب الإخوان إلى الشيخ القرضاوي، ولم يجدِ ذلك في شيء.

أصبحت الجماعة عرضة لكل الملاحظات السالبة، حتى أن المراقب العام لإخوان سوريا، ونظيره الغنوشي، قالا في مؤتمر عقد في لندن، رتبت له جمعية quot; أبرارquot; الخيرية، حول برنامج حزب الإخوان: إن إخوان مصر يرعبون الناس إذا صمتوا، وإذا تحدثوا. وفي المؤتمر نفسه ثار إخوان التنظيم العالمي ضد مكتب القاهرة، المركز، بسبب تفرّده بوضع مسوّدة حزب للإخوان المسلمين دون مشاورة الخارج، فضلاً عن احتواء البرنامج على تفصيلات محافظة ستتسبب، طبقاً للمعترضين، في خسارة الإخوان على الصعيد السياسي في مصر وخارج مصر.

عاد الكتاتني، موفد إخوان مصر إلى لندن، بجملة من الملاحظات السالبة بعد أن تعهد لأعضاء التنظيم الدولي بأن إخوان مصر سيراجعون مسوّدة القانون وسيتعاملون بمسؤولية مع ملاحظات التنظيم الدولي. وهكذا جاءت نتيجة المراجعة.. ففي مؤتمر صحفي، عقب كل هذه الضوضاء، قرر إخوان مصر أن موقفهم يتبنّى الرأي الفقهي الداعي إلى حظر منصب رئيس الجمهورية على المرأة والقبطي! مع اعترافهم بوجود آراء فقهية تجيز ذلك. وهو الموقف الذي أكّده المرشد في أحدث طلعاته على قناة الجزيرة الفضائية، ناسفاً بذلك كل تلك التهريبات التي تحدّثت مؤخّراً عن مراجعة الإخوان لمواد البرنامج بحيث لن يرد فيها أي إشارة لدين أو جنس رئيس الجمهورية.

( 5 )

وفي محاولة أخرى، للمناورة فقط، وجه إخوان مصر دعوة إلى المثقفين والمفكرين المصريين لمناقشة شعار الجماعة quot;الاسلام هو الحلquot;، لطرح شعار بديل لا يثير الحساسية ولا يحتكر تمثيل الإسلام. تلقى الإخوان ملاحظات عديدة، أبسطها أن هذا الشعار هو في الأساس شعار حزب العمل اليساري ابتكره الحزب في انتخابات 1986م. وكالعادة، أعلن مكتب الإرشاد أنه درس بعناية ومسؤولية كل الملاحظات، وأنه كان حريصاً على أن يتعامل مع النسيج المصري برمته، وبعد تفكير وبحث قرر مكتب الإرشاد اعتماد شعار quot; الاسلام هو الحلquot; شعاراً لحزب الإخوان، في حال الموافقة عليه من قبل هيئة شؤون الأحزاب! وهكذا كان من السهولة بمكان اصطياد الحزب بالقانون: منع تشكيل أحزاب على أساس ديني. ولقد راق لصحف مصرية رسمية أن تنشر معلومات نسبتها إلى مصادرها الخاصة، تفيد بأن الرئيس المصري وضع علامة quot;إكسquot; على مسوّدة مشروع لحزب مسيحي تقدم به مجموعة من رجال الفكر والأعمال الأقباط في مصر. كانت الذريعة الذكية: لسنا ضد الحريات السياسية، نحن فقط ضد التمييز بين الناس على أساس ديني. وبالبداهة، فقد كان المستهدف هم الإخوان المسلمين، الذين لا يفتأون يخلقون ذرائع استهدافهم بأساليب غاية في المهارة.

(6)

.. وصولاً إلى اللحظة التي قرر فيها المرشد، نكاية في النظام السياسي المصري، أن يعتزل العمل بعد انتهاء الفترة الأولى. أصبح ممكناً الآن أن يحقق إخوان مصر ضربة سياسية ناجحة لكل القوى السياسية المصرية، رغم تشكك كثيرين مثل د.عمروالشوبكي، من إمكانية أن يذهب الإخوان مع حديث المرشد حتى النهاية. وكما يفعل النظام العربي، فقد بادر أكثر من 50% من أعضاء مجلس شورى الإخوان إلى جمع توقيعات، وتشكيل تربيطات جديدة سوف quot; تجبرquot; المرشد العام للإخوان المسلمين على الاستجابة لمطالب مجلس الشورى، والاستمرار في ولاية جديدة لمدة ستة أعوام. هذا الموقف يتطابق مع ذلك الفصل الهزلي الذي أنجزه أعضاء اللجنة الدائمة للحزب الحاكم مع الرئيس اليمني في قرار مشابه لقرار مرشد الإخوان؛ رغم سخرية الإخوان المسلمين العريضة حينئذٍ من هكذا موقف. حدث هذا بمجرد أن بدأ الحديث عن انتقال منصب المرشد العام إلى أحد قيادات التنظيم الدولي من خارج مصر، بطريقة وصفت بأنها قطع للطريق أمام قيادات الخارج.

ومن بعيد أيضاً، انتصر مفوض العلاقات الخارجية في جماعة الإخوان المسلمين، يوسف ندا، للشوفينية المصريّة ضد أي رغبة في اختطاف البيضة المقدسة، الإرشاد العام، من قبل رفاق الخارج. فكتب عن القرار الخاطئ، طبقاً لندا، لمرشد الإخوان في التوقيت والفلسفة. وفي مقاله المنشور في المصري اليوم نبّه يوسف ندا المرشد العام إلى خطورة قراره وما يمكن أن يترتب عليه من quot; ترك الجماعة كالأيتام على موائد اللئامquot;. وهو اعترف ضمني بأن الجماعة لا تمتلك شخصيات كارزمية قياديّة، كما أنّها لا تمارس الفعل السياسي الصرف لأنها ليست حزباً سياسيّاً، كما قال ندا. كما أنه رد بليغ على غياب المؤسسية التي تباهى بها المرشد مرّات عديدة في آخر حوار له مع قناة الجزيرة.
تحسّر يوسف ندا على حال الجماعة بسبب الإقصاء السياسي الغليظ الذي يمارس في حق تنظيم كبير اعترَف أحد قيادته للتو، أعني ندا، أنه لا يمارس العمل السياسي طبقاً لآلياته المعروفة وقواعده البديهية! لقد كان يوسف ندا واضحاً في حديثه عن نفي الصفة السياسية عن جماعة الإخوان المسلمين quot; الإخوان ليسو حزباً سياسيّاً لكي يتبادلوا منصب المرشد (...) وليس من قواعد الجماعة وأخلاقها أن يرشّح شخص نفسه لأي موقعquot;هكذا قال ندا، أعلم الناس بالإخوان. أي أن الترشّح لأي منصب قيادي، طبقاً لمقالة ندا، هو انقلاب على أخلاق الحركة وقواعدها. لم ينس ندا أن يكون صارِماً، في إشارة ربما قُصِد بها تحريض مكتب الإرشاد في مصر ضد بعض قيادات الخارج التي لم تخف استعدادها لهكذا منصب، بغية المبادرة في قطع الطريق عليهم بأي طريقة يرونها مناسبة وحاسمة. فقد قال على سبيل المثال، بصورة مليئة بالحسم quot;من طلب الولاية ndash; يقصد عند الإخوان- لا يولىquot;.

وبطريقة وزراء الخارجية العرب، قال محمد حبيب- النائب الثاني للمرشد العام - كلاماً رتيبا، كانت خلاصته إن الإخوان لا يمانعون من تولي أحد من خارج مصر لمنصب المرشد، لكن إخوان الخارج يدركون تمام الإدراك أن هذا المنصب لا بد أن يبقى في بلد المنشأ! مع أن باحثاً مهمّاً، مثل حسام تمّام، خلُص في دراسته للتنظيم الدولي إلى نتيجة إشكالية لخصها بعبارة quot;التنظيم الدولي للإخوان، الصيت ولا الغنىquot; دون أن يصرّح بوضوح ما إذا كانت هذه المقولة هي أيضاً عقيدة تحتية لدى أعضاء مكتب الإرشاد في مصر. أي أن التنظيم الدولي بالنسبة لهم ليس أكثر من فزّاعة غربان، لا تستدعي التعامل الجاد معها. وإلا فما معنى إلغاء منصب quot;المراقب العامquot; في مصر، وهو منصب موجود في كل الدول بحسب لائحة التنظيم، والاكتفاء بمنصب quot;المرشد العامquot;.. الذي يفترض به أن يكون مرشداً لكل إخوان العالم، وليس مصر؟ كذلك، لم يقدم إخوان مصر تفسيراً مقبولاً لإلغاء منصب المتحدّث في الغرب، كمال الهلباوي، إلا إذا كان الأمر يصب في صالح حيازة المرشد، ومعه مكتب القاهرة، بيضة التنظيم بما في ذلك الميكرفون الدولي. ثمّة، ببساطة، نفي لأي مشاركة عن بُعد، على أن تظل القاهرة فقط هي التي تصنع الفكرة، لأنها مركز ثقل الإخوان، كما قال مهدي عاكف. هكذا قال، ولم يكن مستعداً لتعريف هذا الثقل؟ مع العلم بأن عدد أفراد حزب الإصلاح، في اليمن، أعلى بمرة ونصف من عدد أعضاء الإخوان في مصر. كما أن المساهمة النظرية والفكرية التي قدّمها إخوان الشام، سوريا ولبنان وفلسطين ومعهم الأردن، تتقدم إلى درجة بعيدة على مجمل مساهمات المركز، القاهرة. في حين قطع إخوان المغرب وموريتانيا شوطاً متقدّماً في العمل السياسي، وقدموا أطروحات وممارسات بقدر لافت من النضج، بما يجعل من التجربة الإسلامية المصرية مجرّد quot;ماركة بلا منتجquot;.. فعن أي ثقل يتحدث السيد مهدي عاكف؟

( 7 )

عندما أصيب المرشد العام السادسquot; مصطفى مشهورquot; بجلطة دماغية، 2002، بادرت قيادات في التنظيم الدولي إلى ترشيح فيصل مولوي، نائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء آنذاك، لمنصب المرشد. عند ذلك هاج مكتب الإرشاد في مصر، وتحدّى أحد أعضائه في تصريح لصحيفة الشرق الأوسط، عدد 8743، أن quot;يجرؤquot; أحدٌ على سحب منصب المرشد العام من مصر. بل بلغت العصبية بأعضاء مكتب الإرشاد في القاهرة إلى حد التشكيك في جدوى التنظيم الدولي واعتباره مجرّد quot;وهم، وعبء كبيرquot; على الإخوان. فضلاً عن الحديث حول أن استلام أي قيادة غير مصرية لهذا المنصب يعد انقلاباً على اللائحة الداخلية التي تنص على أن يكون 50% من أعضاء مكتب الإرشاد من بلد المرشد؛ وهو ما سيعني: تعذّر الأمر من الناحية العملية! تلك اللائحة التي كأنها قرآن أبدي، لا تقبل التعديل ما دامت تؤدي مهمّتها الجوهريّة: المركزية المصرية. كما أنها تشبه إلى حد بعيد مثيلاتها من اللوائح الأمنية والسياسية العربية التي لطالما اشتكى منها الإخوان المسلمون أكثر من غيرهم. وأبعد من ذلك، إنه ليل امرئ القيس الطويل المشدودة نجومه بـquot;أمراس كتّانquot; إلى صم الجندل، فلا يتحرّك ظفر أنملة.

(8)

مؤخّراً، منذ حوالي الشهر، سرّبت قيادات إخوانية مصرية معلومات تقول أن برنامج حزب الإخوان المسلمين نال قسطاً جديداً من التعديل، وأن هذا التعديل الجديد لم يحتوِ على تلك المادة السامة التي تحظر على القبطي والمرأة رئاسة الدولة. بيد أن مصادر صحفية أخرى نقلت عن قيادات مرموقة في التنظيم، لم تذكر اسمها صراحة، أكّدت على أن حذف المادة من البرنامج هو مجرّد احتيال سياسي بسيط، بينما تسود قناعة نهائية لدى قيادات الجماعة بحظر منصب الرئاسة على القبطي والمرأة. وهو أمر توقّعه كثيرون، على رأسهم المفكر القبطي د. رفيق حبيب القريب من المرشد العام للإخوان المسلمين. حتى فكرة المرجعية الإسلامية التي تبنّاها برنامج الحزب لم تستطع، أعني الفكرة، أن تجيب عن أسئلة المثقفين المصرييّن. مما حدا بالمثقف المصري المرموقquot;د.سيد ياسينquot; إلى أنه تمنى عليهم لو أنهم لم يشيروا إلى موضوع المرجعية لكان أجدى لهم في مشروعهم السياسي عن أن يطلقوها دون أن يكونوا مستعدين للإجابة عن كل التساؤلات التي تثيرها فكرة المرجعية وعلاقتها بالمدنية والخيار الشعبي. من الواضح إن إخوان مصر يرفضون على نحو قاطع الاستفادة من تجارب التنظيمات السياسية الإسلامية في أي مكان في العالم وينظرون إليها بفوقية غريبة تحت ضغط عقيدة شوفينية لا تختلف كثيراً عن تلك التي كان يقولها الإمام مالك حول فقه العراق: عاملوا أهل العراق معاملة اليهود والنصارى، لا تأخذوا منهم ولا تردوا عليهم. كان كل تبرير مالك يقع عند فكرة سطحيةٍ تقول: لقد دُفن عشرة آلاف من أصحاب رسول الله في المدينة، وهذا يدل على أن أهل المدينة أجدر على التصدي للقضايا الفقهية الطارئة والعادية. ذات المنطق يردده إخوان مصر في تعاملهم مع التصورات الإسلامية المتطوّرة، التي نالت فرصة الاشتباك مع الواقع وطوّرت أدواتها، وعلاماتها.. وأصبحت أكثر قدرة على التعايش السلمي المدني مع الأمم.

(9)

يعتقد الإخوان المسلمون في مصر أن الأحزاب الإسلامية التي اقتربت من السلطة، بمختلف الدرجات، أو اشتركت فيها كان نجاحها بسبب تخليها عن مبادئها وتبنّيها للمقولات والسلوكيات العلمانية. وهو موقف يتبنّاه كبّار قيادات إخوان مصر، مثلما فعل د.محمد مرسي، الذي وصل به الحد لدرجة تجريد التجربة التركية من كل أثر إسلامي. لأن ما هو إسلامي كما يعتقد محمد مرسى هو quot;مبتلى ومطاردquot; بالضرورة، كما هو القدر المصري، وهذه عقيدة إسلامية مصريّة لا تختلف كثيراً عن الفكر القوطي الأوروبي في القرن الثامن عشر. ودائماً يأتي الفاعل من الخارج، هكذا قال أمل دنقُل عن الوعي المصري قبل عشرات السنين: لستُ أنا الذي (....) الآخرون دائماً هم الذين يفعلون!

(10)

يعتقد مراقبون جادّون أن جماعة الإخوان المسلمين، المركزية، هي الأقل تطوّراً بين كافة التنظيمات الإسلامية الدولية. كما يعتقدون، أيضاً، أن الحركات الإسلامية التي انفكّت تنظيميّاً عن الإخوان المسلمين، مثل التوحيد والإصلاح المغربية، والعدالة والتنمية التركية، هي الأكثر دراماتيكية وبراجماتية ونموّاً. وتختلف تفسيرات المراقبين لهذه الوقائع، فالمثقف المصري د. عمرو الشوبكي يعتقد أن القوانين الصارمة في تركيا أتاحت، رغم صرامتها، مجالاً ولو ضيقاً للمرونة والحركة بالنسبة للتيارات الإسلامية التركية، لأنها تميّزت ndash; أي القوانين التركية- بوضوح صارم؛ بيد أن البيئة السياسية المصرية، بحسب الشوبكي هي بيئة مرَضية لا توفر مثل هذا الوضوح، بما يعني أن مدى المناورة والمرونة غير واضح، ويعتبر عرفيّاً إلى حد بعيد، كما أنه يمكن أن يختفي إلى درجة الصفر، عند أي لحظة.

أما المثقف القبطي المعروف quot;رفيق حبيبquot; فهو يذهب إلى أبعد من ذلك، طبقاً لمقاله الذي نشره موقع quot;المصريّونquot;عن جريدة quot;المصري اليومquot;. فهو يعتقد أن quot; التطور مرتبط أساسا بتوفر مناخ الحرية السياسية، لأن الحركة تطور مواقفها التطبيقية بناء على وجود مساحة لحرية العمل والتطبيق، وهذا ما يجعل مصر أقل الدول في التطور الديمقراطي، قبل أن يكون الإخوان هم أقل الحركات تطوراquot;..


(.... )

لا يوجد ثمّة يقين ما، لكن ما يعتقده كثيرون ndash; ومنهم صاحب المقال- أن البيئة السياسية المصرية تحكهما أعراف قديمة لا تزال تتناسل ndash; كما يعتقد المحلل السياسي المعروف ضياء رشوان- منذ أيام الفراعنة، وستظل لفترة ممتدّة في المستقبل. ما يعني أن الفكرة السياسية المتعلقة بسؤال المستقبل سوف لن يكون متوقّعاً أن تأتي من مصر، حيثُ يعيش سؤال الماضي ndash; طبقاً لجابر عصفور- ليتعامل مع الزمن بوصفه دائريّاً، وينشدّ إلى الخلاص الذي يسكن في مجاهيل التاريخ، وليس في المستقبل!

إن فك الارتباط بالتنظيم المصري، الذي يمانع ويقف ضد الاستفادة من تجارب غيره من التنظيمات الإسلامية غير المصرية بحسبانه بلد المؤسس وعليه فهو يمتلك الحق الحصري في تأويل الأصول النظرية للحركة الإسلامية بما يقترب بها من درجة الكمال الإلهي.. إن فك الارتباط مع هذا التنظيم أصبح ضرورة ذات قدر عالٍ من الإلحاح.

يتحدث الإخوان المسلمون في مصر بقدر جمّ من المباهاة والاستعلاء عن التنظيم الدولي الذي هو مجرّد خيوط كتّان في يد المرشد، كما يعتقدون، حين يكونون بصدد الإشارة إلى حجمهم الكبير وما يستدعيه هذا الحجم quot;العالميquot; من ضرورة المراعاة والتقدير في الداخل المصري.. ثم هم يتبرّأون من هذا التنظيم ويشيرون إليه باعتباره quot;عبئاً ووهماً كبيراًquot; حين يتحدّث إخوان الخارج بفقدان أمل عن ضرورة تبادل منصب المرشد بين مصر وغيرها من quot;الأممquot;، بغية ضخ حياة جديدة وخبرات ذات بعد عالمي إلى أوعية التنظيم. هذه الثنائية في التفكير والسلوك، وهي غير أخلاقية ولا إسلامية بالمرّة، مثّلت مسوّغاً ذا منطق وافر للحديث عن ضرورة فك الارتباط مع تنظيم الإخوان المركزي في مصر، الذي أصبح ndash; بكل وضوح- عبئاً حقيقيّاً على التنظيمات الإسلامية الحداثية في عديد دول عربية وإسلامية، بسبب تاريخ المركز في مصر، ذلك الذي ارتبط بصراعات ودماء وتقوقع وتفريخات عنيفة. ذلك التاريخ العنيف والإشكالي ورثته التنظيمات الإسلامية السياسية غير المصرية عن غير حق، وناضلت كثيراً في سبيل تبريره أحياناً، والبراءة منه في أحايين أخرى، لكنه لا يفتأ يقفز إلى الأمام عند كل خطوة مفصلية تنجزها هذه التنظيمات.

مروان الغفوري