بغداد: بهدوء وبقصة جميلة وبلا صخب هوليوودي ومن دون تكاليف انتاج خرافية, سحب فيلم المليونير المتشرد quot;البساط الاحمرquot; من تحت اقدام هوليوود بثمانية أوسكارات quot;نظيفةquot; في دورته quot;الحادية والثمانينquot; هي جائزة أفضل فيلم وافضل مخرج و سيناريو مقتبس عن عمل أدبي وافضل تصوير و مونتاج و مكساج و موسيقى تصويرية بالاضافة الى أفضل اُغنية.. تُرى كيف فعلها؟

البداية والخروج عن المألوف
خلافًا للتقاليد السينمائية المتعارف عليها التي هي البداية بلقطات عامة جدًا وهي اللقطات الاستهلالية أو كما يطلق عليها بالتأسيسية لتكوين فكرة عن مكان وزمان الاحداث في الفيلم يبدأ المخرج داني بويل فيلمه quot;المليونير المتشردquot; بلا تايتلquot;أرجأه الى مابعد نهاية الفيلمquot; وبلقطة قريبة جداً لوجه جمال مالك quot;ديف باتلquot; وقد بان الذهول والاستغراب على وجهه (وبأستخدام اللون الاصفر quot;الذي يرمز للغيرة والحسدquot; وفي مكان مغلق هو غرفة التحقيق) وهذه البداية ستشكل صدمة مقصودة للمُشاهد، فبداية الفيلم في مركز الشرطة يعني ان الامور تفاقمت الى درجة كبيرة بحيث تكون البداية في غرفة التحقيق والتعذيب! ليس لان quot;جمالquot; مجرم او قاتل، بل لانه كان يجيب على الاسئلة ويفوز!. يتعرض جمال لأستجواب لان مقدم برنامج quot;كيف تصبح مليونيراquot; شك بأن جمال يغش او يستخدم وسيلة سرية للاتصال تجعله يجيب على الاسئلة بكل سهولة quot;وكان قد فاز لحد وقت التحقيق بمبلغ 10 ملايين روبيةquot; وقبل تلك البداية يظهر على الشاشة سؤال quot;كيف استطاع ان يفعلها؟ ليعطينا المُخرج اربعة اجوبة علينا ان نختار واحدًا منها وهي quot;هل كان محظوظًا ام عبقريًا ام غش ام انه القدرquot;. يسأل هذا السؤال لكي يُدخلنا في مسلسل الأسئلة والأجوبة التي ستحتل معظم اوقات الفيلم، وليجعلنا في داخل البرنامج وكأننا احد المتسابقين ويجيبنا عن هذا التساؤل في مجريات الاحداث ثم في نهاية الفيلم quot;بأنه القدرquot; التي تظهر على الشاشة.
يتعرض جمال للضرب والاهانة والصعق بالكهرباء وشتى اساليب التحقيق المتعارف عليها في الشرق quot;يبدو من خلال ردود افعاله انه اعتاد عليهاquot; فيحتفظ بكل رباطة جأشه ليجيبهم بهدوء وبدون تكلف او خوف, وبأنتقالة رائعة وبصفعة من المحقق يتغير المكان لنجد انه في داخل البرنامج وكأنه تلقى الصفعة في البرنامج ليجد نفسه بين الجمهور ويبدأ مقدم البرنامج quot; أنيل كابورquot; بسؤاله عن عمله ليستهزأ به بعد ان يعلم انه quot;عامل شايquot; في احدى شركات الاتصالات ليجيبه quot;جمالquot; عن اسئلته وتهكماته بكل ثقة تمامًا كأجاباته على المحقق وهنا تحصل مقارنة بين طريقة تعامل المحقق و مقدم البرنامج مع quot;جمالquot; لينقلب الاثنان من حالة الى حالة اُخرى مغايرة خلال الفيلم فينتقل المحقق من العدوانية والتنكيل به الى التعاطف معه بعد ان يستمع الى قصته من خلال الاجابات على الاسئلة، بينما ينقلب مقدم البرنامج من الاستخفاف والاستهزاء وفي بعض الاحيان التعاطف الذي quot;يظهره لارضاء الجمهورquot; الى الخُبث والعدوانية بحيث يرسل في طلب الشرطة التي تلقي القبض عليه كالمجرم للتحقيق معه quot;يفعل ذلك بكل برودة اعصابquot;. وبانتقالات جميلة وسلسة يتلاعب المخرج بالزمن بتناغم جميل كأنه يعزف معزوفة متقنة. الفيلم عن الرواية الشهيرة quot;اسئلة واجوبةquot; للروائي الهندي فيكاس سوارب التي ترجمت الى 36 لغة وكانت الاكثر مبيعا في العالم واخذت حصتها من الجوائز الادبية روضها سينمائياً السيناريست سيمون بيوفوي فيما اخرج الفيلم البريطاني quot;داني بويلquot; شاركه في الاخرج المخرج الهندي تندان لوفيلين.
اعتمدت الرواية والفيلم على فكرة ان الانسان لايمكن ان ينسى الاحداث المصيرية في حياته فهي بمجملها شكلت شخصيته وكيانه كله لذلك حفرت تلكالاحداث في ذاكرته اخاديد واضحة المعالم. ويصدف ان تنكأ الاسئلة تلك الجروح quot;وهي كثيرة عند جمالquot; فترتبط اجابته عن الاسئلة التي توجه له بحادث معين اثَّر في حياته وغير مجراها فيجيب عن السؤال بسرعة وبساطة. ومن خلال الاسئلة يسرد لنا الفيلم حياة جمال وطفولته والتشرد quot;الذي رافقه كظلهquot;, ويطرح بصرخة مدوية الفقر ومايجره من ويلات وبمرارة واضحة العنف الطائفي في الهند فـquot;جمالquot; يفقد امه بسبب التطهير العرقي للمسلمين من قبل الهندوس في بومباي quot;جُسِد بشكل مؤلم بقتل جماعي لهم وبحرق احد الاشخاص حياً quot;بينما ينشغل رجال الشرطة باللعب وتناول الطعامquot; وهنا يطرح الفيلم مسألة غاية في الحساسية وهي ان العنف ولّد للمجتمع اطفالأً مشردين بلا مأوى او لقمة عيش quot;وهم سيشكلون نماذج جاهزة لمجرمي المستبقلquot; فهم في خضم هذا يحاولون اثبات وجودهم بكل الوسائل المتاحة بغض النظر عن ان كانت مشروعة ام لا فهم يقاومون التشرد بأصرار للبقاء على قيد الحياة مهما كان الثمن فيتجه اخية سالم quot;مدهور ميتالquot; الى السرقة والقتل وتنفيذ اوامر رئيسه جافيد quot;مهما كانتquot; رغم ايمانه وتدينه quot;هناك مشهد يصلي فيه سالم ويطلب من الله الغفران على ذنوبهquot; لكنه بسبب تلك الطفولة المرّة اصبح كالقطار الذي يسحق مَن يعترض طريقة quot;حتى لو كان اخاهquot;، اما لاتيكا quot;بينتو فريداquot; الفتاة التي يحبها جمال فتعمل راقصة في احد الملاهي ولا تتردد بأن تكون بغياً لأرضاء من يملكها وquot;للبقاء على قيد الحياةquot; الثلاثة وهم الذين شكل التقاؤهم ثيمة الفيلم الرئيسية quot;ثيمة الفرسان الثلاثةquot; التي ستكون محور السؤال الاخير في البرنامج quot;قيمته 20 مليون روبيةquot; ولا يعرف جمال الاجابة عنه فيطلب مساعدة اخيه بالاتصال عبر الهاتف لتجيبه لاتيكا quot;لأن اخاه سالم يقوم بتهريبها من جافيد ويسلمها هاتفه لغرض الأتصال بجمالquot; بينما يترك جمال الملايين والسؤال الذي سيحدد كل حياته القادمة ليسأل لاتيكا عن حالها وأين تعيش وينتهي الوقت دون ان تعطيه الجواب وهنا يشعر جمال بالسعادة لانه دخل المسابقة ليس لأجل ان يصبح مليونيرًا أو من أجل الشهرة، بل لكي تراه لاتيكا عبر البرنامج وتتصل به!. بهذا المطلب البسيط quot;وهو ان يلتقي المشردونquot; يصوغ كاتب السيناريو فيلمة بذكاء ليجيب جمال بعد ذلك بكل ثقة رغم انه لايعرف الجواب, يجيب بشكل عشوائي لانه يعرف انها ليلته ولانه حقق هدفه الاساسي بالتحدث الى لاتيكا, ليلتقيا في النهاية بعد ان يفوز جمال بالملايين لكن قبلها يفوز بحبيبته، وليضحي اخوه سالم quot;الفارس الثالثquot; بحياته quot;يُقتل على يد العصابة لانه هرّب لاتيكا وقتل جافيدquot; من اجل ان يعيش quot;الفارسان بسعادةquot;.

الثقة بالاخرين
ركز السيناريو على ثلاثة أسئلة لم يستطع جمال الاجابة عليها هن السؤال الاخير وهذا اجابه من دون اكثراث كما اسلفنا لانه حقق مبتغاه من البرنامج أماالسؤال الآخر فكان عن عبارة في العلم الهندي ولأن الامر لايعنيه quot;فالعلم يعني المواطنةquot; وهو بعيد عنها لان الوطن لم يقدم له شيء غير التشرد والذكريات الاليمة quot;اكّد هذه الفكرة من خلال معرفته اسم الشخصية التي تظهر صورتها في العملة الامريكية من فئة المئة دولار quot;بنجامين فرانكلينquot; وهي اجابة على احد الاسئلة بينما لايعرف صورة quot;غانديquot; الذي في الروبية الهندية وهذا السؤال سأله له المحقق بإستغراب وquot;مشككًا بولائه لوطنهquot; ولم يعرف جمال الاجابة عن سؤال العلم quot;رغم سهولتهquot; وهنا يطلب مساعدة الجمهور وينجح في اجابته، اما السؤال الثالث فكان عن اسرع ضربة للاعب الكريكت فيحاول مقدم البرنامج استغلال انه لم يكن يعرف الاجابة ويتلاعب به بالتلميح له بالاجابة الصحيحة quot;بكتابتها على المرآةquot; خلال وقت الاستراحة quot;عندما كانا في الحمامquot; هنا يعتقد المُشاهد انه تعاطف معه فقرر مساعدته خصوصا انه اعطى لهذا الاعتقاد مبرراً بأن جمال يذكره ببدايته فهو تحوّل من الفقر المُدقع الى الغنى بضربة حظ ايضًا وهو بمساعدته له يريد ان يكرر ذلك quot;وهو امر مقنع نوعا ماquot;، لكن جمال وبسبب quot;تجاربه مع الآخرينquot; كان قد فقد الثقة حتى باقرب الناس اليه فأخيه quot;سالمquot; يغدر به ويطرده ليستأثر بفتاته أما quot;مامانquot; الذي ينتشله quot;واخاه ولاتيكاquot; من التشرد ويبني عليه امالاً quot;طفولية بريئةquot; بان يجعل منه مطربًا مشهورًا ينتشله من مستنقع الضياع الذي يحيط به, يظهر فيما بعد انه لم يساعدهم الا لكي يستغلهم في التسول والجريمة والبغاء ويحاول اطفاء نور عينيه quot;لكي يصبح اكثر بؤسًا فيعطيه الناس صدقات اكثر عند سماعهم لأغانيه الحزينةquot; فذاكرة جمال لاتختزن سوى الالم الذي المّ به من الاخرين لذلك يختار الجواب المغاير للذي اعطاه مقدم البرنامج quot;وعدم ثقته هذه التي منحته الحياة وسط هذا الكم من المخاطرquot; أوصلته في النهاية الى الملايين وهي نتيجة مريرة ومؤلمة قالها الفيلم بأسلوب ذكي وكانت بمثابة ضربة معلم.

السوبرمان
المشهد الاخير كان جميلا ً جدا فبعد ان كان quot;جمالquot; وحيدًا وحزينًا quot;رغم انه اصبح مليونيرًاquot; تظهر لاتيكا خلف القطار الذي يتحرك بسرعة، وبعد ان يمضي القطار يعبر اليها ليتلقي بها لكنه يلاحظ جرح في وجهها ويتذكر ان ذلك الجرح كان عقوبة لها لأنها أرادت الهروب معه فيُقبِّل الجرح, هنا يستخدم المُخرج طريقة ارجاع للزمن لتتراجع الاحداث بعكس التسلسل الزمني ليعود وجهها بدون جرح وكأنه داوى كل جروحها بتلك القبلة وعملية اعادت الزمن هذه ذكرتني بمشهد من فيلم quot;السوبرمانquot; في أحد أجزائه عندما تموت حبيبته و يخبره والداه انه يستطيع احياءها بالدوران حول الكرة الارضية بعكس اتجاه دورانها لتدور حسب اتجاهه فيتراجع الزمن وينقذها ربما يذكرنا المخرج بذلك المشهد ليعطينا نموذجا لسوبرمان هذا العصر.

صورة متفوقة بأمتياز
من اهم مرتكزات الفيلم كانت الصورة. فقد كانت معبرة جدًا وارتقت بالحدث وصعّدت من انعكاساته على الابطال وبجرأة فأستخدمت زوايا تصوير خاصةجدا ونادرة لكنها هنا كانت معبرة كالتصوير بشكل مائل في الكثير من اللقطات وتصوير جمال بشكل مقلوب عندما كان لايعرف جواب أحد الاسئلة quot;ويمر بمرحلة مصيريةquot; بالاضافة الى استخدام الضوء والظل والتدرجات اللونية المفعمة بالرمزية والتي عكست الحالة النفسية لأبطال الفيلم واستحق مدير التصويرأنتوني دود مانتل quot;الذي كان بتلك الصور الجميلة كأنه رسام محترف يرسم لوحته بفرشاة الضوءquot; جائزة الاوسكار بتميز, كما تألق المونتيركريس ديكنز في عمله فأستخدم اساليب جميلة ومبتكرة في ربط المشاهد واختصار الزمن بشكل معبر كدمج مشهد التحقيق وصفعة المحقق بمشهد جمال وهو داخل البرنامج وايضا المشهد الرائع الذي يقفز فيه جمال وسالم وهما طفلان من القطار ويتحرجان وعندما يستقران يكونان قد كبرا, هنا اختصر الزمن واعطى فكرة انهما بقيا يصارعان قدرهما بالتدحرج. وبالتأكيد يقف وراء هذا العمل المتقن مخرج تعامل مع الفيلم بشاعرية فريدة ممزوجة بصنعة وجرأة محترف.
الممثلون أدوا ادوارهم بتلقائية جميلة فيما تألق مقدم البرنامج أنيل كابور في ادائه لدوره وبرع بمزج تقلبات الشخصية بشكل مقنع وكان اداء الاطفال مميزًا رغم اعمارهم الصغيرة.
الفيلم قصة حب معاصرة معجونة بالالم والمعاناة والمصاعب لينتصر الحب في النهاية على العنف والفقر والطمع وفي خضم الاسئلة والاجوبة التي تمثل المحور الرئيسي, يجيب الفيلم quot;بصنعته المتقنةquot; على السؤال الصعب في كيفية الموازنة بين شباك التذاكر وهذا تكشف عنه ايرادات الفيلم quot;حقق ايرادات قدرها 200 مليون دولار أميركي في اسبوع واحد من عرضه في دور العرض على مستوى العالمquot; بالاضافة الى تصدره قائمة الـ(Box Office) لأسابيع عديدة وبين رضا النقاد والفوز بالجوائز لمهرجانات كثيرة اهمها الاوسكار وهو بالفعل أجاب عن السؤال بتفوق و استحق بهذا رضا الجميع.
[email protected]