فضيحة مصروفات نواب مجلس العموم البريطاني وصفتْها صحيفة الإندبندنت باليوم الأسود في البرلمان البريطاني. كيف لا؟ وقد تسببت في إرغام رئيس مجلس العموم مايكل مارتن على تقديم استقالته وهي الأولى من نوعها منذ ثلاثمئة سنة أي منذ عام 1695.
ورغم أن مارتن خدم بلاده أكثر من ثلاثين عاما وعُرف بالنزاهة والاستقامة ورغم أنه لم يدخل المغارة مع علي بابا، إلا أنه استقال تحمّلا منه لمسؤولياته السياسية والأخلاقية واستجابة لمنتقديه الذين اتهموه بالإخفاق في إدخال إصلاحات إلى نظام دفع فواتير النواب.
النفقات البريطانية
تبسيطا للقارئ العربي، فإن النواب لم يضعوا أيديهم على أموال دافعي الضرائب وشحنوها في أكياس لتهريبها إلى البنوك السويسرية كما يفعل مسؤولونا، وإنما استغلوا ثغرة قانونية لم تُحدد نسبة الاستفادة من النفقات. وعلى سبيل المثال فإن القانون يسمح بتعويض كُلفة نفقات أي نائب عند ركوبه التاكسي أو القطار للالتحاق بدائرتة الانتخابية، لكن القانون لم يحدد نوعية السيارة التي تختلف نفقاتها بحسب طرازها، ولم يحدد المقعد داخل القطار، أهو في الدرجة الأولى أم العادية. وهذا ما ينطبق على المفروشات وترميم البيوت. بمعنى أن النواب تجاوزوا صلاحياتهم وصرفوا أكثر مما يجب. لكن سرعان ما تم فضحهم، لأن بريطانيا دولة مبنية على أساسات متينة ومؤسسات ديموقراطية عريقة وصحافة تسهر على خدمة المجتمع وتفضح التجاوزات وترفض المساومات، وهذا ما يجعل أجهزة كشف الفساد لاتتوانى في محاربته مهما كان النفوذ المالي والسياسي الذي يتمتع به المفسدون.
هاتفني أحد الصحافيين العرب ولامني عن كتاباتي حول الفساد في دولنا وقال إن الفساد ينخر المجتمع البريطاني وأعتى الديموقراطيات في العالم، وأن صحيفة الدايلي تلغراف اليمينية لم تقم بفضح النواب إلا فتحا للمجال أمام حزب المحافظين للدعوة إلى انتخابات مبكرة للفوز بها أمام حزب العمال الذي فقد بريقه منذ بدء الحرب في العراق وتنحي توني بلير عن منصب رئيس الوزراء وزعامة حزب العمال. هذه النظرية المتآمرة قرأتها أيضا في عدد من المواقع الإلكترونية العربية التي تبيع الجهل للعامة. هؤلاء طبعا تناسوا بأن الصحيفة إياها فضحت كل النواب بمن فيهم نواب المحافظين، وقد حققت سبقا صحافيا وأثارت صخبا إعلاميا وجدلا سياسيا أطاح برؤوس كبيرة. أما عن مقارنة أم البرلمانات في العالم بالبرلمانات الكارتونية في جمهوريات الموز فهذا ضرب من الجنون واستسلام للاتكالية والتواكل، ولا يمكنني شخصيا أن أدخل في مقارنة مثلا بين مجلس العموم البريطاني وبين البرلمان الجزائري، لأنني سأُصاب بالدوار وسأكون مثل الذي يُطل من على قمة جبل إيفرست ويبحث عن نملة في أقدام الجبل. وهذا ما أسمّيه بـ..النفاق العربي.
الذي سيطر على حياتنا في المجتمعات الشرقية، فاللصوص نهبوا وينهبون ثرواتنا ورغم ذلك يجدون من يُبرر ويختلق لهم الذرائع بحجة أن الفساد ينخر الدول المتقدمة وكل دول العالم من اليابان إلى الولايات المتحدة، وأي فضيحة تنتهي بالمحاسبة في دول الغرب ماهي إلا مسرحية محبوكة بدقة للإطاحة ببعض الرؤوس وإبراز صورة ديموقراطية للمجتمعيْن المحلي والدولي. هذا التفكير السلبي ترجمتْه النتائج التي توصلت إليها مراكز البحث العريقة، حيث وجدت بأن أكثر الدول تديّنا في العالم تقع في منطقتنا العربية، وهي نفس الدول التي تتفشى فيها الرشوة والفساد وتستفحل فيها الجريمة وتُستهلك فيها الفياغرا والمخدرات بنسب خيالية وتُصرف مليارات الدولارت على السحر والشعوذة وفي الآن نفسه تمتلأ فيها المساجد في رمضان وأيام الجمعة، ويُكثر الناس من استعمال عبارات دينية في أحاديثهم اليومية لقضاء حوائجهم الدنيوية.
النفاق العربي..
لم يكن ليستفحل في دهاليز السياسة لولا تفشيه في حياتنا اليومية، في عقولنا وفي مدارسنا ومعاهدنا ومؤسساتنا الثقافية والاقتصادية. الكل يُبرّر للكل. ونحن البارعون في إيجاد الحجج عقب كل هزيمة، شخصية كانت أو جماعية. فالسياسي عندنا نُعطيه الحق في أخذ نصيبه من المال العام بحجة أن من يأتي بعده سيكون أسوء منه، والشيطان الذي نعرفه أحسن من الذي نجهله. وقمع المعارضين مبرَّر لأن المعارضة أوسخ من السلطة، والجلاد الذي يعذب المساجين لم يكن ليُعذب بتلك البشاعة لولا أنه ذاق الويلات من بني جلدته وهكذا. كلّ هذا ونتساءل: لماذا تأخّرنا وتقدّم غيرنا؟
ياجماعة، إن القضية مجرد نفقات بريطانية تجاوزت حدودها وقد تم قطع دابرها بمحاسبة المتورطين وتفعيل نظام الرقابة، فماذا عن النفاق العربي؟ أهو كالحماقة التي أعْيت من يداويها!
سليمان بوصوفه
التعليقات