فرض تطور الحياة السياسية والاجتماعية في العالم عموما والعالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين تغيرات وتطورات في بنية المجتمع العربي وفي طبيعة الانسان ذاته:
ـ حيث حدثت الكثير من الثورات في الوطن العربي للتحرر من الاستعمار الاستيطاني.
ـ التطور التكنولوجي الهائل في العلم والفكر الانساني وخاصة في الغرب والدول الاوربية ادى الى تقارب الثقافات والحضارات بالرغم من النكوص والانزواء الذاتي في كثير من دول العالم الثالث ومنها الدول العربية:
و أدى هذا الى تأثير الكثير من اتجاهات وأشكال الفن و المسرح الغربي والأوربي على الحياة المسرحية العربية مما اثرت في لغة وتكنيك المسرح العربي فلم تعد الارسطوية هي المنهج الوحيد في المسرح، وانما برزت اتجاهات اخرى مثل البرشتية والمسرح الملحمي والمسرح التسجيليي و المسرح الطليعي (العبثي) ومسرح الصورة ومسرح الحداثة ومابعد الحداثة.... الخ. ولكن وبالمقابل برز رفضا للكثير من هذا المفاهيم بحجة الغزو الثقافي وهيمنة الثقافة الاوربية، لذا كان التأكيد على التزام الهوية وتأكيد الذات ورفضا مطلقا لمنجزات الاخر الاوربي او الغربي.
لهذا فمن الضروري إعادة تفكيك هذه العلاقة حتى نتوصل الى مسرح يواكب التطورات التي تحدث في العالم وتأثيرها في مجتمعنا والسؤال الجوهري التالي سيساعدنا على فهم طبيعة الالتباسات التي حدثت خلال الخمسين سنة الاخيرة:
هل يمكن ان نعيش في مرحلة حداثوية او في تطور جديد يحتم علينا الانفتاح على ثقافة الاخر والتكامل معها ويكون للمسرح العربي دورا مهما في التأثير على وعي الانسان العربي ؟ ام اننا يجب ان نعيش في قرية منعزلة بعيدا عن التبادل الثقافي والحضاري نحمل ماضينا وتراثنا كدملة تتضخم بالعزلة بعيدا عن التطور الحضاري في العالم ؟ مع الاخذ بلاعتبار ان ازمة الفكر والثقافة والمسرح العربي متأتية من ازمة العقل العربي وكذلك من صراع الحداثة مع المفاهيم الظلامية.وهل حقا كانت المدينة العربية ومازالت مهيأة لاستقبال المسرح المؤثر عموما ؟
اذن الا يمكننا القيام بعملية الشك في امكانية قدرة العقل على تجاوز ازمته الحقيقة تاريخيا وحاضرا ؟وهذا يفرض علينا ان نقوم بالشك وتأويل التأويل لاعادة المقاربة او التفسير الحداثي لمقدسات الماضي.
مادام العقل والخيال البشري المتنور قد أنجز الكثير من مراحل التطور مما منحنا الان القدرة على الشك في كل شئ، او طبيعة علاقة الذات بالأنا الأخرى hellip;
ولهذا يمكن القول أيضا بان إشكالية المسرح العربي تكمن في ثبوتيته و سكونية أسئلته و هذا يدخل ضمن جاهزية الفكر عموما. و تطور المسرح وتكامله فكريا وجماليا، يحتم فرض مقدمات صعبة التحقق في وطننا العربي كديمقراطية الممارسة الاجتماعية، وحرية الذات ككائن بشري وكذات مبدعة فاعلة، بما فيها حرية الاكتشاف والخيال والتجريب في الفكر والفن وشتى أشكال الوعي الثقافي والإنساني.
ولكن في المجتمع العربي فان السياسة والاديولوجيا هي التي تقود المسرح وليس الفكر،مما يخلق مسرحا عربيا وفنانا متكيفا يؤتمر بأوامر السلطة، وهذا بالتأكيد سيساهم في تخريب المسرح.
اذن ازمة المسرح والثقافة مرتبطة بأزمة العقل والفكر العربيان.
ويمكننا ان نشخص اتجاهات المسرح العربي منذ تأسيسه على الشكل التالي:
ـ التأكيد على الهوية والخصوصية وإلغاء التواصل مع ثقافة وحضارة الآخر.
ـ او الخلط وفرض أشكال واتجاهات أوربية على أفكار تراثية لا تتناسب مع الحداثة بحجة التجريب.
ـ او بالعكس الاعتماد على مكتشفات المسرح الغربي الأرسطوي واعتبار التقليد المسرحي الاوربي هو النموذج الوحيد لفن المسرح الذي يجب ان يعاد إنتاجه واستنساخه.
وأيضا يمكننا ان نلاحظ بان في كل بلد عربي هنالك اتجاهين في الاخراج المسرحي:
الاول، نقل لربرتوار المسرح الغربي وعرض مسرحيات أوربية لمعالجة مشكلات بعيدة عن مشكلات المجتمع العربي، فيحدث نوعا من الاغتراب بين المسرح وجمهوره.
والاتجاه الثاني: استخدام الأشكال التراثية والفلوكلورية العربية والشرقية وأشكال ما قبل المسرح في محاولة لتأصيل المسرح.

موت البرشتية في المسرح العربي

و لكن تاثير البرشتية على المسرح والفنان العربي حتم سؤالنا التالي: ماهي أهمية البرشتية للمسرح العربي في الوقت الحاضر.(وجميع الفنانين العرب تاثروا ببرشت كما هو معروف).
ان التغريب والمسرح البرشتي كان اكثر ارتباطا بافكار واتجاهات المسرح العربي ولكن الكثير من تجارب المسرح العربي فهمت برشت كونه وسيلة للتوعية السياسية ولم تقترن نظرية التغريب بالتحولات الفكرية والجمالية التي يمكن ان تؤثر جذريا في الوعي او الفكر، إلا ان الفنان العربي يجد نفسه قريبا فكريا من مفهوم التغريب والرؤيا التاريخية والوعي الجدلي لهذه لمفاهيم البرشتية، والهدف هو خلق العرض المسرحي الشعبي استنادا الى الغنى والتنوع في الأشكال التراثية الشرقية وارتباطا بمكتشفات المسرح الأوربي المعاصر وأهمها المفاهيم الملحمية البرشتية.

كان للتعرف الحقيقي على برشت والمسرح الملحمي من قبل الفنان العربي في فترة الستينات من القرن الماضي، وبتاثير المسرح السياسي والمسرح الملحمي البرشتي استخدم المخرج والمؤلف العربي الكثير من الوسائل التي تخلق العلاقة بين المتفرج والعرض المسرحي
كما في مسرحيات يوسف العاني ابراهيم جلال عوني كرومي والفريد فرج وعز الدين المدني عبد الكريم برشيد قاسم محمد ابراهيم جلال المنصف السويسي فاضل الجعايبي والمنجي بن ابراهيم وغيرهم.
ولكن الكثير من الفنانين فهم برشت من جانبه السياسي كونه وسيلة للتوعية السياسية ولم تقترن نظرية التغريب بالتحولات الفكرية التي يمكن ان تؤثر جذريا في الوعي او الفكر، ولهذا فان هذه المفاهيم البرشتية لم تخضع لوعي تفكيكي ناقد وانما أُخذت بقدسية نتيحة لعقدة الشعور بالتهميش الثقافي والفكري و هيمنة المراكز الحضارية والاوربية الكبرى على الثقافة الاقليمية.
ويمكن القول هنا بان تأثير هذه المفاهيم على المسرح والفنان العربي حتم سؤالنا التالي: هل تمتلك للبرشتية أهميتها للمجتمع العربي وكذلك المسرح سواء كان ذلك في السابق ام في الوقت الحاضر وخاصة بعد التغير الجذري في الموازين والصراعات الدولية والاجتماعية وفقدان ثقة الانسان بذاته وما يحيطه.؟؟ (سأتحدث بشكل مختصر عن تاثير البرشتية لان هنالك الكثير من الدراسات التي درست تاثير برشت على الفنان العربي المشرقي)
تعتبر تجربة سعد اللله ونوس في الوصول الى العرض الشعبي مستفيدا من المفاهيم البرشتية رائدة في هذا المجال، حيث جرب تكيّف المفاهيم البرشتية مع التذوق الجمالي والفكري للجمهور العربي بغية المساهمة في تغير مفاهيمه.
وبالرغم من أن سعد الله يتفق بشكل كامل مع أهم مقولات برخت إلا انه يعتقد بصعوبة تقديم مسرحياته كما هي للجمهور العربي (لان برشت عندما كتب أفكاره ومسرحياته كان في ذهنه المسرح البرجوازي والجمهور الأوربي) وقد تبنى ونوس في السبعينات مفهوم التسييس كوسيلة لجعل المسرح فعالا في علاقته بالجمهور بهدف خلق العرض الشعبي،مما دفع بالكثير الى ممارسته. وقد أُستهلك هذا المفهوم في المسرح من قبل الكثير من المسرحيات التجارية الرديئة حتى تحول إلى مفهوم لايدلل على مضمونه التقدمي.
أما الزاوية الثانية فتخص الجانب الجمالي أي quot;اشكال الاتصال الجديدة والمبتكرة التي لايوفّرها تراث المسرح العالمي وتجارب المسرح العربي التقليدي quot; (الذي يستند الى المفاهيم المسرحية الارسطوية).
ومن هنا جاءت أهمية البحث ـ بالنسبة له ـ عن أشكال نابعة من البيئة والتراث العربي. لذا فانه عمل على إحياء شكل تراثي مهم هو quot;مسرح المقهى quot; من خلال الحكواتي، والاشكال الاخرى التي مازالت الذاكرة الاجتماعية تحتفظ بمكانة خاصة لها. ففي المقهى يمكن أن نحقق المعادلة المسرحية. فهنالك مكان اللعب (التمثيل) ومكان المتفرجين (رواد المقهى).
وقد دعى ونوس إلى تحرير العرض المسرحي من أطر القوانين مسرح العلبة الضيقة والخانقة، وهذا يعني إحياء شكل من الأشكال التراثية القديمة غير المسرحية التي تحتوي على عناصر درامية من اجل تجديد العرض المسرحي.
ولكن بناء مسرح عربي برأيه يجب أن يكون (عبر طرح الإشكالية الاجتماعية وليس عبر طرح إشكالية الشكل المسرحي، بحيث يتم بناء وعي الإنسان لا أن يعطى وعيا جاهزا يفرض عليه كأيديولوجيا.
ومخرج آخر استطاع ان يستلهم برشت بحرية اكبر واعني المخرج العراقي إبراهيم جلال الذي عمد الى فرض ملكة الجدل، بمعنى التحاور والجدل مع النص والممثل والجمهور والواقع. ولقد ساعده فهمه لنظرية برخت الممزوج بمنهج الطريقة الامريكي التي تقرا وتفهم برشت بوعي وابداع أكطثر حرية،على التوصل الى اسلوب شعبي في المسرح.
وقد كان يؤكد دائما على ضرورة اعتمادا على إستلهام ودراسة واعية للجذور الاصيلة للقديم من اجل ان يكون الجديد منسجما مع تطور العصر.
وتأكيد المخرج ابراهيم جلال دائما على إبراز التناقضات الاجتماعية والفهم الصائب للعلاقة الجدلية بين القديم والجديد،يوضح فهمه للجدلية في الابداع الفني، ويدفعه الى ان ينظر للقضية الاجتماعية من منظور مناقشتها ضمن الصراع والتناقض والتجديد، فالواقع يحمل في داخله تناقضه الحاد. ومن هنا جاء حرص ابراهيم جلال على طرح السؤال الصعب في الفن. فقد اخذ من برشت الجدل العقلي واسلوب الاخراج الملحمي ومن ستانسلافسكي الاسلوب الواقعي والحس الشعبي والعاطفة الصادقة.
وقد استطاع الفنان قاسم محمد المزاوجة بين التراث الشعبي الممتد الى الف ليلة وليله ن والحكايات والملاحم العربية ومزجها مع المفاهيم البرشتية ومفاهيم ستانسلافسكي وكذلك احدث المفاهيم الاوربية في الحركة والرؤيا الاخراجية المبينة على فاختانكوف وتايروف والقليل من المايرهولدية. وعلى هذا الاساس كتب واعد مسرحياته التراثية وعمد الى اخراجها بطريقة تؤكد وعيه في خلق المسرح الشعبي.(وهذا الامر يحتاج الى دراسة خاصة)
والفنان عوني كرومي كان يجد دائما علاقة بين مسرح برشت والواقع العربي.فمثلا ان موضوعة الاستغلال والصراع الطبقي وخاصة الصراع مع المحتل من اجل التحرر السياسي والاقتصادي، والتي عالجها برشت في مسرحية القاعدة والاستثناء هي مشاكل مازال المجتمع العربي يعاني منها وتجد قبولا لدى الجمهور.
ويحاول عوني كرومي ان يخلق العرض الشعبي العراقي من خلال المسرحية البرشتية. ولاينقل هذا نقلا حرفيا وانما يحاول ان يمنح الاحداث والشخصيات مميزات شعبية نابعة من مجتمعه العراقي الزاخر بالطقوس والعادات والوسائل التعبيرية.
ان اختياره لاخراج مسرحية برشت غاليلو غاليليه كان نابع من فكرة المسرحية المعاصرة والتي تؤكد على الصراع بين المبدئية وبين العمل في نشر الافكار التقدمية التي تهم الانسان عموما وكذلك اهمية حرية البحث والاختيار والتفكير. لماذا يجبر الانسان على ان يتخلى عن قناعاته المهمة. او كيف يتعلم الانسان قول الحقيقة في مجتمع متخلف مبني على الزيف.واهمية الصراع بين الجمود والتطور hellip;.الخ.
انه يرى في مسرحيات برشت بانها ا لقادرة على إثارة الجدل في ذات المتفرج لمناقشة الواقع او الذات الاخرى. وتثير الرغبة في التعلم وتنبه لاخطار المستقبل، كما انها وسيلة للكشف عن تناقضات الواقع المعاش.

ولم يقتصر التأثير على المسرح المشرقي، وفي الوطن العربي تأثر الكثير من المخرجين والفنانين العرب وإنما كان له تأثيره في المغرب العربي أيضا فبرزت الكثير من الأسماء الجزائر مثلا مثل عبد الرحمن ولد كاكي ومصطفى كاتب وعبد القادر علوله وكاتب ياسين ومحمد بن قطاف، سليمان بن عيسى، زياني شريف عياد وغيرهم.
ومن المتاثرين ببرشت أيضا الروائي والمؤلف المسرحي كاتب ياسين الذي وساهم في الدفاع عن قضية شعبة أمام القارئ الفرنسي والاوربي من خلال رواياته الشهيرة مثل روايةquot; نجمة quot; وغيرها وكذلك مسرحياته كمسرحية:الاجداد يزدادون شراسة. ومسرحية مسحوق الذكاء. والجثة المطوقة، التي تناقش عنها مع برشت عند زيارة البرلين انسامبل الى باريس عام 1955. وبعد التحرير أصبحت نظرته كوسموبولوتية (عالمية) وبدأ في الكتابة التي تخدم نضال الانسان عموما كما في مسرحية quot; الرجل ذو الحذاء المطاطي quot; التي كتبها عن نضال الشعب الفيتنامي انذاك و (محمد خذ حقيبتك وارحل).حاول دائما اعتماد منهج الكتابة عن مشاكل لمجتمع الجزائري وخاصة قدرية التخلف المتأت من التزمت الديني السلفي وأثره في المجتمع الجزائري بعد الاستقلال.
وقد استفاد كاتب ياسين من المسرح البرشتي، لانه يعتبر برشت فنانا ديالكتيكيا واعطى اهمية كبيرة لاستخدامه في المسرح الجزائري والمسرح العربي لكن بشئ من الحذر، وكان يؤكد على عدم الاستفادة من مفهوم التغريب في ظروف الجزائر،(لان الجمهور في بلادنا ـ خلافا للجمهور البرجوازي الالماني الذي صاغ برخت هذا المبدأ من اجله ـ لم يتشوه بعادة الاندماجEmpathy مع الحدث او الشخصية. ان هذة العدة لاتشكل خطورة بالنسبة لنا.ولهذا فنحن نحذفها من قائمة استفادتنا من مسرح برشت الملحمي)

وبالرغم من اهمية عنصر التغريب في المفاهيم البرشتية وتكيفها لتنسجم مع الكثير من الثقافات والمسارح لمختلف البلدان، إلا ان اطروحة كاتب ياسين وحذره من استخدام التغريب البرشتي كمنهج تفكيك للمجتمع والثقافة الراسمالية، لها اهميتها في الوقت الحاضر بالذات عند ما تحتم الضرورة اعادة صياغة المفاهيم المسرحية الجديدة للمسرح العربي.


الفنانون يقتلون على قارعة الطريق

ويعتبر المؤلف والمخرج المسرحي عبدالقادر علولة واحد من اهم المخرجين العرب والجزائريين الذين يعملون على تكييف أفكار برشت وانجازات المسرح الملحمي للجمهور الجزائري من خلال ربطها مع المخزون الهائل من التراث والثقافة الشعبية العربية عموما.
معتمدا على أهم وسائل التوصيل التي تحقق العلاقة الفعالة بين الفنان والمشاهد. ولهذا فانه يبحث في التراث الجزائري والعربي عن تلك الاشكال الماقبل المسرحية او الدرامية وربطها بمفاهيم المسرح الملحمي لتكيعها حتى تنسجم مع متطلبات عرض مسرحي لجمهور ومجتمع ليس اوربيا.
وتحقيقا لهذا الهدف قام علولة باحلال الكوال بدلا من الراوي البرشتي ـ الشرقي الجذور اصلا، حيث يمكننا ان نجدها في التراث الشعبي العربي وتراث المغرب العربي بالتحديد.
و يمكن حتى يومنا هذا مصادفة الكوال في اسواق الجزائر والمغرب العربي الشعبية وهو يقص على الجمهور حكاياتة التاريخية او المعاصرة مازجا اياها ببعض المشاكل السياسية التي تثير جماهير السوق..
وبهذا فان الممثل في مسرحيات هذا المخرج اصبح كوالا ووظيفته quot; كراوية quot; اصبحت اكثر تأثيرا، عندما امتزجت بتقنية التجربة العالمية، بحيث اصبح الكوال يلعب الدور الاساسي في الحدث.واصبح العرض المسرحي سرديا وبهذا فانه اقترب من المسرح الملحمي البرختي. فيقوم الراوي (الكوال) بكسر مجرى الاحداث ليس في النص فحسب (ان المخرج هو الذي يكتب مسرحياته عادة) وانما في الاداء والعرض. ولهذا فان الممثلين هم رواة اوكوالين، اضافة الى كونهم يؤدون اكثر من دور.

ومن اجل التأكيد على كسر الايهام في الحدث والاداء، فان علولة يمزج في عروضه بين ماهو واقعي وماهو رمزي واحيانا خيالي (فنتازي)، بحيث يتم التأكيد للجمهور بأنهم في مسرح وان هنالك ممثلون على الخشبة يروون حكايةما.
وبغية الوصول الى تغريب الحدث والشخصية فان المخرج الجزائري يعمد الى خلق تلك المسافة بين الممثل والشخصية باستخدام صيغة الشخص الثالث والأغاني كما هو الحال لدى برخت. أي ان الممثل يمثل الشخصية ويستعرضها بشكل مبدع وليس بشكل ميكانيكي.وبهذا فان الجمهور يمتلك تصوره عن الشخصية.

عمل علوله على تحقيق مسرح laquo;الحلقةraquo; شكلاً وأداء وإنتاجية وفرجة، بعد أن توصل من خلال الممارسة العملية إلى قناعة شخصية أن القالب المسرحي الأرسطي ليس هو الشكل الملائم الذي يستطيع أن يؤدي به رسالته الاجتماعية، في البيئة التي يتعامل معها، وقدم خلالها خمسة أعمال فنية ثرية.
وفي محاضرة لعبد القادر علولة ألقاها في برلين سنة1987 في المؤتمر العاشر للجمعية الدولية لنقاد المسرح، شرح تجربته التي اوصلته الى شكل مسرحي غير ارسطوطاليسي بسبب محدوديته و(يتميز بالتكرار الممل للفضاء مما يخلق العرض المسرحي الساكن، او يكون هنالك طغيان الخطاب السياسي المباشر الذي يكاد يحول المسرح إلى بيانات سياسية فكان يجب إعادة النظر في كل العرض المسرحي جملة وتفصيلا).
وقبل استشهادة كتب علولة فكرة لمسرحيته الجديدة والمفروض ان ينجزها كتابة واخراجا وعرضها مع فنانين وممثلين من مختلف البلدان في برلين و البلدان الاوربية ويتم هذا ضمن المشروع المسرحي العالمي (يوتوبيا 93) الذي تشرف عليه د. لميس العماري ولكن اغتيال علولة بعد الفطور الرمضاني من قبل القوى الظلامية، وهومتجه لالقاء محاضرة في مساء 10 اذار / 1994 حال دون ذلك. (وبالمناسبة فقد اغتيل الكثير من الفنانين الجزائرين الاخري والفنانين العراقيين، وهذا يدلل على أهمية لكرهم ومسرحهم في التأثير في الجمهور)
وفي عام 2000 حاولنا من جديد انا والدكتورة لميس وكتبت أنا تصورا لنص مسرحي وإخراجي تأسيسا على فكرة علولة، ولكن المشروع تعثر بسبب التمويل.
ويمكننا ان نستنتج بان علولة كان صاحب مشروع مسرحي انساني الهدف يصل به الى العالمية،وتعتبر مسرحيته الاجواد من اهم التجارب في تطبيق مفاهيمه حول المزج بين البرشتية والتراث الشعبي.
عود الى السؤال الاول هل هنالك ضرورة لبرشت الان ؟
صحيح أن ما انجزه برشت في التغريب هدف الى تفكيك استغلال النظام والمجتمع الراسمالي فقط، لكن الموت لم يمهله ان يضع اسس المسرح الديالكتيكي الذي فكر به في آخر حياته. ومن بعده قام احد مريديه واعني هاينر موللر بتطوير التغريب وتطبيقه على الكشف عن ميكانيزم الاستغلال في المجتمع الاشتراكي.

وهذه قضية جوهرية تهم المجتمع العربي في كيفية فهم اسس تفكيك المجتمع الذي كان يطمح ان يكون اشتراكيا.ويبقى السؤال قائما هل هنالك ضرورة لمفاهيم برشت في المسرح العربي ؟؟
ولكن بالتأكيد فان حداثتنا تحتم ضرورة التهجين والتفاعل بين الفكر المسرحي الغربي و الهوية الذاتية، وفي ذات الوقت الاختلاف في جوهريهما، يتم هذا من خلال التزام (النقد المزدوج) أي نقد المفاهيم الفكرية والجمالية الغربية والاوربية المهيمنة وفي ذات الوقت الاختلاف معها، وايضا نقد الهوية الذاتية المتعصبة بالماضي والسكونية وهذا يعني الدمج الحداثي بين خصوصية الهوية والحداثة الاوربية.

وبالتاكيد فان هذا المزج يخلق سؤالا معاصرا وتكنيكا فرجويا مهما في المسرح العربي.و لا يتم هذا الا بقبول فكر وثقافة الاخر.(وهنالك كتاب مهم بهذا الخصوص وللباحث المغربي الدكتور خالد الامين)
ومن الاسباب التي تدعو الى التشائم هي القول بان ازمة المسرح مرتبطة بازمة الثقافة والفكر والعقل العربي، و هذه قضية معقدة اضافة الى تشتت المسرح بين تاكيد هويته وهيمنة المفاهيم المسرحية الغربية، واذا لا يكون هنالك تفاعل بينهما فان المسرح العربي بمضامينه وأشكاله الحالية سيحقق موته حتما.

أما مستقبله فيكمن في خلق لغة النص والعرض البصريتان و إكتشاف أسرارها سوية مع المتفرج المتفاعل، وطبيعة الاسئلة التي ترفض الاجوبة الجاهزة و تحفز على المعالجة الانسانية الحقيقية لمشكلة الانسان و يبدأ خلق هذه الاسئلة التي لا تستقيم إلا من خلال اللغة البصرية منذ البذرة الاولى لكتابة النص، بمعنى ألا يكتب المؤلف نصه بلغة أدبية وينتظر المخرج ويتكل عليه ليحول نصه الى أنساق بصرية في العرض.
ولكن أي نص بصري هذا الذي من المفترض أن ينبئنا بمستقبل العرض البصري ويؤثر على البصر والبصيرة ؟؟

النص الادبي والنص البصري

لقد حدد تاريخ المسرح العلاقة بين المؤلف والمخرج اوبين النص ـ العرض والمتفرج على الشكل التالي:
ان يكون النص والعرض خطابا (سياسيا واديولوجيا تعليميا مباشرا في الكثير من الاحيان) ووسيلة توصيل أفكار المؤلف والمخرج للمتفرج أي ان النص ومكونات فضاء العرض هما وسيط بين المؤلف ـ المخرج وبين المتفرج: فتكون المعادلة أكثر تكثيفا حيث تتحول من علاقة المؤلف بالنص باعتباره خطابا لبث افكاره (النص كوسيط) الى علاقة جديدة بين النص (الذي يكون بالضرورة بصريا) ككيان مصي بصري إبداعي مستقل وبين المتفرج (الذي يجب ان يمتلك القدرة على ان يكون متفاعلا حتى يفهم بصريات النص ـ العرض):
ـ مؤلف له القدرة على الكتابة المسرحية البصرية سيؤدي الى كتابة نص بصري
ـومخرج يمتلك رؤية و تداعي بصري ينفذها من خلال ممثل قادر ومدرب على كيفية استخدام الذاكرة المطلقة لجسد ه كممثل اضافة الى استخدام ذاكرته كانسان سينتج حتما عرضا بصريا.
ـ إضافة إلى تقديم هذا النص و العرض البصري أمام متفرج مهموم بالاسئلة وليس بالاجوبة الجاهزة سيتحول من متفرج هامشي الى متفرج متفاعل.
من خلال هذا نتوصل الى نص بصري وعرض بصري وجمهور متفاعل بدلا من النص الادبي والعرض التقليدي والمتفرج الهامشي. إذن المتفرج المتفاعل هو الذي يبحث عن اللذة الفكرية لبصريا ت النص والعرض ليس لأجل الحصول على الاجوبة وانما من خلال البحث في الاسئلة المصيرية التي يمنحها النص والعرض، اذن النص والعرض البصري هما اللذان يخلقان متفرجا متفاعلا.
ولهذا فاننا يمكن ان ندعو النص المسرحي غير البصري، بالنص الادبي المغلق لانه النص الذي يتحدث بالوسائل الادبية عن كل شئ حد الثرثرة، و يقدم الاجوبة والحلول والنتائج الشافية و الجاهزة لمختلف المشاكل، ومثل هذا النص الادبي السردي المغلق على ذاته لا ُيكتب بلغة مسرحية بصرية، و لا يتعامل مع فضاء العرض البصري، وانما يتعامل مع فضاء الادب وإلتباساته السردية ويمنع أي تأويل بصري ظاهراتي، ولايعني إطلاقا بميتافيزيقيا الخيال البصري.
ولهذا السبب أصبحت المشاهدة ولذة المسرح الان معقدة لدرجة كبيرة، بل أدى الى امتناع قطاع كبير من الجمهور المتفاعل والمتعاضد عن ارتياد المسرح. اذن تقوم مشكلة المسرح على كونه مسرحا أدبيا و سرديا وسايكولوجيا.
وحتى يتخلص المسرح من كونه مسرحا مغلقا يعتمد السردية السايكولوجية الفائضة مما يؤدي به ان يتحول الى مصحة لمعالجة الامراض النفسية اقترح آنتونين ارتو المسرح المادي،وبمعنى آخر انه اقترح(مسرحا تسحق الصور المادية العنيفة فيه إحساس المتفرج وتبهره، وتشده الى دوامة من القوى العليا) وهذا المفهوم هو الذي يدعونا للتفكير بالنص والمسرح البصري.
ان تداعي الرؤيا البصرية للمخرج لإبراز إمكانات الأنساق التي تكّون فضاء العرض يشكل لغة تجسيدية ودلالية وتأويلية لخلق التأثير والاتصال بين خيالين، خيال المتفرج من جانب وخيال الممثل ـ وذاكرة الاشياء ـ المخرج من جانب آخر.
لذلك فان المعادلة في النص و العرض البصري المعاصر، تفرض أدوات ووسائل ومفردات لغة بصرية جديدة نفسها، فتختلف جوهريا عما كانت عليه في النص المسرحي الادبي المغلق.
وفي الختام نستطيع القول بان النص البصري وليس النص الادبي يمكن أن يؤَول كشفرة تؤسس بصرية العرض البصري المسرحي المستقبلي ضمن المفهوم السميائي والظاهراتي.
[email protected]