زهير الهيتي من برلين: نستعرض اليوم رواية رائعة للكاتب الأيسلندي (تيور فلهيالسون) الذي اصدر أول أعماله الروائية عام 1968 بعنوان (أسرع.. أسرع.. قال العصفور).. والعنوان مستوحى من مقطع شعري للشاعر اليوت.ثم تتابع أعماله على قلتها ومنها (استدعي هذا الجعران) و(الهلال) و(حلم المسرح).. ويعيش هذا الكاتب بعيدا تماما عن الأضواء على الرغم من شهرته وخصوصا في الدول الاسكندنافية، كما يرفض أجراء حوارات صحفية أو التحدث عن أعماله!.. وأود قبل التحدث عن عمله الكبير هذا، أن نعرف شيئا عن أيسلندا، هذه الجزيرة النائية القابعة في أعالي المحيط الأطلسي، والتي تتوسط بموقعها الجغرافي، المسافة ما بين أوربا وأمريكا الشمالية، وهي في النهاية عضوا في الاتحاد الأوربي.. عدد سكانها لا يتجاوز النصف مليون، واقتصادها من أقوى الاقتصاديات الأوربية، تخضع لمناخ شديد القسوة وعاتي البرودة، تغرق هذه الجزيرة في الظلام القطبي طويلا، ثم تغمرها شمس لا تغيب!.. تملك أيسلندا تراثا هائلا من الأساطير والحكايات إلى الحد الذي تعتبر فيه هذه الجزيرة، موطن ا للإلهة الأم لكل الشعوب الجرمانية والاسكندنافية، ولقد وظف الكثير من الأدباء والشعراء والموسيقيين الأوربيين هذا التراث الغني في أعمالهم الفنية على تنوعها، ووصل إلى أعلى مراحله الكمالية في موسيقى العبقري الألماني (ريتشارد فاغنر) في رائعته (نيبلونك).. حتى النازيون استخدموا هذا التراث الكبير ووظفوه لخدمة ايدولوجية (العرق الآري) وإحلالها محل الثقافة المسيحية القادمة أليهم من شرق اعتبروه غريبا عن تراثهم وثقافتهم الحقيقية، ألا وهي ثقافة (العرق الأبيض النقي)!..
وصلت المسيحية إلى أيسلندا متأخرة نسبيا عن بقية الأقطار الأوربية، وقبل ألف عام فقط.. وهي تعتبر احدث الدول الأوربية قاطبة دخولا في هذا الدين، ولا تزال طقوس الوثنية المتجذرة في أعماق الأيسلندي باقية وواضحة في الكثير من معتقدات وعادات الشعب ولحد الآن!.. بل هم نجحوا في إدخال هذه المعتقدات والطقوس في صلب التعاليم المسيحية لشدة تعلقهم بها، حتى أن المبشرون الأوائل بالدين المسيحي، سمحوا للشعب الأيسلندي بممارسة أهم الطقوس الوثنية وبشكل علني ولزمن طويل، ألا وهو طقس التضحية الحيوانية للإلهة!.. ويمارس الآن بشكل ما ولكن تحت تسمية الحفاظ على التراث!.. ولكن هذا لا يعني أن الأيسلنديين غير متدينين بل العكس.. لكنهم استطاعوا الحفاظ على الكثير جدا من تقاليد الوثنية وتحت مسميات مختلفة. الجزيرة ظلت مستعمرة لزمن طويل جدا من قبل الآخرين، فمرة يحكمهم النرويجيين ومرة الاسكتلنديين وأخيرا الدنماركيين، وهم لم ينالوا استقلالهم ألا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وليس عن طريق ثورة دامية كما يحصل عادة، بل جاء ذلك عن طريق استفتاء شعبي، وهذا يدلل على رقة مشاعر هذا الشعب المنعزل ورفضه القاطع لكل أشكال العنف وحبه الكبير للسلام.. أسوق هذه المقدمة لمحاولة فهم أجواء الرواية، فالكاتب يمزج بشكل رائع مابين المعتقدات الوثنية المترسخة في الذاكرة الجمعية للشعب وبين تعاليم الكنيسة البروتستنتية الأخلاقية الصارمة.. الرواية تبدأ وتنتهي مشكلة دائرة!.. لا بداية ولا نهاية واضحتين، من الممكن أن تقرأ العمل من أي فصل تشاء ولا يتسبب ذلك في كثير من الإرباك أو الخلل الفني.. لقد صاغها وكأنها لغز محير وممتع في نفس الوقت.. هناك قاضي شاب، هو راوي الحكاية وبطلها، جالسا في حانة مع سيدة تعرف عليها بشكل غريب وملابسات اغرب، ثم تقوم بينهما علاقة حميمة سريعة، وتنتهي الرواية في نفس الحانة مع نفس الأشخاص.. لعبة المؤلف الذكية تكمن أيضا في عملية تداخل الأزمنة بدون أن يسمح لها بالتقاطع، وفي أسلوب يختلف تمام عن أسلوب ماركيز في (مائة عام من العزلة) على سبيل المثال، الذي لجاء إلى تكنيك ألف ليلة وليلة، والحكاية التي تلد أخرى..
القاضي الشاب الذي يكلف في إصدار أول أحكامه في أول قضية في حياته المهنية، هو في نفس الوقت شاب موهوب أدبيا وكان يطمح إلى تطوير أدواته الأدبية، وليس أن يكون قاضيا كما أبيه القاضي المشهور والمنحدر من أسرة عريقة.. ثم يأخذنا إلى طفولته حيث أبيه ذو السطوة والنفوذ والذي يحضا بالاحترام الممتزج بالخوف، وأمه الصامتة أبدا والتي لم تلعب دورا كبيرا في حياته، لكن بعد وفاتهما تنقلب المعادلة ويكتشف أن تأثير أمه فيه اكبر كثيرا من تأثير والده!.. وهنا استخدم الكاتب لغة الرموز، فان أبيه أول قضاة البلد بعد التحرر يرمز إلى الكنيسة الحديثة نسبيا على تاريخ البلد، وهي التي استطاعت في النهاية من الانتصار على الوثنية وتهزمها في موطنها الأصلي وتفرض سطوتها الأخلاقية البطرياركية المتزمتة.. أما أمه الصامتة أبدا والصابرة في اشد المواقف هلعا، والتي كانت كثيرة الانسجام مع الطبيعة وتعد له الأدوية من الأعشاب عندما كان يمرض، كانت ترمز إلى الوثنية التي أصبحت في طريقها إلى الاندثار أمام طوفان الدين الجديد.. أما هو نفسه فقد كان يمثل الجيل الجديد الموزع العواطف الملتزم بالخط الديني الجديد، لكن أعماقه لم تتخلص نهائيا من حب الوثنية المندثر!
يكلف (ازوموندر) وهذا هو اسمه، بالسفر إلى وسط البلاد الخطر، حيث الحمم البركانية والثلوج الأبدية جنبا إلى جنب، وفي زمن كانت تتم فيه مثل هذه الرحلات على ظهور الدواب، ولا يزال الأيسلنديون يرفضون إقامة شوارع مبلطة تقود إلى وسط الجزيرة القاحل لحد الآن!.. حيث الحياة في الجزيرة تتركز على سواحلها فقط.. والسفر إلى وسط البلاد لا يمكن أن يقوم به شخص مثل القاضي الشاب الذي قضى كل وقته في المدن، وعليه فقد كان عليه أن يصطحب دليلا من الرعاة الذين يعرفون الطريق.. وهنا يسهب المؤلف في وصف الجزيرة وطبيعتها الجغرافية القاسية بتفاصيل مدهشة وكأنه أراد التوثيق لكل شيء بكر فيها قبل أن تنتصر عليها المدنية.. انه يخلط الواقع بالمتخيل، يحكي لنا قصة بلد والصراع القاسي الذي يفور في أعماقه مابين التزامه وحبه للكنيسة وما بين الرغبة في تلبية نداء الإصغاء لديانة تحتضر.. الوثنية!.. يخلط هذا بذاك ويستنبط ذاك من هذا، حتى ليصعب في النهاية معرفة أين تكمن مشاعره الحقيقية في هذا الصراع المميت، أو ما هي الرسالة التي أراد إيصالها لنا كقراء!.. هل كان متواطئا مع الوثنية أم كان مسيحيا حقيقيا مخلصا للكنسية؟..
الزمن هو آخر ما يهتم به الكاتب، لهذا يتطلب الصبر الكثير في حل الغاز هذا العمل الكبير، لكن الزمن يبقى حاضرا بقوة ولو بشكل مبهم.. يمر القاضي الشاب على بيوت الرعاة القليلة الموزعة هنا وهناك ويراقب حياتهم، وكيف أنهم كانوا يعيشون على نفس الطريقة التي عاشها آبائهم وأجدادهم، غير مدركين أن العالم قد تغير وان وطنهم المستعمر آبدا قد أصبح غير ذلك وأنهم لم يعودوا عبيدا في بلدهم.. هؤلاء الذين لم يروا في حياتهم غير الثلوج والطقس المخيف وصورة جلالة الملك الدنماركي!.. كان يجلس معهم ويحدثهم عن العالم الحديث، عن المخترعات التي يمكن أن تغير حياتهم، عن الاستقلال، عن النقابات، ثم يتركهم تاركا لهم خلفه ذكرى دافئة في هذه الأصقاع النائية.. أخيرا يصل إلى حيث مكان الجريمة التي جاء من اجل التحقيق فيها.. أنها قصة الفتاة الجميلة (سولفي) المتهمة بمعاشرة أخيها غير الشقيق معاشرة جنسية والحمل منه ثم اختفاء الجنين!.. وهي محاكمة تتحول إلى محاكمة للواقع المزري الذي يعيشه الرعاة في تلك الأصقاع، كما هي إيذانا من أن الوثنية لم تعد تكفي لإصلاح هذه البلاد التي هي بأشد الحاجة إلى قيم جديدة أكثر حزما وأكثر تطلعا للإصلاح.. الشهود الذين استمع أليهم اجزموا بشكل لا لبس فيه أنهم ضبطوا الأخوين أكثر من مرة وفي أكثر من مكان وهم يمارسان الجنس معا بالرغم من الرابط الأخوي بين الاثنين، كما أكد البعض ومن ضمنهم زوجة القس، من أن سولفي كانت حامل على الرغم من محاولتها إخفاء هذا الأمر.. لكن أي من الشهود لم يؤكد حقيقة وجود الطفل!.. وهنا يصف القاضي قليل الخبرة انبهاره بجمال سولفي الخارق ويصف دخولها إلى قاعة المحكمة، والذي هو في الحقيقة كوخ حولوه إلى قاعة محكمة، وكيف أنها أثرت فيه بشكل غير متوقع، حيث كانت رابطة الجأش وغير خائفة، بل انه ارتبك بشدة ولم يستطع النظر في عينيها بشكل مباشر، ولازمه أحساس لا يخطئ من انه يعرف هذه المرأة والتقى بها ربما في زمن آخر أو حياة أخرى!.. سولفي أنكرت بجرأة كل شيء وأنها كانت تكثر من لقائها بأخيها لأنهما لم يعيشا سوية منذ الطفولة وافتراقهما بدون أن يعرف احدهما الآخر، وتعتبر حبها لأخيها طبيعيا بعد أن التقيا بعد كل هذه الأعوام.. وهي لها طفلة صغيرة من أب لا تعرفه، حيث اغتصبها رجل ليلا عندما كانت صغيرة ولم تستطع التعرف عليه.. لكن الشيء الذي لم تحسب له سولفي حسابا، هو انهيار أخيها في المحاكمة واعترافه بكل شيء.. حتى انه حكا لهم كيف أنهما مارسا الجنس ذات مرة في الكنسية أمام أعين الرب!.. صحيح انه كان اقل منها اندفاعا في هذه العلاقة الغريب، لكنه لم يكن يمانع عندما تندس أخته التي تكبره بأربعة أعوام إلى فراشه ليلا!.. كما اعترف بأنها قد قامت بتوليد نفسها بنفسها في البرية بعيدا عن أعين الناس، وأهالت على المولود، بدون أن تعرف أن كان ذكرا أو أنثى، الأعشاب والحجارة وانه قد ذهب إلى المكان بعد عدة أسابيع ورمى الجثة في البحر!.. كانت سولفي تعول كثيرا على صمود أخيها في المحاكمة وهذا ما لم يحدث، وعندما عرفت، انتابتها موجة هستيرية من الصراخ الذي يصفه الكاتب من انه شق ستار الصمت المطبق على الثلوج الأبدية منذ آلاف الأعوام، وتناولت السم لتموت منتحرة، لتتحول سولفي إلى أسطورة أخرى تنظم إلى قافلة الأساطير الكثيرة التي تحكم سيطرتها على ليالي أيسلندا الطويلة والباردة والمظلمة.. تفاصيل أخرى ثم تبدأ بعدها رحلة العودة ويبدأ من جديد الوصف اللا متناهي الجميل.. فكل شيء هو أزلي الدوران، لتندمج النهاية بالبداية ويصبحان شيء لا قيمة له في عمل يغوص كاتبه في أعماق سحيقة من النفس الإنسانية وربما ظل الطريق!
التعليقات