أشك أن السيد العقيد معمر القذافي ولجانه الثورية واصدقاءه الجدد في الغرب سوف يهنأون بموت المناضل السلمي الليبي فتحي الجهمي الذي توفى صباح الخميس متأثرا بما عاناه من تعذيب جسدي ونفسي في سجن العقيد القذافي قبل ان ينقل في أيامه الأخيرة إلى الاردن للعلاج وللتخلص من حادثة موته في ليبيا بشكل أصح في باطن ماحدث.

لقد كان الراحل الكبير أول من جهر بمعارضة نظام السيد العقيد القذافي وذهب للسجن برأس مرفوعة دون تردد في المرة الأولى بعد أن طالب علنا بضرورة اطلاق سراح السجناء السياسيين واطلاق أسر الصحافة وأجراء انتخابات حرة ليختار الناس من يسير أمورهم بحرية في عام 2002 وذلك من داخل أحد الحصون العتيدة للعقيد القذافي التي تسمى بالمؤتمرات الشعبية الاساسية، ثم كرر هذه المطالب المحقة عندما خرج من السجن بفعل ضغوطات محلية ودولية متعددة ومتصاعدة في مارس 2004 على الأثير، ليعود في اليوم التالي إلى السجن كرجل رفض ان يساوم على مبادئه التي تسكن صدر كل مواطن متطلع للحق البديهي في الحياة والاختيار الحر في بلد مغلق وخاضع لحكم من نوع غريب ومتفرد يحاسب فيه المرء لمجرد التفكير والحلم بشكل مغاير لما رسم له من قبل أكثر الانظمة الدكتاتورية صراحة وتبجحا وفخرا بالقدرة على التكميم والقمع.


أنه لأمر مخجل ودال، أن يقتل فتحي الجهمي الذي تخلى على كل المغريات والمناصب وكل مايمكن أن تطاله اليد والشهوة في بلاد مفتوحة للنصب والاغراءات في سبيل أن يجهر بما يعتقد أنه الحقيقة أمام اعين العالم الذي يهدر صباح مساء بحق التعبير والمشاركة وابداء الرأى، وأنها لمعرة أن نجلس جميعا في خانة المتفرج على مسلسل العذاب الطويل والممنهج الذي تعرض له فتحي الجهمي طوال سنوات سجنه التي أنتهت بمقتله عمليا قبل أن يرسل جثمانه للاردن حيث يمكن أن يعلن خبر الوفاة فيما ظن الجلاد انه منأى له عن تحمل المسئولية الأخلاقية والتاريخية لهذه الجريمة النكراء.


نودع هذا البطل الليبي الذي لم يساوم على مايعتقده ولم يتخذ طريقا للعنف من اجل الدعوة لما يؤمن به مسقطا كل الحجج والدعاوى التي يبثها النظام الحاكم في ليبيا منذ اربعة عقود ومناصيره من المغفلين والمتواطئين والمغمضين عيونهم على الحقيقة بمسلكه الحضارى ودأبه على المناداة بما يرى وتمسكه بالمبادئ التي نادت بها كل الشرائع الإنسانية وصموده النادر امام كل اشكال التعذيب النفسي والجسدي طوال سنوات سجنه في سبيل قضية شعب معتقل ومختطف تحت طائلة شعارات بلهاء أتت على اخضر البلاد ويابسها ولم يبق إلا الرماد الذى أصر الراحل الكبير على نثره في عيون المكابرين الذين يرفضون حركة التاريخ والغريزة الكامنة في كل كائن حي نحو التحرر وامتلاك القرار فيما يخص المصير الخاص والعام.


هل يعتقد حقا جلاد الجهمي أن قضية شعب تآمر عليه القريب قبل البعيد سوف تنسى بمجرد رحيل هذا الرمز الذي اختار عن وعى وتصميم وقدرة هائلة على التضحية والعطاء والتفاني!!؟ أم أنه يظن أن قتل رجل اعزل يقبع في زنزانة منفردة أمر يدعو للاحتفاء بالبطولة في السيرك الذي نصبه على جثة الحقيقة صارخا من داخله في المارة بأن الطريق لتغيير العالم لابد وأن يمر من خلال جسد وروح اولئك الذين رفضوا المشاركة في هذا الكرنفال المخصص لبهلوانات الشعار والمتربحين من دماء الحقيقة والمنافقين الذين هم لكل مهرجان دم متصدرون؟.


هيهات أن يكون التاريخ بمثل هذه السذاجة، وحاشا أن يكون الجميع في سلة واحدة كما اعتقد قتلة الجهمي وماقبله وما سوف يذبح على محراب الحرية من بعده في سبيل أن تعود المياه الليبية وكل مياه طامحة لمساربها الحقيقية المؤدية للمصب الذي نبعت من أجله.


لقد نالت ليبيا استقلالها بعد أقل من عقدين من شنق آخر ابطالها الوطنيين عمر المختار على يد الفاشيست الطليان، والشعب الليبي مستعد لان بمضي مثل هذه الفترة على رجل واحدة بعد مقتل بطل الاستقلال الثاني فتحي الجهمي، فمقتله سوف يكون على رأس العوامل التي ستعجل به، لقد مات جلاد المختار شر ميتة وانتهى زمنه وذهب بشعاراته المضللة إلى مكان قصى حيث دفن في مهد لعنات التاريخ، ولن يرضى هذا السفر العادل بأقل من تتويج مستحق لروح الجهمي التي غادرت وهي تكاد ترى يوم نيل الليبيين لما يستحقون من حياة مختارة في متناول اليد.

مجاهد البوسيفي