للحديث مع كبار السنّ في العراق (شيوخ التاريخ الفريد) أسراره الأخرى.وربما لا يدرك طعمها أي شخص من خرائط بعيدة،فللعراقيين من أزمنة مختلفة حكايات جميلة متواصلة الروي.حكاياتهم كانت في الغالب عن خمسين سنة خلت..حتى لكأن الخمسيني العراقي أصبح راوياً،بعد عجزه عن كتابة مذكراته الشخصية كما يطيب لبعض الشعوب تدوين أيامهم.

الخمسيني، وما بعده، في ذاكرتنا العراقية، هو ذلك المتطلع إلى حكمة أيامه الشخصية وذكرياتها،المبثوثة في نوادر وحكايات،كانت تتداول في المقهى(فضاء المدينة الحقيقي) وفي المضيف( مستودع المأثورات والتراث والحكايا العشائرية)،حاملاً بين حين وآخر من البداوة حكايا الكرم والفروسية والخلاص بالفضيلة!

لكلّ منهم حكاية تبث الحكمة والموعظة،وتضفي على صاحبها فرادة تاريخية خاصة.وهي ليست حالة عامة ليتم الحديث عنها بالشمول الواسع، بل مختلفة باختلاف الأشخاص وأماكنهم،وعددهم في زمانهم،لذا سيصعب الحديث عن نموذج واحد بعينه.

وليكن الحديث الآن في هذه العجالة عن أشخاص دخلوا المؤسسة العسكرية في بدايات ومنتصف القرن الماضي،وهي فسحة لمعاينة المدنية من وجهها الإنكليزي،الباقي كصفةٍ تشير إلى زمن مرور المحتل بعساكره وأساطيله..فسحة فيها الكثير من الإشراق قبل هرم القوانين وتآكلها بفعل تقادم الزمن وفساده.

كان العسكري مدنياً بما تمليه عليه صرامة القانون.يتعلم منها التزامه ومدنيته. ويخرج منها مدنياً بحكم هذا القانون؛ بتقاعد، وضمان، وإرث من الحكمة.

وكم ذا نعد حين نعد. وكم منَا يحمل حكايات عن شخص يعرفه أو تعرّف إلى حكمته القديمة.

التقيت بأحد هؤلاء لاجئاً بعد عقده السبعيني(عبد الرضا شعيل الحمداني)عسكري متقاعد بعد خدمة ثلاثين عام.خدم في أيام عبد الكريم قاسم،ولم يخرج إلى الآن عن ذلك الزمن، بما حمله من نفحات رمزية هائلة،تركت طيباً تحطّم بالتقادم.وتلاشى بعد أن هجع الخمسيني(الراوي) إلى ذكريات، يعاقرها في الحكايا مع الندمان.. لتفوح مع خمر المدينة وقهوة العشيرة!

قال لي الرجل السبعيني،كم تمنيت وأنا أطالع ما كتبتَه قبل سنوات ووجدتُه منشوراً في صحيفة عراقية،أن أروي لك حكايات من الزمن الذاهب إلى نسيانكم أيها الشاب. الحكايات ستتبدّد حين لا نرويها..فعلام نعيش بعدها؟!.

قال الرجل السبعيني كنت جندياً في وزارة الدفاع العراقية قبل ثورة عبد الكريم قاسم،وبعدها.وكان يطيل وقوفه على ذكريات ذلك الزمن،فقصة كل عراقي مع هذا الزعيم لها شجن طويل.

قال: في زمن عبد السلام عارف، وهو وثاني حاكم في النظام الجمهوري العراقي، كان لدينا قادة وضباط لا أنسى مآثرهم،ومنهم عرفان عبد القادر وجدي آمر الكلية العسكرية العراقية،وكان لديه بيت في منطقة زيونة ببغداد وأراد أن يعمّر حديقته، وصادف أن احضر له خاصته أحد الجنود بوظيفة فلاح في الجيش، وجندي آخر للعمل في حديقة منزله الخاص ليومين، وبعد أن أكملوا العمل أوعز آمر الكلية العسكرية العراقية أن يحضر ضابط الرواتب معهم ليبلغه بضرورة قطع راتب هذين الجنديين ليومين، وان يدفع لهم هو من جيبه الخاص ضعف المبلغ، لقاء غيابهم عن الخدمة العسكرية وعملهم لديه.

وربما سيقول قائل ما معنى الحديث عن نزاهة رجل قومي،كما وصفه لي الرجل السبعيني.ولكن شاهد القول هنا سيكون كالتالي: إذا كانت هذه أخلاق القوميين على فظاعة وشناعة ما فعلوه، فما بالك بفعل الأمناء النزيهين ممن عاصروا الزعيم قاسم، وكانوا فاعلين في زمانه؟

قال الرجل السبعيني أيضاً:كان رشيد محسن جمعة الجميلي مديراً للأمن العام سنة 1965،و لم يكن يملك مالاً ليشتري بيتاً،حتى أهداه صديق له قطعة ارض بمساحة 120 متراً اقتطعها من بيته في مدينة الشرطة ببغداد (تصور عزيزي القارئ اننا نتحدث ا|لآن عن مدير جهاز أمن في بلد عربي من ذلك الزمن الملطخ تاريخه دماً..)، واستلف (الجميلي )مبلغ 150 ديناراً من مصرف الرهون لإنجاز بعض مستلزمات البيت ولم يكفه المبلغ..فاستدان 50 ديناراً من مدير الحركات العسكرية المقدم الركن محمد يوسف طه شنشل.. قال الرجل السبعيني كنت شاهداً حيث أخذتها باليد لتسليمها له.

ويكمل:كان حماد شهاب وزيراً للدفاع (في حكومة لاحقه بتوجهها القومي)،وعُرف بالتقرب من المراتب (الجنود وصغار الرتب العسكرية)،وصادف أن قَدَمَ نائب ضابط،وآخر رئيس عرفاء عرائض حالٍ طلباً للمساعدة،وحضروا لديه، فسألهم عن حاجتهم.قال الأول: تركتُ أماً تحتضر في بيت لا يملك ثمناً لكفن،واحتاج ما يسدّ مراسم الدفن.والثاني اخبره أن لديه غرفة بناها لعياله ولم يسقفها بعد، لعوز مالي يمنعه من شراء الحديد المستعمل عادة في تسقيف البيوت..وبشهادتيهما التي صارت مثار إعجاب يتناقله الجند؛انه اخرج محفظته الشخصية ووجد فيها مبلغ 50 ديناراً، كلّ ما يملكه،ترك لمصرفه الشخصي عشرة منها،وقسَّم الباقي على الجنديين.

حكايات لا تترك مجالاً للتعليق بعدها،بالمقارنة وحاضر ما نسمعه، بعد تواريخ حدوث تلك النوادر!،فالزمن العراقي سيبدو فاسداً بالتقادم.فساداً لا يبرّر لمن يظنّن بالمقال تمجيداً لسلطة العسكر،أو القومين..بل هي ذكرى تنفع من يؤمن بأن تقادم ما جاءت به أفكار السلطة بسياقها القومي الشعاراتي،دمّر كلّ شيء، وأفنى آمال القوميين أنفسهم، ومسخ نوايا منظريهم..وعرّضهم خلالها إلى الانقراض. ونهاية القصّة غنية عن التعريف.

حكايات النزاهة تلك نستذكرها وقد بلغ السيل الزبى..وهي صرخة استنجاد، نتمنى أن نطلقها لمن ينقذ الموقف..
صرخة استغاثة تضجّ في مستنقعات الفساد..
نطلقها إلى شرفاء نتمنى أن يتسلطوا.. و يفسدوا إن اقتضى الأمر،ولكن مع قليل من الرحمة!
أين مثل هؤلاء الشرفاء،وقد قضى نظام الطاغية على روح النزاهة لدى العسكر،في حروب وفساد طيلة عقود؟!
أينهم في ضباط وقادة وعسكر لا يحمل سوى متاع معركته وفراش استراحته؟

أينهم..بعد أن كان الناس لا يثقون إلا بجندي،أو رجل دين؟!.
أينهم في رجل دين لا يحمل سوى جبته،أو ليكونوا مثل سلمان الفارسي(قدوة خطبهم ومنابرهم) الذي أوكلت له ولاية المدائن في عهد عمر بن الخطاب،وكانت مدينة خير وثروات، وأصابها فيضان ذات يوم فخرج أهلها من منازلهم، وخرج أميرها الفقير سلمان بحصيرة لا يملك سواها، صارخاً: اخرجوا خفافاً.