صالح حسن فارس من أمستردام: في الوقت الذي ُتعلن فيه وسائل الاعلام العربية عن موت العراق وانحسار الثقافة، ونشوب حرب أهلية، تتواصل دور النشر في العراق باصدار الكتب الجديدة في كافة المجالات الثقافية والادبية، وتقام الفعاليات الفنية لتعلن استمرار الحياة العراقية رغم ماساتها، العراقيون يكتبون، يرسمون، يقرأون ويعشقون الحياة والثقافة منذ ان ابتدعت الكتابة في بلاد الرافدين.
في زيارتي الاخيرة للعراق اقتنيت عدداً من الكتب الجديدة التي صدرت في العراق منها (نحو مسرح حي) للممثل والمخرج المسرحي والباحث العراقي quot;سامي عبد الحميدquot; الذي صدر مؤخرا عن (وزارة الثقافة دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد) في 111 صفحة من القطع الكبير، وقد أهدى المؤلف الكتاب:( إلى الذين يحبون المسرح... لا من أجل تحقيق مصالح نفعية... بل من أجل تحقيق نشوة تصعيدية تهذيبية...). يتضمن الكتاب عشرة فصول بعد المقدمة للمؤلف: (مقلدون ولا عيب وتقليديون ولا عيب) ( الأنتقائية هي الارجح) (جماليات المسرح في نقده وانتقاده وحرية الإنسان هي الهاجس) (جماليات اخرى في الفن المسرحي ) (حوارات مع المؤلف والمخرج وبينهما) (مسرح تجريبي بلا تجريب) (المسرح الموسيقي والمسرح الشعبي) (المسرح العراقي بين التقليدي والتجريبي) (ماذا عن إيقاع العصر؟!). والفصل الاخير ( نحو مسرح حي).
عنوان الكتاب سرعان مايحيل القارئ إلى كتاب (نحو مسرح فقير) للكاتب والمخرج البولوني غروتوفسكي، لكن بعد أن انتهيت من قراءته أتضح لي أنه كتاب مختلف تماماً ومغاير له.
سلط الكتاب الضوء على أهم الاراء والنظريات لعدد من المخرجين العالميين والعرب والعراقيين، والتقاليد والاعراف المسرحية، مروراً بالنص المسرحي وتطوره التاريخي، والتمثيل والاخراج، هذا بالاضافة إلى الشرح النقدي وعرض الافكار وطرحها بشكل علمي مدروس للتجارب المسرحية العالمية واصحابها، والممارسات الطقسية الدينية الاغريقية وكيف تحولت فيما بعد الى ممارسات دنيوية واستمرت إلى يومنا هذا، باسلوب ممتع بسيط وسهل ممتنع، بعيد عن التقريرية، وحس شعري عال ينم عن تجربة وخبرة طويلتين وعميقتين في الحقل المسرحي برؤية باحث، ومعلم للفن، وممثل ومخرج مسرحي قدير.
في فاتحة الكتاب نقرأ: (اذا كان quot;أدوين ديورquot; قد أعترف أخيراً في كتابه ( افاق وأبعاد التمثيل) بأن فن سومر قد بدأ مع ابناء سومر قبل الاف السنين حيث كان رهبان المعبد السومري يتهيئون للتقرب من الالهة في طقوسهم فان مثل تلك الطقوس أصبحت احدى سمات المسرح في ما بعد. لقد سبق أبناء وادي الرافدين أبناء وادي النيل في هذه الممارسة الدينية بيد ان الاخرين اقتربوا في ممارستهم أكثر من الحدث المسرحي عندما كانوا يحتفلون بذكرى الههم quot;اوزوريسquot; ويجسدون في ذلك الاحتفال قصة مقتل البطل على يد اعدائه وما كان من اخته وزوجته quot;ايزيسquot; الا ان تلم اشلاءه وتركبها لتعيده إلى قيد الحياة).
استعرض الكتاب شخصيات كثيرة ومختلفة في تاريخ المسرح المعاصر، اسماءهم، مؤلفاتهم، وسيرهم الذاتية والعملية، وكيف تأثر المسرح العراقي والعربي بالمسرح الاوربي ولم يفكر بواقع المجتمع مقارنة مع بعض اصحاب المسرح الغربي كيف استفاد من تقنيات المسرح الشرقي مثل غرتوفسكي وباربا.
كما تناول الكتاب سيرة المؤلف الذاتية والمسرحية، وما تحمله هذه التجارب من أمال وأحلام ومتاعب في الحقل المسرحي. يقول: (منذ أن جذبني عالم المسرح ومنذ أن جذبتني الأفكار التقدمية حتى وضعت حرية الانسان ورفع الظلم عنه نصب عيني هدفاً من الاهداف التي أريد الوصول اليها بواسطة العمل المسرحي..) ويواصل كلامه حيث يقول:( قد يأتي أحدهم ويقول لست وحدك مخرجا تبحث عن حرية الانسان كثيمة للمسرحيات التي تخرجها فأقول بالطبع لا، لأن معظم المخرجين في المسرح وفي شتى المراحل والأماكن يسلكون السبيل نفسه لأنهم أكثر الناس رهافة بأحساسهم بهموم الناس وتطلعاتهم نحو حياة أفضل. لأنهم خلاصة المجتمع التي تشمل مشاكله وصراعاته وطموحاته ولانهم الاقدر على التعبير والتصوير وقبلهم يأتي المؤلفون الدراميون الملتصقون اكثر بمجتمعاتهم، وهذا هو المسرح).
وقد جاء في الفصل الاخير من الكتاب: (قسم المخرج الإنكليزي المعروف quot;بيتر بروكquot; في كتابه الفضاء الخالي المسرح إلى أربعة أصناف- المسرح المقدس، المسرح الميت، المسرح الخشن، المسرح المباشر. وأقسمه بدوري إلى ثلاثة أصناف: المسرح الأصيل، المسرح الهجين و المسرح الحي).
المسرح الحي هو عنوان الكتاب حيث خصص له المؤلف فصلا كاملا يقول: ( أما المسرح الحي وهو المسرح الذي ولد حياً وسيبقى كذلك فهو الذي يحمل بذور حياته معه. هو الذي يأخذ من الأصالة مايساعده على الحياة وينبذ من المسرح الهجين مايبعده عن جوهره وعن مصدره. المسرح الحي هو ذلك الذي يتحصن ضد هجمات الفنون الأخرى وخصوصاً الفن السابع- السينما- والتلفزيون. المسرح الحي هو ذلك الذي يعتمد النصوص المسرحية الخالدة التي يمكن إخراجها على الخشبة في كل زمان ومكان لما تحمله من مضامين إنسانية ولما تتحلى به من قيم درامية كفوءة. فلايمكن لمسرحية مثل quot;ميدياquot; ليوبيدس أن تموت ولا لمسرحية مثل quot;ماكبثquot; أو quot;هاملتquot; ولا لمسرحية مثل quot;فاوستquot; والأمثلة كثيرة وكثيرة جداً المسرح هو الذي لايرجع إلى الماضي ويقدمه كما هو بل هو الذي يقدمه بعيون الحاضر....).
(نحو مسرح حي) مسرح الممثل الحي، مسرح الابتكار والجد والاخلاص، واللغة المنطوقة ولغة الجسد نحو عالم أفضل، كتاب مسرحي جديد يستحق القراءة، انه يمزج التجربة الشخصية مع التجربة المسرحية العالمية من خلال مشاهدات وقراءات وتجارب عملية ونظرية. وبهذا قدم الفنان quot;سامي عبد الحميدquot; خدمة كبيرة للمكتبة المسرحية العربية بعد أن ترجم كتاب الفضاء الخالي لبيتر بروك والعناصر الأساسية لاخراج المسرحية لاكسندر دين وتصميم الحركة لاوكسنفورد، وفن الالقاء، فن التمثيل، وفن الاخراج. فضلا عن كتابة عشرات البحوث المسرحية، واخراج العديد من الاعمال المسرحية منها: ثورة الزنج، ملحمة كلكامش، المفتاح، في انتظار غودو، الزنوج، القرد كثيف الشعر، يبت برنارد البا.