حوار مع الشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله:
المحزن ألا تكون لدينا تجارب كبيرة بعد كل هذه العذابات والتجارب
محمد الحمامصي من القاهرة: تحتل التجربة الإبداعية للشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله مكانة مهمة ليس فلسطينيا فقط وإنما عربيا أيضا كونها لها خصوصيتها علي مستوى اللغة والرؤية ، فضلا عن جمعها بين الشعر والرواية وتحقيقها في كليهما تميزا كبيرا أشاد به النقاد والدارسين.. ولإبراهيم نصرالله تسع روايات من بينها طيور الحذر، حارس المدينة الضائعة، زيتون الشوارع، أعراس آمنة تحت شمس الضحى، وثلاث عشرة مجموعة شعرية وكتاب (هزائم المنتصرين ـ السينما بين حرية الإبداع ومنطق السوق) وأعد وقدم ديوان الشاعر أحمد حلمي عبد الباقي.
وفي هذا الحوار معه نتعرف إلي هذه التجربة بدايتها وإلي أين انتهت ، كما نتعرف علي رؤيته بالنسبة لعديد من القضايا الشعرية المهمة.
* تشكل تجربتك الشعرية أحد أبرز التجارب الشعرية العربية الفلسطينية، هل يمكن لنا أن نتعرف علي المراحل والانتقالات المهمة التي مرت بها هذه التجربة والمؤثرات الأولية التي ألقت بظلالها عليها؟
* لا أريد أن أذهب بالأمور بعيدا، ولكن الظروف التي نشأت فيها ونشأ فيها كثير من الكتاب الفلسطينيين، كانت قاسية إلى حد لا أتصور معه أن بعضنا كان يمكن أن يحقق نصف أو ربع أو عشر ما حققه، فالظروف العائلية والاقتصادية والسياسية المحيطة بنا كان تضغط علينا لنغوص في الطين أكثر فأكثر، فالكتاب غير متوافر لا في البيت ولا في المكتبة ولا في المدرسة التي كانت تفرض سياسة التجهيل أكثر من سياسة التعليم، وسياسة (فك الحروف) لا قراءة ما خلفها من ظلال، في ذلك الواقع نشأت كما نشأ كثيرون غيري.
لكنني استطعت التسلل من خلف ظهر الأهل إلى بعض الكتب التي كانت تباع على الأرصفة فقرأت بعض أعمال نجيب محفوظ، وأعمال محمد عبد الحليم عبد الله، وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، وبعض الأعمال العالمية مثل الآم فارتر، كوخ العم توم، قصة مدينتين، أحدب نوتردام، وبعض أعمال إميل زولا وطبعات ميسرة من أعمال ديستويفسكي ولعبت السينما دورا هائلا في حياتي في تلك الفترة، بل ووجهتني لقراءة بعض الروايات التي رأيتها أفلاما.
كانت بداياتي الكتابية في نهاية المرحلة الإعدادية، وتواصلت في المرحلة الثانوية ثم في معهد المعلمين، حيث لم تسمح ظروف العائلة الاقتصادية لي أن أذهب للجامعة. وبعد التخرج ذهبت للعمل في السعودية كمدرس لمدة عامين في أواسط السبعينات، وهناك عشت تجربة من أقصى تجارب حياتي التي ظهرت بعد سنوات من عودتي في رواية (براري الحُمّى).
في البدايات كتبت الشعر بالفصحى، ثم انتقلت للعامية، وبقيت أكتب بها لفترة طويلة، ولعلي وصلت إلى نتائج مهمة، كانت هي العتبة الحقيقية للعودة للفصحى مرة ثانية، حيث رحَّلت خبرتي التي تكونت في العامية مباشرة إلى أول قصيدة فعلية كتبتها بالفصحى وعنوانها (العرض الثامن والعشرون) التي كُتبتْ تحت تأثير مجزرة تل الزعتر، ويمكنني القول إن نكهة العامية، الموضوع، البساطة والتركيب أيضا، حتى لا أقول العمق انعكست بصورة مباشرة على الفصحى.
في السعودية كتبت كثيرا تحت تأثير وطأة العزلة والغربة والصحراء والموت الذي كان يختطف واحدا من المدرسين بين فترة وأخرى، وحين عدت بعد عامين من العمل هناك، نشر أصدقائي الذين كنت معهم ديواني الأول على نفقتهم الخاصة، أصدقائي الذين كانوا متحمسين جدا لصديقهم، لكن البداية الحقيقية كانت في الديوان الثاني عام 1980 (الخيول على مشارف المدينة) حيث تشكلت لغتي، ومنذ ذلك الحين تنوّعت قصائدي فمن الغنائية، إلى الغنائية الملحمية، والقصائد الدرامية، ثم القصيدة الديوان، ثم القصيدة القصيرة جدا مع ثلاثية شعرية بعنوان (عواصف القلب) وصولا لأعمال شعرية طويلة كان للسرد دوره الكبير فيها، وفي اعتقادي أن على الكاتب أن يتنوع داخل تجربته، وقد حاولت ذلك، لأن الكتابة بعيدا عن هذا التنوع قد تعطينا في النهاية نصا واحدا، إن لم يكن على مستوى الموضوع فسيكون على مستوى الشكل، ومغامرة الكاتب يقوم جزء أساس منها في اقتراح أشكال جديدة.
* تنأى تجربتك عن خطاب المباشرة والانفعال الذي أصاب الكثير من التجارب الشعرية الفلسطينية، بماذا تفسر ذلك؟
* في أول حوار صحفي أجري معي هناك جملة أعتز بها حتى اليوم تقول: إن القضايا الكبرى تحتاج إلى مستويات فنية عالية للتعبير عنها. ولعل هذه الجملة شكّلت دون أن أدري طموحي الكتابي، فالغرض الأساس من الفن ليس التعبير عما في داخلنا فقط، بل أن نكون جزءا من أفضل ما يكتب في العالم، ويلمس هذا التحدي كل كاتب تمت ترجمة عمل أو أعمال له إلى لغات أخرى، لأن على الكاتب أن يكون كائنا فنيا، وليس مكبر صوت يحمل أصوات الناس ويوصلها كيفما اتفق. ودائما كانت هناك أعمال تعلمنا هذا الدرس منذ الإلياذة حتى اليوم.
* هل طبيعة حياة الشاعر في ظل الاقتلاع لها تأثيرها علي تجربته الشعرية من حيث علاقته باللغة وبالصورة الشعرية وتركيبتها؟
* كل إنسان هو ابن ظروفه وابن الثقافة المحيطة به، وكما لا يستطيع أن يكتب كاتب أفريقي عن حياة المخيم الفلسطيني وهو يعيش في عمق أفريقيا دون أن يرى هذا المخيم، لا أستطيع أنا ككاتب أن أكتب عن حياته هناك إن لم أعشها.
والأدب هو المحصلة النهائية للتجارب الإنسانية واللغوية والحضارية والعادات والحكايات والأساطير والوقائع والأحلام التي تشكل حياة شعب ما، وقد لا تظهر هذه الأشياء في كل عمل أدبي بالنسبة ذاتها، بل قد لا تظهر، ولكنها تبقى موجودة في أعماق النص، لا لشيء إلا لأنها موجودة في أعماق صاحب النص.
* ألا ترى أن التجارب الشعرية الفلسطينية الكبيرة مثل تجربة درويش وسميح لعبت دورا سلبيا في التجربة الشعرية الفلسطينية في أجيالها التالية ، حيث أن الإعلام والكتابات النقدية انصبت علي التجارب الأولى ولا تزال مما حجم ظهور التجارب التالية ؟
* البعض يرى ذلك، ولكن المحزن ألا تكون لدينا تجارب كبيرة بعد كل هذه العذابات والتجارب، والمشكلة ليست قائمة في وجود هذه الأسماء، لأن وجودها نعمة، ولكن المشكلة في ثقافة عربية سائدة تكتفي بما تعرفه وما تألفه، ثقافة أدعوها بثقافة (سطوة الجاهز)، لكن ورغم ذلك لا نستطيع أن نتجاهل بروز أسماء كبيرة أخرى وإن لم تأخذ ما تستحقه لأن تجربتها مغايرة وأصيلة أيضا.
* أين تقف تجربتك الشعرية الآن وما موقفها من التجربة الشعرية الفلسطينية خاصة والتجربة العربية عامة؟
* لا أستطيع أن أتحدث عن تجربتي، لكن ما تحقق حتى الآن أمر جيد، فهناك تقدير كبير معبرٌ عنه بالجوائز التي منحت لي وأهمها جائزة (سلطان العويس) وهناك دراسات نقدية صدرت في كتب كما أن هناك أكثر من عشر رسائل ماجستير ودكتوراه حول أعمالي في العالم العربي وأوروبا، وهناك إعادة إصدار لكتبي باستمرار وإقبال عليها، وهذا أمر مهم بالنسبة لي. وهناك ترجمات كثيرة أيضا.
* الأجيال الشعرية الجديدة تشتغل في معظمها علي قصيدة النثر ، ما موقفك من هذه القصيدة وكيف ترى لتجارب قصيدة التفعيلة الآن مع ملاحظة خفوت صوتها؟
* كتبت قصائد نثرية منذ بدايات تجربتي، وشكلت نصف ديواني (أناشيد الصباح) وكل ديواني (فضيحة الثعلب) وديواني (كتاب الموت والموتى) وأجزاء أساسية من (ثلاثية عواصف القلب)، بمعنى أنني لا أحمل أي تحفظ على هذه القصيدة، لكنني في الآن نفسه أرى أن الإيقاع قيمة كبيرة، ومن المؤسف أن تخسره القصيدة العربية. الشيء الذي يخيفني أن كثيرا من قصائد النثر لم تترك بصمة عميقة في الوجدان العربي، وليس هناك سوى قصائد وتجارب قليلة ذات حضور ثقافي وإنساني فاعل، وهذا الكم الصغير لا أرى أنه يليق بتجربة عمرها الفعلي من عمر شعر التفعيلة. أما خفوت صوت قصيدة التفعيلة فهو جزء من خفوت صوت الروح العامة والأدب بعامة في واقع مُحيّد.
* من الشعر إلي الرواية كيف كانت طبيعة النقلة وكيف سارت بعد ذلك حياتك الإبداعية؟
* لقد طرح علي هذا السؤال أكثر من مرة بحيث بيت أعتقد فعلا أنني انتقلت من الشعر إلى الرواية! إلى أن انتبهت أنني كتبت روايتين صغيرتين في بداياتي الأولى، وحين كتبت روايتي الفعلية الأولى (براري الحمى) كنت أكتبها في الوقت نفسه الذي كنت كتبت فيه قصائد ديواني (الخيول على مشارف المدينة) وعام 1982 كنت انتهيت منها، ولكنها لأسباب كثيرة صدرت بعد ذلك بثلاثة أعوام، وهكذا، لم يكن هناك انتقال فعلي، لكن الشيء الأكيد أنني لم أكن أعتقد أنني سأكتب رواية أخرى بعدها، إلا أن الأمور سارت في اتجاه آخر حين بدأت بتأمل فترة ما بعد بيروت، وفي عام 1985 ولدت فكرة مشروع (الملهاة الفلسطينية) الذي أعمل عليه حتى الآن، وقد كتبت خلال هذه الفترة أيضا روايات (عو، مجرد 2 فقط، حارس المدينة الضائعة، وشرفة الهذيان) وهي مساحات أخرى لتأمل العالم المحيط بي وبعض تجاربي التي لم تتسعها الملهاة.
* تتجلى في أعمالك الروائية روح الشاعر ، هل يسبب لك ذلك أية مشاكل مع السرد؟
* بالعكس، إن تكون شاعرا يعني أن تتعامل مع أصفى ما في اللغة، وأن تتحرر من الزوائد وأن تختار الحدث الأكثر إضاءة بدقة أكبر، وأن تذهب لجوهر المسألة التي تتحدث عنها لا أن تطوف بها، كما أن المرء حينما يكتب فعلا لا يفكر في لغته التي سيكتب بها لأنها لغته، تماما كما لا يمكنه أن يتنفس بطريقة ما حين يكتب الشعر وبطريقة أخرى حين يكتب الرواية، فليس هناك حائط برلين بين اللغتين، بل أنت كلك هناك، لكن وعيك حاضر بطبيعة النص الذي تكتبه ، وبآفاق النص، حتى لا أقول بشروطه، فحين تكتب رواية عليك أن تكون روائيا وحين تكتب قصيدة عليك أن تكون شاعرا.
* ما موقفك من الشعراء الذين تحولوا للرواية أو يجمعون بين الرواية والشعر، مع ملاحظة أن قلة منهم من يحققون تميزا في الرواية؟
* ليس هناك عدد كبير في هذا المجال عربيا، وإن كان الأمر في العالم معروفا لدى أراغون، فولكنر، كازانتزاكي، غونتر غراس، سوينكا، هوجو، وغيرهم، لكن ما يثير اهتمامي دائما هو سليم بركات الذي أرى بأن تجربته من أفضل التجارب الروائية العربية بشكل عام.
* هل أنت مع المقولات التي تتردد حول زمن الرواية والرواية ديوان العرب وهل الرواية العربية برأيك مزدهرة حقا ؟
* اسمح لي ببعض التشاؤم، كيف يمكن أن تكون الرواية ديوان العرب وهم لا زمن لهم اليوم، إنهم خارج التاريخ أو أقرب لذلك، وخارج فعل التأثر في العالم، وخارج فعل القراءة نفسه، حتى أكثر كتابنا اليوم رواجا لا يوزعون للأسف شيئا مقابل ما يوزع في الدولة العنصرية الصهيونية، حيث يتحدثون هناك عن الخطر المحدق بالكتاب لأن الطبعات الأولى لبعض كتابهم لا تتجاوز الآن العشرين ألف نسخة!!
الرواية مزدهرة ولكن خارج حاضنتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والإنسانية، وكذلك الشعر أيضا. إنها تنمو خارج السور الذي يحيط بالعالم العربي ويكاد يخنقه، وهذا يقلل من فعاليتها، لكنه بالتأكيد لا يقلل من أهميتها، إلا أن الوضع برمته يدعو للرثاء.
* ما جديدك الشعري وأيضا النثري؟* هناك ديوان شعري ربما يصدر مطلع العام المقبل، وهو يتشكل من حالة واحدة وما يحيط بها من مرايا، كما أعمل على الرواية السادسة من الملهاة الفلسطينية وقد أنجزت القسم الأول الذي تدور أحداثة بين عامي 1875 وعام 1917 الذي شهد دخول الإنجليز لفلسطين، ولكن بالطبع بعيدا عن الرواية التاريخية، فكما يقول كارلوس فويتس: لكي يخوض الروائي في التاريخ لا بد أن يتخلص منه, إذ لا يجب أن يتموقع في التاريخ ولكن في العالم.
وأضيف إن الكتابة عن فلسطين تقتضي منك أحيانا أن تكون ضد الذاكرة الجاهزة.
التعليقات