يشتعل النقاش هذه الأيام في الأوساط الداخلية في سوريا على خلفية ما أطلقه حزب البعث الحاكم من آلية لتجديد ما يسميه الحزب منطلقاته النظرية والفكرية وهي بالأساس منطلقات تقادمت ولم يعد حتى البعثيون يقرؤونها أو يعيرونها اهتماما.

إن الطرح وفي هذا التوقيت بالذات ينطوي على جملة من الدلالات أولها ان حزب البعث ومن خلفه السلطة السورية تشعر بأنها في وضع مريح بحيث تتفرغ لترف المناقشات الفكرية العقائدية فيما يرى البعض ان الامر برمته هو مجرد اشارة الانطلاق لتغييرات كبيرة في التعاطي بين السلطة الحاكمة وحزب البعث وهما في كل الاحوال متماهيان الى درجة لا يمكن لأحد ان يفرقهما.

فرئيس الوزراء في سوريا هو عضو قيادة قطرية في حزب البعث بحكم موقعه لا بحكم شخصه وكذلك رئيس مجلس الشعب ومن نافل القول التذكير بأن رئيس الجمهورية بحسب الدستور السوري ينتخب بناء الى موافقة القيادة القطرية لحزب البعث وعليه فإن السلطة هي الحزب والحزب هو السلطة.

ولمن لا يعرف حزب البعث عليه ان يعلم بأن تعريف الحزب لنفسه في كراساته ومنطلقاته تقول بأنه حزب إنقلابي وبالتالي فإن حديث الحزب اليوم عن تجديد منطلقاته النظرية يمكن ربطها بهذا التعريف خصوصا وان الدولة السورية تجتاز قطوعا تاريخيا اجتماعيا هائلا من النظام شبه الإشتراكي الى النظام الرأسمالي بصورته شبه المتوحشة.

فقد نمت في سوريا في الفترة الأخيرة طبقة من المتنفذين وأصحاب السلطات والمنتفعين من السلطة وبعضهم من رجالات الحزب والدولة تحالفت هذه الطبقة مع الطبقة البورجوازية لاعادة انتاج هيكلية دورة الانتاج في سوريا وفق معادلة تضمن للبورجوازية الجديدة مرابحها وتضمن للسلطة الولاء والإستقرار وبإزاء ذلك كان البعث المؤسسة الاقل قدرة على التعبير بحكم كونها بحسب آراء معظم السوريين قد فقدت قدرتها وحيويتها وحماسها للمشاركة في الحياة العامة.

إن بذرة حزب البعث التي بذرها المفكر زكي الأرسوزي وتعهدها رسميا ميشيل عفلق وصلاح البيطار في ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي ربما تحتاج اليوم الى اكثر من مجرد نقاش قد يكون بحسب رأي البعض (جدل بيزنظي ) فالحزب لم يجب على اسئلة كبرى تتعلق بجوهر تأسيسه وحقيقه اهدافه ل ابل ومشروعيتها ايضا.

فالبعد القومي الذي كان دوما شعارا اساسيا لحزب البعث يكاد يصبح من الماضي حيث فقدت القيادة القومية للبعث كافة مقوماتها والحزب بلا امين عام منذ وفاة الرئيس الراحل حافظ الاسد قبل اكثر من ثمان سنوات كما ان كثير من اعضاء هذه القيادة بلغوا من العمر عتيا وبات نشاطهم الوحيد هو اصدار البيانات التي لا يقرأها احد.

ولكن اشد ما يؤخذ على حزب البعث بحسب المراقبين في داخل سوريا انه فقد دوره التعبوي والنتظيمي الى حد بعيد حيث أصبح الانتساب الى حزب البعث في كثير من الاحوال ينبع من اتجاهات مصلحية وحتى انتهازية ولم يعد الحزب في الواجهة بل الاجهزة الامنية التي سيطرت على المفاصل العامة في حياة السوريين في مقابل تراجع البعث تراجعا طوعيا دون ان يقدم على الدفاع عن دوره الامر الذي ادى الى جمود كبير في حيوية البعث وتجلى ذلك في عدم إحداث اي تغيير ملموس في طريقة تفكير البعث حتى سنة 2005 حيث اطلق البعث في مؤتمره القطري جملة من المحددات الداخلية كان ابرزها انتهاج سياسة اقتصاد السوق الاجتماعي على الصعيد الداخلي وهو المصطلح الذي يعتبر اليوم على نطاق واسع مصطلحا فضفاضا حيث سيطر اقتصاد السوق عمليا على كل شيء اجتماعي.

فمنذ اطلاق ما يسمى اقتصاد السوق الإجتماعي انتقل كثير من السوريين الى طبقة الفقراء واستفادت الشرائح الغنية من الانطلاقة الجديدة فدخلت في مشاريع بالمشاركة مع الحكومة او بتسهيل منها وبتمويل من رأسمال عربي و اجنبي فجنت ارباحا خيالية فيما واصل المجتمع السوري انحداره الاقتصادي بالرغم من بيانات النمو التي لا تعترف الا بالارقام الكلية فيما تتجاهل تماما تركز الثروة في ايدي قلة قليلة وهو ما افقد حزب البعث شرطا مهما من شروط شعبيته وهي تعبيره عن طموحات الاكثرية الشعبية اذ بدا وكأنه تحالف مع طبقة من رجال الاعمال والمتمولين في داخل سوريا وخارجها واعطى اشارة الانطلاق نحو دولة تختلف كليا عن الدولة التي خطط لها البعثيون عندما استولوا على السلطة في انقلاب ابيض عام 1963.

البعثيون يترددون في المجاهرة برأيهم وهذا يعني ان شعار الحرية الذي يرفعه البعث بحاجة لكثير من اعادة النظر وعليه فإن منطلقات البعث الاساسية واهدافه والمختصرة بثلاث كلمات (وحدة حرية اشتراكية ) يدور حولها الكثير من المفارقات وحتى الغموض فالإشتراكية البعثية أودى بها اقتصاد السوق الإجتماعي والحرية يعترف السوريون انفسهم بأنها لم تطبق بالشكل الجيد حتى بالمعني الثوري(اي التحرر من الاحتلال) فيما الوحدة والالتزام بها يبقى اسير العلاقات العربية العربية وتذبذباتها ولعل التخلي تدريجيا عن دور القيادة القومية من شأنه ان يحول حزب البعث الى مجرد واجهة لحزب لا احد يعرف بالضبط عن ماذا يعبر.

البعث يجدد منطلقاته...البعض يقول لما لا او ليس التغيير هو سنة الكون ؟..لجواب نعم ولكن كثيرين يقولون بأن التغيير المنشود لا يمكن أن يأتي، فلا احد قادر اليوم على اجبار الممسكين بزمام السلطة في دمشق وزمام البعث تاليا على تقديم ما لا يريدون تقديمه ولكن لابأس ببعض الافكار احيانا عبر طرح تجديد منطلقات نظرية بقيت في الكتيبات سنوات طويلة.

بهية مارديني

دمشق