فلاح الجواهري 7 200

quot;تي جيستوكي، بيز سرديجني..quot;
quot;ايها القاسي الذي لا قلب له
.. وصلتني رسالتك من القاهرة، بعد بطاقات من محطات اوربية، وكنت احط معك اينما حللت، وفي كل بقعة كنت انتظر اللحاق بك.. انتظر واوشك ان استعد لرزم حقائبي، وتاتيني كلمات عاجلة قصيرة ببطاقات مصوّرة من مدن خيالية مثيرة، وأنتظر محطاتك الواحدة تلو الاخرى علك تلقي رحالك مستقرا في احداها فأغادر حينها موسكو على عجل، ومع الصبر وسهر الليالي كانت الاحلام تنتقل و تتبدل، ثم تتبعثر.quot;
quot;وصلتَ اخيرا الى القاهرة.. انتعشت آمالي وانت تخبرني انك عزمت على الاستقرار والعمل فيها، وانك قابلت شخصية متنفذة مرموقة برسالة توصية خاصة جدا، وانها إلا مسألة ايام ويصدر أمر تعينك طبيبا مقيما في مستشفى (الكسر الأ يني) وانك تبحث عن سكن مناسب..
بدأتُ بتوديع صديقاتي اولا، ثم زميلاتي العارضات في مؤسسة تصميم الازياء، بل لقد اعطيتهم وعداً بانني لن اتأخر طويلا في دعوتهم الى رحلة في بلاد الفراعنة الاسطورية..quot;
quot;.. كنت أتسلق معك صخور خوفو، وحين نصل الى ذروة الهرم العظيم، امسك بيدك وارفعها عاليا واصرخ quot; بروشاي موسكوفا.. زراسفوي نوفي جيزن.. وداعا يا موسكو.. مرحبا بالحياة الجديدة quot;
quot;.. كم من الجـِمال ركبت معك ونحن نتنقل بين قرى الريف المصري، يظللنا سعف النخيل المتسامق واشجار الفاكهة الغريبة، وانت تمد يدك بين الحين والحين لتقطف لي اثناء تجوالنا المتأرجح بلحا مصريا احمرا، وجوافة ومانجة عسلية الطعم ذهبية الألوان، وكان لعابي يسيل وانا اتخيل كل هذه اللذائذ التي لم اذقها والتي ارى صورها في البطاقات السياحية التي ترسلها إلي ّ.. وحين يسرع البعير في عدوه، كنت تلفني بطارف عباءتك البدوية وتحيطني من الخلف بذراعيك وتطبع قبلة على رقبتي مخففا فزعي.. quot;
quot;.. في الليل، على صفحة النيل المتلامعة باضواء العاصمة العريقة، كنا نتيه على احدى الحمامات البيضاء السابحة في النهر الخالد بجناح شراعها الهفاف، وانت تضع رأسك في حضني فاداعب شعرك الجعد الفاحم.. والنوتي.. ما اروع النوتي وهو ينتصب بجلابيته الفارهة الخفاقة كإله فرعوني اسمر.. يرفع صوته كما في معبد فرعوني، بموالات طويلة حزينة غامضة.
.. كم من الافلام المصرية صحبتني اليها هنا، حين كانت تلك الافلام تعرض في مهرجانات موسكو السينمائية. quot;

quot;.. كنتُ ادور معك بالبدلة الفرعونية المقصّبة المذهبّة وبتاج (حاتسبوت) الذهبي ذي المرآة المدورة بين اعمدة الكرنك الضخمة، نتسلل الى معابده المليئة بالالغاز، والمومياءات، والتوابيت المرمرية السوداء، والصناديق الذهبية المليئة بالياقوت والماس واللؤلؤ وحجر الاسكندر.. نسير في الاروقة المنارة بالقناديل والمشاعل، وحين التقي بتمثال (حورس) مهيباً في ضوء المعبد الخافت، امد له لساني متحدية بسخرية مشاكسة. وحين نصل عند منصة الملكة الحسناء الرخامية (جـَد حُورْ) اقف امامها بحب وخشوع وأغني احدى (آريات) اوبرا عايدة.
.. نعم كنت تسخر من محاولاتي الغنائية الكثيرة في تقليد الادوار كلما عدنا من مسرح(البولشوي)او مسرح (أربات) الغنائي.
آه لوتعلم كم تصفحت من الكتب المصوّرة لاشاهد الملكات الفرعونيات الجميلات، وحليهن التي تبعث ببريقها وزخرفها والوانها الاحلام، وأقرء الاقاصيص عن مومياءاتهم ذات الرهبة والالغاز واللعنات.
.. ساعات طوال كنت اسرح بخيالي في مكتبة لينين.. أتبعك وانا اقلب البومات الصوّر الكبيرة. quot;

quot; أنا حمقاء وربما حمقاء صغيرة كما كنت تدعوني..
.. نعم كنت اضحك جذلا وتيها حين تدعوني بجميلتك الصغيرة الحمقاء.. (دورا)!!
(دورا) حمقاء نعم دورا.. (دورا) والف دورا، إذ لم أُصغ ِ الى تحذير زوجتك السابقة (لودميلا) من انك تلهو بي، تلهو بطفلة السادسة عشر.. تعبث بها في ضياعك الابدي، وأنك لن تتزوج هنا في موسكو ثانية.
.. يا لهُ من موقف ُمربك مُنهك وهي تقتحم علينا شبه خلوتنا العاطفية، في نفس عش الزوجية السابق، بعد اشهر من طلاقكما.
.. يا إلآهي انني لن أنس ابدا ذلك الوجه الجميل وهو ينقلب الى كتلة قرمزية محتقنة حين تتفاجأ بوجودي، فتقف جامدة وكأن لعنة الموقف احالها الى تمثال حجريً.
.. حين تدعوها بهدوء الى قدح شاي، تجلس معنا مطرقة ً صامتة فترة طويلة، ثم ترفع رأسها بعدها لتواجهني بنظرة وابتسامةِ اشفاق وسخرية.
quot; تي دورا.. مالينكايا دورا.. انت حمقاء.. صغيرة حمقاء.. إنه يلهو بك!.. quot;..
quot; تهاوت الاهرامات ومعابد الكرنك واعمدته الجبارة، وضاعت الصحاري، والجـِمال، والنيل، وكل اشرعة القوارب البيضاء الخافقة للريح.. كل ذلك ضاع، حين وصلتني رسالتك القصيرة التالية وانت تعلن فيها مللك من الانتظار، وانك حجزتَ على عبـّارة رخيصة ستنقلك من اسوان في اعالي صعيد مصرفوق طمي النيل في موسم فيضانه عبر النوبة وصولا الى أطراف السودان الشمالية.
.. تتوالى رسائلك القصيرة مع الصور والبطاقات السياحية المثيرة.. تلال النوبة على الضفاف ببيوتها الطينية ذات المعمار المميزوالنقوش الفرعونية الفريدة، معبد ابوسمبل والاجزاء المقطـّعة من تماثيله الهائلة الاحجام الملقات على ضفة النيل المتصاعد بفعل السد العالي والمهيئة لرفعها لموقعها الجديد، تفاصيل رحلتك المثيرة في البر السوداني الى الخرطوم مع عدد من البطاقات المصوّرة للفيلة والاسود في الجنوب..
ومع رسائل خاصة جدا ndash; حسب قولك ndash; الى اناس في قمة النفوذ، تخبرني ان بينك وبين أمر تعيينك مسألة ايام لاغير، وانك قد ُترسـَل الى مدينة (واو) في الجنوب حيث القبائل البدائية وحرب العصابات المستعرة هناك.
أيها القاسي الذي لا خيط للرحمة في قلبه!! آه لو تدرك تلك الليالي المضنية بوهج الاحلام وحريق الشوق.
أرق دائم ممـّض.. لكني لا اكذبك القول، اني كنت أتحرّق انتظاراً للليل وحلول ساعة الانسلال الى الفراش، عندها تبدء لقطات من مشاهد مغامراتي معك تعبر امام عيني ّ، كما عبر شاشة سينمائية عريضة.
quot;.. كنا انا واياك، ننتقل على الفيلة بين الادغال الكثيفة، وعلى حـُمر الوحش الملو ّنة في حقول السفانا، وعلى عربات تجرها الجواميس الضخمة بين قرى ذات بيوت واكواخ مخروطية..
كنت َ انت تلبس صدريتك الطبية البيضاء، وسمـّاعة فحصك تتدلى من على رقبتك، و معداتك الجراحية وادوات فحصك الاخرى في حقيبتك الاسطوانية السوداء الى جانبك، و أنا كنتُ ببنطالي الكتاني الابيض الهفهاف وقميصي الحريري ومنديل شعري الملفوف والمعقوص الى الاعلى، مساعدتك الملازمة لك في كل وقت ومكان.
.. دوما الى جانبك.. أعـد ّ ُ لك المشارط والسكاكين والملاقط حين تتهيأ لاجراء عملية على شاب ضخم أسود، نهش ذراعه نمر جائع، او وانت منغمس تماما في استخراج حربة من صدر محارب كان قد أُصيب بعد إقتتال مع إحدى القبائل من أكلة لحوم البشر، أمسح عن وجهك العرق وأهف ّ ُ بنسمات عذبة على وجهك بمروحة الخوص التي احملها معي دوما، واناولك المشارط والملاقط و سكاكين البتر..
.. أخرجُ فرِحة ً، بينما انت تـُبدل ملابسك وتستريح برهة، لأُخبر أهل المصاب خارج الكوخ، بأن العملية قد نجحت.. . تنهال عليّ القبلات، ويبد ء قرع الطبول واجد نفسي وقد أصبحت ُ وسط حلقة الراقصين شبه العراة وهم يدورون حولي.
.. وحين نستعد لحفل زواجنا هناك، نـُبقي على خيارين منها فقط، فإما ان نقيم الافراح على طريقة أهل الخرطوم، أسبوعا كاملا يـُفتح فيه البيت للضيوف ليل نهار، وتقام حفلات الغناء والرقص حتى منتصف الليل في باحة البيت.. . في الصباح حيث تـُعدّ ُمائدة افطارخاصة لأعز الاصدقاء والاقارب، تطلب مني أن أرقص أمام الصفوة الخاصة جدا
تشريفاً وإكراما ًلهم.. نعم quot; ترقيص العروس في صباحيتها quot;.
.. كنتُ جميلة ومشرّفة لك ولضيوفك في مظهري الخجول المحتشم وأنا أرقص.. كانت تهتز فوق ملابسي الطويلة الفضفاضة تلك الحليّ الجميلة المهداة منك ومن اقرب الناس اليك.
.. تتناثر حول أقدامي المحنـّاة اوراق النقد الضخمة والليرات الذهبية، نقوطا ً من الحاضرين الهازجين والمصفقين بأيديهم نغمات سودانية فولكلورية.
.. كم ظللت ُ أتدرب كل ليلة عل تلك الرقصة الجميلة المحتشمة قبل ان آوي الى فراشي.
.. بعد وصول رسالتك تعلمت من فاطمة الكثير الكثير عن هذا البلد الكريم المضياف الذي ستدعوني اليه.. أنت لاشك تذكر زميلتك السودانية في القسم الداخلي فاطمة، .. كم كانت فرِحة ً لأجلي وهي تحدثني بإسهاب عن شمال السودان وجنوبه، عن العادات والتقاليد وعن طقوس الزواج في المناطق المختلفة منه.
.. عني شخصيا كنت أميل الى حفلة زفافنا حين نحط رحالنا في أطراف (واو) حيث ستمارس مهماتك الطبية هناك.. هناك حيث الغابة الكثيفة، وقرع الطبول في الاماسي، والرقص الجماعي على اضواء النيران في ليل الغابة الغامض.
.. في ليلة عرسنا تلك، سيجتمع الحشد على ضوء المشاعل وأكوام النيران حول ساحة الرقص.
.. في فسحة معدّة من الغابة الكثيفة سيجتمعون، بأحلى وأغلى أزيائهم التي تغطي أجزاء مما حول الورك من نصفهم السفلي، والنصف آلاخر منه تتهدل عليه القلائد والتمائم مع اطواق معدنية عريضة مزخرفة حول العنق.
.. أخرج أنا من كوخ العروس المزيـّن بأوراد الاوركيد وعصافير الجنة والماغنوليا والقد َح الناري.
.. يبدء قرع الطبول.
.. تتعالى همهمة غناء الحشد.
.. قلائد وحلي وتمائم تهتز على صدري العاري ونهديَ النافرين، وبطوق حول الخصر، تتدلى أحزمة جلدية حتى اسفل الوركين بقليل.
.. ابدء بالاهتزاز والتمايل بتراخ ٍ ودلال.
.. تخرج انت من الطرف المعاكس، ماعلى جسدك ليس بأكثر مما عليّ.
.. يتصاعد قرع الطبول ويعلو الغناء من الحلقة المحيطة بنا.
.. تتسارع اصوات الطبول والهازجين وتتسارع معها خطانا وتمايلنا.
.. تبدء انت بالقفزوالهمهمة دائراً حولي كاللهب المتراقص.
.. يَسخنُ الجسد.. تـَسخن العواطف.. يطفحُ الشبق.. يتيهُ الوعي
.. بحركة عنيفة مفاجئة تختطف بإحدى يديك أحد أحزمة وركي الجلدية المدلاّة.. تلتف حول نفسك برشاقة.. ينقطع السيرالجلدي.. ترفعه بيدك قافزاً مفاخرا بفرح منفعل.. يهتف الجميع استحسانا.
.. مع تزايد القرع والهزيج المتسارع، تـَقطعُ سيوراً اخرى.
.. تتكشـّف مكامن انوثتي المستترة ببريق الزيوت وعطور الغابة اللامعة فوقها.
.. يزداد هياج حلقة الهازجين الدابكين عنفا ً.
.. يزداد هياجك الشبقي.. تقطع ما تبقى من السيور الجلدية بحركات تزداد رشاقة ورجولة.
.. يغيب وعيي في متاهات بركانية ملوّنة.
.. جسدي العاري المعرّق الفواح يتلاشى كأثير شفاف.
.. يتناهى الى سمعي هتافٌ واهازيج ٌوطبولٌ وهلاهل ْ.
.. نعم ها انت تحملني الآن وتلقيني على كتفك.
.. تدور بي عارضاً ًدورة كاملة امام الحشد قبل ان تتوجه بي بقفزات مـنغـّمة الى كوخك.

.. ها انت تعود لتخبرني ايها الظالم برسالة قصيرة!، انك ضقت ذرعا ً، وانك مغادر كل ذلك العالم المليء بالمغامرات والغرائب..
أبكي طويلا.
انني لن أستطيع بعد الآن أن أسمع قرع الطبول في الليل وأن أرقص رقصة الاحزمة الجلدية أو رقصة (إبحث عن الابرة في الغابة).
quot;تـنتعش آمالي شيئا فشيئا مجددا ً حين تعود من مجاهل الغابات الى بلد الحضارة والجمال والبوهيمية.. الى جيكوسلوفاكيا.
.. البطاقات الانيقة لبراغ الذهبية بابراجها الالف، تخبرني انك تعمل في (ملادا بولسلاف) احدى ضواحي العاصمة.. . حين أُخبر زميلاتي في العمل يهنئنني بإني قد عدت من المجاهل الخطرة الى بلد الحضارة، واني ربما قد نجوت من نهشة تمساح او إختطاف غوريلا، او ابتلاع أفعى (البوا بوا).. بوا بوا!!.
.. نعم، فكرت ُ قليلا!.. ربما كانو على حق في مواساتهم لي، كم من مرت اخبرتك عن أن جسدي وروحي تقشعران حتى من سماع اسم اية أفعى. (. بوا بوا)، حمدا لله لقد نجوت حقا!!.
بدأتُ بالذهاب الى المركز الثقافي الجيكي وقضاء ساعة او ساعتين يوميا بعد انهاء عملي.. لم أكتف بالألبومات المصورة ومجاميع البروشيرات السياحية، بل عقد ت صداقة طيبة مع احدى الموظفات الجيكيات هناك وبدأت في معرفة تفاصيل اضاقية كثيرة.
.. كانت متعاطفةً معي بعد أن أخبرتها بأن خطيبي في انتظاري هناك.. السنا نحن في عداد المخطوبين؟ لعلك لم تنس ذلك ايضاً، وحين علمت بأسم المدينة التي تعمل فيها أكد ّت لي انني سأتمكن من الحصول و بكل سهولة على عمل في معمل (سكودا) للسيارات او شركة (باتا) الشهيرة للاحذية.. quot;

quot;.. كنت أخرج من تحت هياكل السيارات وأضع مفكات الصواميل الفولاذية الضخمة جانبا ً وامسح عن وجهي الشحوم والسخام بمنديل ضخم، حين تنطلق صفارة اشارة انتهاء النوبة.
.. انظر قليلا الى اظافري الطويلة الانيقة و أُطلق تنهيدة ارتياح انها لم تنكسر او تتخدش وانطلق فرِحة ً لابدال ملابس العمل المدهـّنة. quot;
quot;.. او أنني في (باتا) انزع صدرية الجلد الثقيلة، وانفض مجماميع المسامير الصغيرة، وأزيح بقايا القطع الجلدية المقطعة جانبا، وادوس وانا اركض فوق اكوام الاحذية الجديدة، لاسارع الى غرفتك في المستشفى كي اكون في انتظارك هناك عند المساء. ومن هناك كنا ننطلق الى براغ.
.. يا لروعة أماسي براغ!
.. نبدء بـ(اوفليكو).
.. اجلس في نفس الزاوية التي جلست فيها (جوزفين).. تمسك انت بيدي كما فعل نابليون قبل مئة وسبعين عاما، وتخبرني بأن ما ان يحل نصر معركة اوسترليتزصبيحة اليوم التالي، حتى تعلن للملأ خبر زواجنا.. لست اعني زواج نابليون من جوزفين، بل زواجك مني أخيرا.. نعم، ويا لسعادتي اخيرا..
.. وتـُجلبُ اقداح البيرة السوداء وخبز الثوم المقدد المحمّص.
.. نخرج بعد ساعتين نستنشق عطر البيرة يضـّمخ أنسام اماسي براغ.
.. نجلس في مقهى سلافيا، المطل على النهر الموشّح باحزمة الضباب.. ومن خلال كوى الضباب السابح تتلامع، تتكسر، تشحب، وتخبو فوق صفحة النهر، فوانيس المدينة القديمة السابحة في عتمة السماء..

.. ننتظر في سلافيا حتى موعد الحفلة الموسيقية لـ(سميتانا) و(دفورجاك) في دار الموسيقى الوطنية المجاورة. ، وحين نخرج قرب منتصف الليل تحتضنني ونحن نسير باسترخاء حالم على رصيف النهر.
.. حين نصل الى جسر كارلوف، وعند منتصفه، نتكيءعلى سياجه الحجري قرب احد تماثيله العديدة ونطل على النهر المتلامع بنجوم واقمار (الهاجاني) المنسرحة من تلال القرون العتيقة المجاورة والسابحة في النهر.
.. ترنّ في سمعي آنذاك مقطوعة (فالتافا) الموسيقية من جديد.
quot;.. نصعد (الهاجاني)، نعبر ازفته الحجرية باضواء فوانيسها التي عمّرت مئات السنين وما زالت تلقي بنور عصور هرِمت وما فتئت تبعث اريج الشباب والحياة في السابحين في ظلالها.
حين نصل في مرتقانا لقمة النجوم والاقمار.. تعزف لنا الابراج الذهبية نشيد دقاتها بالف نغم متنوع متداخل.
.. ترقص المدبنة العريقة من تحتنا.. وحين يتلاشى صدى آخر ناقوس معلنا إنتصاف الليل، نسبح في قدسية الصمت.

.. اقفز فرَحاً واصرخ (هورا، هورا هورا)، واسحبك من سرحانك فوق القمة لاهبط بك الى رحم براغ في باطن الارض.
.. انتقل بك من حانة الى حانة ومن قبو مرقص الى آخر. أرقص معك (الجارلستون) وال(هبي هبي) و (الجيرك) والـ (الصالصا).
.. نخرج من اقبيتنا لنركض في الازقة الحجرية نصغي لصدى ضحكاتنا وفوضى صرخاتنا المخمورة النشوى.


.. نطرق ابواب كنائس قوطية عتيقة لتفتح لنا كوى صغيرة في الابواب الضخمة تسأل عن كلمة السر.
تصـّر البوابة الاثرية.
.. نسير طويلا منحدرين في ممرات عميقة منارة بالمشاعل، مرصوفة جوانبها ببراميل الخمور المعتـّقة المعثكلة بالغبار وانسجة العناكب.
.. ينفتح علينا كهف وسيع، موائده تنيرها شموع طويلة يجلس حولها عشاق حالمون، تعزف لهم فرقة غجرية الحان بوهيميا العريقة.
.. نعّب خمراً وعشقا ً ونغم.
نخرج من اعماق العصور الوسطى، نطل على المدينة الساهرة..
ازواج عشاقها يمشون بخدرمتتبعين ظلالهم من الفوانيس الشاخصة فوق الازقة الحجرية.
.. نتبعُ ظلنا حتى يغيب في توهج الفجر.
.. نتراكض صاخبين.
احتضنك َ سويعات في غرفتك قبل أن أُلبسك صدريتك البيضاء وأُعلق سماعة فحصك فوق رقبتك.
.. أنطلق عَجلة ً الى مصنعي وادخل في بدلة العمل الزرقاء، .. احمل مفكات الصواميل الفولاذية الضخمة وأزحف تحت احدى هياكل السيارات وابدأ يوم عمل جديد وانا ادندن الحانا ً بوهيمية غجرية. quot;

quot;.. ها قد تبخرت ابراج المدينة الذهبية وماتت انغام اجراس الساعات في منتصف الليل وتداعى جسر كارلوف، وجفّ نهر (فالتافا) وبكى (سميتانا) معي حزنا عليه.
.. حزناً علي ّ.. حزناً عليك.
تصلني بطاقة بريدية ببضعة كلمات:

سئمت ُ الضياع.. lsquo; عائد بعد اسابيع الى ارض الوطن رغم المخاطر.

أي وطن يا طفلاً أحمق..

.. عن رحلة العذابات في البحث عنك هناك ستاتيك مني رسائل اخرى في ملاحق خاصة، لكن خلاصتها و نتيجتها، عودتي بك عجينة ً من العظام والاسنان واللحم في علبة انيقة كتب عليها. quot;

quot; ثـُـر ِم َ وعـُلـّب َ ببغداد quot;
مـُعـدٌ للتصدير الخاص
معفي من الكمارك والرسوم