محمد الحمامصي من القاهرة: يحمل كتاب (الصوفية النسوية: غوص عميق فصعود) عنوانا فرعيا أكثر دلالة علي محتواه من عنوانه الرئيسي وهو (كاتبات في السعي الروحي للنساء) حيث يركز على قصص النساء التيلم تحك بعد، فمن وجهة نظر مؤلفته كارول بي كريست أنه من دون القصص تفقد المرأة طريقها عند إقدامها على اتخاذ القرارات الفاصلة في حياتها، فمن دونها لا تعرف كيف تقيم نضالها وتعطيه حق قدره، لا تحتفل بقواها، ولا تقدر على ان تفهم ألمها، وأنه بدون القصص تظل المرأة غريبة من خبرات النفس العميقة وبعيدة عن خبرات العالم التي تسمى الخبرات الروحية أو الدينية، وتظل منغلقة في صمتها.. كما أن تعبير السعي الروحي للمرأة يرتبط ارتباطا وثيقا بحكاية قصص النساء ـ في رأيي المؤلفة ـ فإذا لم تحك قصص النساء، فستظل أعماق أرواحهن مجهولة.
وتستخدم المؤلفة كلمة (قصة) في هذا الكتاب بمعناها الواسع للإشارة إلى كل تجليات الخبرة التي تحمل العنصر السردي، بما في ذلك الخيال والشعر والأغنية والسير الذاتية.
ويتناول الفصل الأول من الكتاب قصص النساء وسعيهن، حيث أنهن يعشن خارج نطاق قصص غير أصيلة خلقتها ثقافة لم يبدعنها، ومن هنا يتكشف المأزق الذي تقع فيه النساء..
ويتركز الفصل الثاني على خبرة العدم عند النساء اللواتي يعشن خبرة الفراغ في حياتهن الخاصة - في كراهية الذات وانكار النفس وفي كونهن ضحية - في علاقاتهن مع الرجال، وفي القيم التي تشكل حياتهن.
تورد المؤلفة ابتداء من الفصل الثالث وحتى الثامن والأخير حكايات حقيقية لكاتبات سعين إلى التحرر الروحي بالرغم من الهزيمة الاجتماعية.
ومترجم الكتاب مصطفى محمود له ترجمات متعددة منها: (مستقبل الفلسفة في القرن الحادي والعشرين) لأوليفرليمان،، (نساء يركضن مع الذئاب ) لكلاريسا بنكولا. وشارك في ترجمة (دائرة المعارف الاسلامية).
وقد قدم للكتاب إضافة إلي مقدمة المترجم الكاتبة د. سحر الموجي مدرس الأدب الأمريكي بكلية الآداب جامعةالقاهرة..
تنفي كارول بي كريست في مقدمة كتابها هذا ضرورة انطباق تعريف الصوفية المتعارف عليه منذ أمد بعيد، وهي الصوفية التي تسميها بالصوفية quot;الكلاسيكيةquot;، على رحلة النساء الروحية. وقد تتماهى تلك الرحلة مع المتعارف عليه على أنه رحلة صوفية وفكر صوفي (رغم تعدد المسالك في الأديان والطرق الروحية المختلفة) وقد لا تتماهى.
وكارول بي كريست، ومن خلال الأعمال الأدبية التي تتناولها بالنقد في هذا الكتاب تحدد بعض الخطوط العريضة لهذه الرحلة المختلفة والتي استدعت هدم المعنى المرتبط بالمصطلحات الصوفية quot;الكلاسيكيةquot; وضخ معنى مختلف في عروق اللغة القديمة، معنى يتوافق مع مسلك وطريق مختلف من أجل هدف يختلف بالتأكيد.
تعطينا المؤلفة عبر الكتاب عدة دروس بعضها مقصود وبعضها غير مقصود. أول هذه الدروس غير المقصودة يتركز في علاقة الناقد بموضوع كتابه. فسوف يتضح للقارئ من خلال مقدمتي الكتاب كيف عاشت الفكرة مع الكاتبة لمدة طويلة. كيف، مع ميلاد الفكرة، ناقشت المؤلفة مع نفسها أين تقع الجذور. ومن هنا العودة إلى طفولتها وسنوات التشكيل. كيف ناضلت أثناء دراستها الجامعية وسنوات الدراسات العليا من أجل مساحة فكرية تخصها باحثة عن لغة تعبر عن تجربة تختلف عن تلك التي عبرت عنها التجربة السائدة في عالم الأكاديميين الرجال، وكيف فجرت فيها رواية فكرة البحث، وكيف مع الكتابة كانت رحلتها إلى الداخل تتطور وتتفتح مسالكها بالتوازي مع إشراقات الشخصيات النسائية داخل الأعمال التي تناولتها بالنقد.
وبسبب تلك المعايشة الطويلة لفكرة الكتاب والتوازي الذي نشأ بين رحلة كريست ورحلات بطلات الأدب، فإن الكتاب نفسه يأتي مكتوباً بطريقة دافئة وحميمة وهادمة لفكرة الموضوعية في النقد. وتتحدث كريست عن تلك الأزمة التي نشأت بينها وبين فكرة quot;الموضوعيةquot; التي يتعامل معها الوسط الأكاديمي دوماً على أنها من المقدسات التي لا يجوز المساس بها. ورغم أنها تصرح بأنها لو كتبت هذا الكتاب بعدما كتبته بسنوات لتخلت عن أسلوب احتفظ بقدر من الموضوعية وبعض التباعد عن موضوع الدراسة، ولتركت نفسها بكامل حريتها في التعامل مع النصوص، إلا أن القارئ يفطن بالتأكيد إلى شكل مختلف للكتابة النقدية. شكل يكشف عن انحياز عاطفي واضح للأعمال الأدبية الممثلة لرحلة النساء الروحية. لكن هذا الأسلوب لا يعني أن هذا الكتاب هو نقد انطباعي لا يقدم تبريرات ولا يدلف إلى عمق الأعمال وينيرها للقارئ.
ولأن هذا الكتاب نجح في بلورة فكرة انعكست في أعمال أدبية عديدة بدأت في الظهور منذ النصف الأول من القرن العشرين في أمريكا وأوروبا، ألا وهي التعبير عن تجربة مختلفة للنساء واللجوء إلى لغة تحاول اللحاق بفرادة هذه التجربة، فقد لقي الكتاب عند نشره تعاطفاً إنسانياً من الطالبات الجامعيات اللاتي وجدن من يعضد تجاربهن ويمنحها مشروعية كانت مفتقدة من قبل المجتمع الذي لم يكتب أو يصرح بتجارب شبيهة من قبل. نجح الكتاب إلى الدرجة التي طورت فيها الطالبات الجامعيات فكرة الكتاب بالتعاطي المباشر معه على أنه مفجر لتجاربهن الشبيهة فأصبحن يدرسن الكتاب مع مناقشة ما جاء في نصه والنصوص الأدبية التي يطرحها ثم يحكين عن تجاربهن الشبيهة. وعندما تبنت المؤلفة هذه الفكرة في تدريسها لكتابها مرت مع الطالبات بلحظات إنسانية عميقة مع تفجر الحزن والألم القديم عند الحكي عنه. ثم... التطهر والمضي قدماً بروح أخف وأنقى من تلك التي كانت قبل الحكي.
إن تأثير الكتب والفنون على البشر هو أمر زئبقي صعب القياس عموماً، لكن هذا هو أحد الكتب القلائل التي تمنحنا تجربة واضحة يمكن من خلالها استكشاف العلاقة التبادلية بين الكتاب وقارئه حين يتحول النص النقدي إلى كائن ينبض بحياة كاتبته كما ينبض بحياة الأعمال الأدبية التي يناقشها. ويتفاعل هذا الكائن بالشكل الذي لا يؤثر فقط على المتلقي ولكن أيضاً على العمل ذاته الذي يقبل إعادة التشكيل والتطويع لإشباع الحاجات الإنسانية لمتلقيه.