افرز النقاش الدائر على الساحة السياسية والاعلامية التركية حول سبل حل القضية الكردية رأيين متناقضين. الرأي الاول كان للحكومة التركية التي اعلنت مضيها في انتهاج الحل السلمي لهذه القضية وتبنيها عملياً لمجموعة من الخطوات الرمزية مثل السماح المحدود باستخدام اللغة الكردية في الاعلام والانفتاح على حزب التجمع الديمقراطي الذي يمثل المكون الكردي في البرلمان التركي. ويساند هذا الرأي غالبية الشعب التركي حسب آخر الاستطلاعات وهذا ما ادهش المتابعين للشأن التركي. والرأي الثاني جاء مناقضا لما سبق وقد تبنته المؤسسة العسكرية التي اعلنت ممانعتها وعرقلتها لمساعي الحكومة. حيث اعلنت هذه المؤسسة عن تمسكها بمبادئ الاتاتوركية القائمة على وحدة القومية واللغة في تركيا. وعلى هذا الاساس افصح العسكر في تركيا عن استحالة قبولهم الاعتراف بالحقوق القومية والثقافية للشعب الكردي في تركيا ويساندهم في هذا الرأي اقلية من اتباع حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية.

الدافع وراء موقف المؤسسة العسكرية في تركيا هو ليس الحرص على وحدة تركيا كما تدعي بل هوالخوف من ان يؤدي الحل السلمي للقضية الكردية الى تقويض أو اضعاف سلطة هذه المؤسسة وامتيازاتها فالاعتراف بالشعب الكردي ولغته في تركيا يعني عمليا تقويض الاتاتوركية وافراغها من مضمونها وهذا يعني بدوره انتفاء مبرر تدخل العسكر في الشؤون السياسية بحجة الوصاية على مبادئ الاتاتوركية. كما ان الحل السملي للقضية الكردية في تركيا يعني اعترافا بالهزيمة للمؤسسة العسكرية التي دأبت طوال ربع قرن على الادعاء بقدرتها على الحل العسكري ولن يكون فشل الاجتياح العسكري الاخير لكردستان العراق في ربيع ٢٠٠٨لمطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، بعيدا عن الاذهان رغم ماتلقته تركيا من دعم امريكي و اسرائيلي.

مالايعيه العسكر في تركيا حقا هو ان الاتاتوركية قد ولّى زمانها فهي اليوم بلا معنى. فالتجانس القومي و الاجتماعي الذي تدعيه الاتاتوركية لايمكن ان يصمد امام الشعور القومي المتقد لدى الكورد.ولن تستطيع الآلة الحربية والبوليسية التركية ان تخمد هذا الشعور كما كانت تفعل ايام الحرب الباردة فالدور التركي في حراسة حدود الناتو مع الاتحاد السوفيتي قد انتهى الى غير رجعة وتركيا الآن بحاجة ماسة الى دخول الاتحاد الاوروبي وهوما يقتضي امتثالها للمقاييس الاوروبية في مجال حقوق الانسان وحرية التعبير واستخدام اللغة القومية. ولاننسى ان الاتاتوركية سبق لها وان تلقت ضربة موجعة لاحد اركانها الاخرى وهي العلمانية. فقد وصل الاسلاميون الى سدة الحكم رغم كره العسكروقد اثبت الاسلاميون انهم اكثر نزاهة من القوميين العلمانيين الذين اتسمت فترات حكمهم بالفساد والفشل على كل الصعد. ما سيتبقى من حطام الاتاتوركية هو مبدأ وحدة الاراضي التركية وهو ما تجازف به المؤسسة العسكرية من خلال عرقلتها للحل السلمي لهذا القضية وتجاهلها للحقوق المشروعة للكورد في تركيا. فما يرضي الكورد في تركيا اليوم قد لايرضيهم في المستقبل. والمتتبع للقضية الكوردية في العراق يعلم ان مطلب الكورد كان الحكم الذاتي وعلى اساسه تم ابرام اتفاق آذار عام ١٩٧٠ ولكن تنصل الحكومة العراقية من الاتفاقية وقمعها للكورد في السنوات اللاحقة حدى بالقيادات الكوردية الى استغلال الشعور القومي الناتج عن هذا القمع والاستفادة من الاخطاء التي ارتكبها نظام صدام حسين،الى رفع سقف المطالب باتجاه الفيدرالية.

ان الحل السلمي للقضية الكوردية في تركيا سيزيد من قوة تركيا ويحسن فرصتها في الانضمام الى الاتحاد الاوروبي. مطالب الاتحاد الاوروبي لتركيا متعددة ولكن اهمها واكثرها الحاحاً هو حل القضية الكردية في هذا البلد. ان الاستناد الى الاخوة الكردية -التركية وروابط الدين والوطن والتاريخ المشترك كفيلة بضمان وحدة تركيا في ظل اطار ديمقراطي دستوري يكفل للأقلية الكوردية حقوقها القومية واللغوية والثقافية. اما اساليب القمع والتجاهل وسياسات الصهر و القهر للكورد لن تثمر سوى عن مزيد من الاحتقان لديهم وهو ما سيدفعهم حتما الى البحث عن اية فرصة سانحة للانفكاك من هذا الظلم والحيف ولو كان ذلك خارج الاطار التركي الوطني.


[email protected]