اختمارات الوعي

مسقط: يواصل جمال أمين باصرار انتاج افلامه القصيرة الفاعلة على مستوى تجديد الدعوة لصناع الفيلم العراقيين بتبني رؤاهم المستقلة والانطلاق بها وانضاجها بمعزل عن مطمطة المؤسسات الانتاجية المترهلة غالبًا بوصايا السوق وآليات الانتاج الكمي، وهو بهذا لا يفوت فرصة لتحويل إختمارات وعيه الفني والثقافي الى صور فنية تصلح للمشاهدة على نطاق ربما لا يكون جماهيريًا واسعًا، لكنه بلا شك نطاق مهم ومؤثر على صعيد النُخب المواكبة والمتفهمة لتحول نمط الانتاج الثقافي نحو امتلاك ناصية المبادرة والدخول المباشر في مختبر خلق الكائن الفني دون الخضوع لأجراءات بيروقراطية، ودون الاذعان لاتصالات وتواصلات بروتوكولية مملة قد يكون من شأنها اطفاء الألق الانفعالي للعمل الفني.
ومازال جمال يسعى لقول الأشياء المعقدة بأبسط الطرق، وأظنني قد أشرت الى هذه الخصيصة في أعمال المخرج ذلك في معرض تعليقي على فيلم سابق له، وها هو يؤكد بأني قد أجدت قراءته في المرة الأولى، ومما يؤسفني كثيرًا أن هذا التبسيط لم ينفع في ثقافتنا العربية المعاصرة.
جمال أمين لمن لا يتذكره مخرج وممثل بلغ النجومية في وطنه العراق عندما كانت السينما العربية تصنع أبطالها ليكونوا بدلاء ثقافيين لأبطال سياسات وحركات التحرر التي كانت الشعوب العربية قد انتهت منها برحيل الاستعمار بشكله العسكري عن أراضيهم، هجر جمال وطنه العراق على إثر التغيرات السياسية الفجة التي أودت بالبلاد الى قعر مركزية دكتاتورية بشعة جعلت من الحلم الابداعي والمشروع الثقافي ضربًا من الخيال يحيل صاحبه بأوتماتيكية فريدة الى الاضمحلال في متاهات عقيمة من العسكرتالية والتوتاليتارية الثقافية والسياسية والمجتمعية إن شئت.

اللقالق
وعودًا على الفيلم موضوع المقال وهو فيلم (اللقالق) للمخرج جمال أمين والذي تدور أحداثه في الدنمارك عندما يلتقي زميلا الدراسة الابتدائية (محمد)الدنماركي من أصل عربي و(ماريا) الدنماركية الأصل، وقد بلغا منتصف العشرينات من العمر، فيبدءا اللقاء بتحية وعناق أصدقاء وماهي الا خطوات مشتركة حتى يصلا سويةً الى جسرٍ صغير يحملهما معًا الى الاتجاه الذي يقصدانه، وقد بدا الحوار بينهما تعريفيًا لأوضاعهما وما آلت اليه في السنوات الأخيرة، فكانت ماريا قد حققت حلمًا لها بأن أصبحت معلمة في نفس المدرسة التي درس فيها الأثنان، وكان محمد مشوشًا يقضي أسابيعه من دورة تدريبية لأخرى في محاولات تبدو مشوشة لأيجاد عمل يناسبه بعيدًا عن حلمه الأساسي بأن يصبح طيارًا، على الجسر تصدم فتاة دنماركية قادمة على دراجتها الهوائية من الاتجاه المعاكس محمد فيتبادلان سريعًا الشتائم التي تضمر نوعًا من عدم التقبل للنوع الذي عليه محمد كونه من أصول وافدة للبلاد، وما هي الا لحظة انفعال حتى تتعاطف ماريا بعصبية مع الفتاة التي صدمته لتطالب محمد بالاعتذار لها، فينشب الخلاف الثقافي بين محمد وماريا ويتبادلان بدورهما السُباب والاتهامات التي تبدء شخصية وتنتهي بنوع من الاتهامات ذات المعاني الأوسع للثقافة والنوع وربما العرق أيضًا، هنا ترتفع الكاميرا ليخُتتم الفيلم بأغنية حزينة كتب كلماتها المخرج نفسه تحكي عن حلم الوصول الى أوروبا وتحوله الى كابوس.
أقول إن هذا الفيلم يمتلك من الجدية ما يؤهله ليكون فاتحةً حقيقة لملف ثقافي مُربك ومضنٍ في ذات الوقت، ومن الواضح أننا لم نعد نمتلك خيار التملص منه أكثر مما فعلنا، وهو ملف التعايش الثقافي والاجتماعي بين العرب والأوروبين، فالفيلم يؤشر بقلم عريض وبصوت عال على إنتهاء شهر العسل الطويل بين اللاجئين العرب وأوروبا المفتوحة حتى النخاع، أوروبا التي كلفت نفسها عناء أن تكون المُخلص للمضطهدين سياسيًا وإقتصاديًا وإنسانيًا، وطرحت نفسها ملاذًا آمنًا ووطنًا بديلاً لهم؛ هاهي اليوم قد أسفرت أخيرًا عن وجهها الأشقر البارد وقد كان لها فيلم أمين بالمرصاد ليلتقط لها تلك الصورة الشخصية المفزعة.

الدور الاستقرائي
ل لمرة الثانية يمارس المخرج دوره الاستقرائي كفنان، ذلك بجس نبض المستقبل وطرح قضاياه المُعقدة بتبسيط بالغ وهدوء لا يقبل الحذلقة، فعلها قبل ذلك في فيلمه القصير (فايروس) الذي ناقش بلغة الشارع العراقي البسيط اشكالية صياغة الهوية الوطنية لبلد تستأثر العصبية الأثنية والعرقية فيه بدور القائد والمُسيطر والمرشد الأعلى، وهو هنا في (اللقالق) يتبع نفس الخطى الاستكشافية الوئيدة ليضعنا إزاء إشكالية تقبل الآخر لدى الغرب الذي يُدرك في أعماقه الفلسفية بأنه محكوم منهجيًا برفض الآخر والسعي لاستغلاله، في حين يوزع خطابه الثقافي والسياسي التُهم المجانية بالعنصرية وعدم القدرة على فهم التعايش ومعنى تقبل الآخر على الثقافات الأخرى في مشارق الأرض دون مغاربها.
الفيلم بصريًا مكتفٍ بذاته لا يحتمل أي نوع من التأويل النقدي، وهو غير قابل للتفسيرات السينمائية المفلطحة، وهو من القصر بحيث لا يمنح للمتلقي وقتًا للاسترخاء في متاهات فك شيفرات الترميز الذي ربما يشعر المخرج أن وقته قد انقضى ولم يعد يتناسب كثيرًا مع الجدية والصرامة التي تتصف بها القضية المطروحة في هذا الفيلم تحديدًا.

حساسية المخرج
على المستوى الفني أجدني ملزمًا بعض الشئ بالتنويه بحساسية المخرج العالية للصوت في هذا العمل لا كتقنية إظهار ونقل للمنطوق النصيللحوارفحسب، ولا كخلفية سينمائية ndash; صوتية للغة المحكية فقط، بل كعنصر تعبيري يشترك في تعميق المضمون الثقافي للصورة وتنشيط الشعور بالمحنة الوجدانية التي يكثفها الفيلم بكل ما أوتي المخرج من وسائل مباشرة وغير مباشرة مما تسمح به حيثيات اللقطة السينمائية المتقشفة في فيلمه القصير الممتد لخمس دقائق.
محنة اغتراب الذات وخطيئة الهجرة منها الى الآخر الذي قلب للمستجيرين المستضافين المستوطنين المتوطنين العُزل الا من ولعهم بالوصول ظهر المُجن، فصار نارًا بعد أن كان ملاذًا، وصار يعُد على المهاجرين المهجرين أنفاسهم ليُصحح لهم اللكنة العوجاء أبدًا، ويحصي عليهم سكانتهم ليدقق في السحنة السمراء مهما أبيضت.
أهمية الفيلم أنه ولد شاهدًا على عالم يحكمه اليمين من أقصاه الى أقصاه. ربما يكون لهذا الفيلم أهمية كبيرة اذا ما تأملناه كلحظة انصاف لما نحن عليه من عمق انساني ورغبة صادقة في التناغم مع المحيط وأمل كبير في الآخر المتجمد على حدود رغباته في الهيمنة على المحيط وانتهاكه وجدانيًا وماديًا.
الفيلم يحيلني شخصيًا لتأمل المشهد غير المتوازن والتصنيف غير العادل للقوى البشرية في العالم، ويجعلني أمارس عن وعي مهام تحليلية لأسباب المحنة التي يناقشها الفيلم، الأسباب الأقتصادية والسياسية التي دعت أوروبا لفتح أبوابها مشرعة أمام طالبي السكن والسكينة، والأسباب الثقافية - السلفية والعنصرية التي تدعوها اليوم لتكريس العداء للمستضافين الذين تجذروا في الأوطان الجديدة حد الاقتلاع من بيئاتهم القديمة.
أخيرًا أقول ربما يبدو الفيلم للمشاهد العادي قصيرًا جدًا ومقتصدًا جدًا ومركزًا جدًا، وقد يبدو لكل من يشاهده أنه يصور ثلاث شخصيات فقط، أما بالنسبة لي فقد كان أطول بكثير مما يبدو عليه، وقد رأيت فيه أشخاصًا عديدين، رأيت فيه جموعًا غفيرة من أصدقائي وصديقاتي وأبنائهم، ومما أحزنني حقًا أني أوشكت أن أرى أحفادهم متورطين أيضًا في هذا الفيلم الطويل جدًا.
[email protected]