بقلم ماشادو دي أسيس
ترجمة زعيم الطائي

لم يعرف ماشادو دي أسيس الا قبل وقت قصير ككاتب كبير، ترك علاماته المضيئة على فن الرواية الغرائبية منذ القرن التاسع عشر، (1838-1908) لكنه قد نال شهرته الكبرى في بلده البرازيل وامتع قراءه لأكثر من جيل، قبل أن تنتبه اليه الترجمات لينقل الى كل لغات الأرض كواحد من الكتاب العظام الذين لايستغنى عن الأطلاع على ماتركوه من أرث قصصي وروائي فتح الباب على مصراعيه للولوج الى تيارات الرواية الحديثة، بقدرته الفائقة على مزج الواقعية بالخيال المحض، وانتباهه الى سحر العمق السايكلوجي في الشخصية الأنسانية وتنوع مشاعرها وتناقضاتها، من أعماله المهمة روايته الشهيرة كونكاس بوربا التي ترجمت الى العربية بعنوان الفيلسوف أم الكلب، ورواية دوم كاسمورو، التي درس فيها مستويات الغيرة لدى البشر وأكتناه طبيعة الواقع وحقيقته من خلال السؤال الفلسفي المهم، عما يؤكد الواقع وماهو الفارق بين الحقيقة وأوهام الخيال. (المترجم)


الرجل الذي يدعونه (ماشادو) المولع بعلم الطيور، روى يوماً لعدد من أصدقائه حدثاً غريبا ومدهشاً، حيث لم يأخذ أي واحد منهم روايته بمحمل الجد أو بنظرة أعتبار، حتى أن بعضهم قد ذهب به الظن الى أن الرجل قد فقد شيئاً من عقله، واليكم ملخصاً، لما ورد في قصته.
في بداية الشهر الماضي، بينما كنت سائرا في أحد الشوارع، مرقت عربة مسرعة بجانبي كادت تلقيني أرضا على قارعة الطريق، هرعت الى جانب الممشى لكي أتفاداها
وبأنحرافي كنت قد دلفت باب متجر للبضائع المستعملة مصادفة، فلم يوقظ دخولي ولا الصخب الذي سببته العربة وخيولها التي كادت تدهمني صاحب المتجر الذي غفا على كرسيه غير آبه لما يحدث خارجاً، وقد أنتبذ مكاناً خلفياً بكرسيه المطوي قرب جدار المحل الأخير. كان رجلاً تبدو على ملامحه الرثاثة، بلحية لها لون أعواد القش القذرة، غطى رأسه بطاقية تترية أغلب الظن انها لم يقبل أحد على شرائها، لايفكر المرء قط أن وراء هذا الشخص أية حكاية أو ما شابه ذلك، ولا لما يبيعه من بضائع، ولا يمكن ان يثير شعوراً لدى من يراه، فشدة تقشفه البالغة قد أزالت من مظهره كل مايمت بصلة لماضيه من أحاسيس متبقية أو أحزان.
كان المخزن شديد القتامة، مزدحماً بشتى الأشياء القديمة المستعملة، المنطوية، العاطلة، والتي زال بريقها، وعلاها الصدأ، من تلك المواد التي تراها في محلات الهرج والأدوات ذات الأستعمال الثاني. كل شيء يغوص في فوضى ولخبطة لايدرك لها قرار، وفي حالة ركود أزلي، تلك الأشياء التافهة التي بطل استعمالها والتي كانت ذاتنفع في سابق الأيام، آنية بغير مماسك، أو أغطية، أغطية بلا أواني، أزرار، أحذية مختلفة وأقفال، فانيلات زرق، قبعات فرو ومن القش، أطارات لصور، مونوكل ونظارات، معاطف، شيش أسيجة معدنية، أشياء تخص الكلاب، أزواج من النعال والكفوف، شارات عسكرية ومزهريات بلا نبات، حقيبة من الجلد تعلق على الكتف، ترمومتر، كراس ٍ، مقلاع، صورة باللثنوغراف لشخصية تأريخية، قناعان مصنوعان من الأسلاك تصلح للمهرجانات القادمة، كل هذه الأشياء وأكثر، من تلك التي لم يقع عليها بصري، أو التي لم تعد تحضر ذاكرتي، من التي أمتلأ بها المحل، وخصوصا المنطقة القريبة من المدخل، كلها أما معلقة، أو شبكت بمساند، أو عرضت خلف واجهات زجاجية قديمة كقدمها، وفي أقصى المحل وضعت أشياء عديدة أغلبها متشابهة المظهر، من ذوات الحجم الكبير، مثل صدور الجرارات، والكراسي، والأفرشة، رصفت بعضها على البعض الآخر وغيبت منظرها الظلمة الشديدة التي غمرت أرجاء المكان.
كنت على وشك المغادرة، حينما وقع نظري على قفص علق عند ممر الدخول، كان قديماً ككل شيء في الداخل، وقد توقعته فارغا، مادام يتصدر عموما ًكل دلالات هذا الخراب، على كل حال، فهو لم يكن فارغاً تماماً، بل رأيت داخله طائر كناري راح يحجل بين قضبانه، وفي ألوانه أجتمعت كل مبهجات الحياة، فأضافت الى هذه الأكداس الخاوية حيوية وطعم الشباب، وكأنه آخر المسافرين الناجين من حطام تلك السفينة الغارقة ببضائعها، وقد حضر الى هذا المكان بكامل فرحة نجاته التي جبل عليها من قبل. حالما حانت مني التفاتة الى الطائر، حتى أخذ يتقافز بسرعة الى أعلى وأسفل، ومن جهة لأخرى، كما لو أن شعاعا مرحاً من ضوء الشمس يتراقص مابين قبور، أقول مثل هذا التشبيه لأنني أتوجه بحديثي هذا الى أناس بلغاء، فالحقيقة أن الكناري لايعلم شيئاً بالطبع لاعن الشمس ولا المقابر، وذلك طبقاً لما أسرني به بعد أن تحدثنا سوية حول ذلك، أقول سرعان ماجذبني منظر الطائر المفرح، وقد ألهبني بالغيظ لما آل اليه من مصير بائس في هذا المكان، مما جعلني أردد في همهمة مع نفسي هذه الكلمات لمواساته:
- يالصاحبك البغيض الذي لايتورع عن التخلص منك ببضعة سنتات، يالروحه غير المبالية أٌقصد آخر سيد مقامر لك، أو تخلص منك بسهولة لصبية قاموا ببيعك، وأكتفى بمراهناته في كرة القدم؟.
ماأن سمع الطائر كلماتي، حتى بدأ يغرد مرددا ً:
- على كل حال، ربما أو لست بالتأكيد في كامل عقلك، فليس هناك مالك مقيت كما تتصور يمتلكني، ولا أحد له القدرة أن يهبني لأطفال كي يقوموا ببيعي، أنها أوهام رجل أصابه العته، أمض في طريقك وخذ لك علاجا ً يشفيك ياصديقي.
- ماذا؟
قلت مقاطعا، فلم أكن أملك وقتاً لأبداء دهشتي:
- أو لم يبعك سيدك لهذا المتجر؟ لم يكن بؤساً أو كسلآً ما جاء بك هنا، كشعاع الشمس المشرقة على هذه المقبرة.
- لاأعلم ماتقصده بالشمس المشرقة أو المقبرة، ربما أسميت الكناري الذي ملكته سابقاً
بهذه الأوصاف، شيء حسن، فهي مسميات جميلة، ولكنني حقاً متأكد أنك مظطرب الذهن ومشوش.
- عفواً، ولكنك لم تأت هنا بمحض الصدفة، او بمحض أختيارك، أليس ذلك الرجل الجالس هناك هو مالكك الدائمي؟
- عن أي مالك تتحدث، ذلك الرجل الذي هناك هو خادمي، يعطيني المأكل والمشرب كل يوم، لذا وجب علي أن أدفع له شيئاً مقابل خدماته، وهذا تحصيل حاصل، لكن الكناريات لاتدفع لمن يخدمونها في الحقيقة، منذ أن كان العالم ملكاً لطيور الكناري، سيكون نوعا من التبذير لوحصل مثل ذلك، فالواقع هو أن تظل الأمورفي العالم كما هي على مثل هذه الحال.
أدهشني جوابه، وعجبت لصياغة لغة خطابه، تلك المخاطبة التي تناهت الى آذاني كمحادثة بشرية، برغم أنني سمعتها بتغريدة طائر زادت من فتنتها، تلفت فيما حولي لأتأكد من أنني في وعيي فوجدت الشارع أمامي مثل ماتركته، وأنني مازلت في ذلك المكان البالغ العفونة، والكناري مستمر في تنقله بين جوانب القفص، منتظراً أجابتي بفارغ الصبر، فسألته عند ذاك أن كان شعوره بالوحدة سيكون عميقاً فيما لو أخلي سبيله منطلقاً عبر الفضاء الأزرق اللانهائي...
- ولكن ياعزيزي أيها الأنسان (غرد أمامي بصوته العذب ) ماذا تقصد بالفراغ اللانهائي المزرق؟
- ولكن أعذرني، ماهو تصورك لهذا العالم؟ وماذا يعنيه بالنسبة لك؟
- العالم! (أجابني بصوت تملؤه الثقة والمراس في الجدل) محل البضائع المستعملة، والقفص المضلع الضيق االمصنوع من أعواد البامبو، المعلق بهذا المسمار الصغير، هو كل عالمي، تصور أن الكناري ملك القفص الذي يحيا فيه، وما عدا ذلك، فكل شيء خارجه محض تصورات وأضاليل وأوهام.
حينئذ، أقبل البائع الذي أسيقظ لتوه نحوي وهو يجرجر قدميه متثاقلاً، وسألني أن كنت راغباً بشراء الكناري، فسألته أن كان قد آل اليه بنفس الطريقة التي أقتنى بها بضاعته وكيف تم له شراؤه أول مرة، فأخبرني أنه حصل عليه من حلاق أشتراه بصفقة مع عدد من أمواس الحلاقة. وأضاف أن الأمواس في حالة جيدة تماماً، فقلت له:
- أنا أريد شراء الكناري فقط.
دفعت له ثمنه، وأشتريت له قفصا ً مدورا كبيراً من الخشب والأسلاك، وضعته في الشرفة المسقوفة، الفرانده التابعة للبيت، فصار بأمكان الطائر التطلع من مكانه الى الحديقة والنافورة التي تتوسطها والتمتع قليلا ً بزرقة السماء. فقد قصدت أجراء بحث مطول عن هذه الظاهرة، وقد عزمت أن لاأخبر أحداً، حتى أفاجيء العالم كله بأكتشافي المدهش، أبتدات بتعلم الأبجدية ومختلف تراكيب الألفاظ اللغوية للكناري، وعلاقة التغريد بالموسيقى، ومختلف نواحي علوم الجمال، وصارت ذاكرتي مرتعاً قوياً في تعلم مسائل لغة الطير وتفرعاتها، ناهيك عن التحليل النفسي السايكولوجي لهذا الصنف، كما أدخلت في جداول تعليمي أشياء ذات طابع معين تخص الكناريات مثل بدايات تأريخها وأجناسها ومواطنها الأصلية، جيلوجيا الجزر والأرض التي أتت منها،
وكيفيات ابتدائها الترحل و الطيران، الى آخره، أمتدت مناقشاتنا لساعات عديدة، وقتها كنت أقوم بتسجيل ملاحظاتي، وانتظر قفزاته على رجل واحدة داخل قفصه وزقزقته المستمرة، وبما أنني أعيش وحيدا بلا عائلة ماعدا خادمين يعملان لدي، كنت أمرتهما بأن لايأتيا لمقاطعتي مهما كلف الأمر، حتى ولو جاءتني رسالة مهمة او برقية عاجلة، او يبلغاني شيئاً عن زائر مهم، ومنذ أن أعلمتهما بعزمي متابعة أبحاثي العلمية، غمرهما الأرتياح كلياً، وقد وجدا أن أوامري جداً طبيعية، لكنهما لم يعتورهما الشك في أنني والكناري يتفهم أحدنا الآخر قط.
ليس الأمر محتاجا للقول، أنني صرت أقتطع ساعات نومي، وأصحو مرتين أو ثلاثاً كل ليلة، أهيم على وجهي خلالها دون وجهة أو هدف، حتى أصابتني الحمى لشدة الأعياء، لكنني أستمريت على عملي قراءة وكتابة، مضيفاً ومصححاً، مصوبأً أكثر من معلومة، ضلت طريقها، إما بسبب عدم فهمي لبعض الأمور، أو لعدم قدرة الطائر على التعبير بوضوح. لانهائية العالم وسرمديته واحدة من تلك المسائل، فبعد مرور ثلاثة أسابيع على دخول الكناري الى بيتي، أعاود سؤاله أن يعيد علي تعريفه للعالم المطلق. (العالم ) ردد أمامي مجيباً: (حديقة بالغة الأتساع، تتوسطها العديد من النافورات، تملؤها الشجيرات والزهور، مزروعة بالحشائش والهواء النقي، مع قليل من الزرقة توشي سماءها، الكناري رب الكون قابع داخل قفصه الفسيح، الأبيض المدور، ومن أية زاوية أردت تنظر من خلالها الى ماتبقى من العالم، فلا تجد غير التخيلات والأوهام ).
اللغة التي كتبت فيها بحوثي عانت كثيرا من التنقيح والمعالجات، أرى أن تلك الأستنتاجات تأخذ طابع السهولة حينما نفترض في الواقع وجودها، مع العلم انني لم أبدأ بعد بكتابة الورقة التي كنت مزمعاً أرسالها الى المتحف الوطني، والمعهد التأريخي وعدد من الجامعات الألمانية، ليس بسبب افتقاري الى المادة اللازمة والملائمة، ولكن علي وضع كل أرصادي في البداية على محك أختبار صحتها ومشروعيتها، وحتى أثناء الأيام القليلة الماضية، فأنا لم أغادر البيت بالمرة، ولم أرد على أية رسالة وصلتني، ولم أرغب أن أسمع شيئاً عن الأقارب والأصدقاء، وصار الكناري كل شيء في حياتي، كلفت واحداً من الخدم بتنظيف قفص الطائر، واعطائه الماء والطعام عند كل صباح، لكن الطائر لم يقل له شيئاً، ماأن عرف ان الرجل ليست له دراية أو خلفية علمية بمثل هذه الأمور.أضافة الى سطحية خدماته، وعدم أهتمامه او حبه للطيور.
يوم السبت ذاك، وقعت في المرض، وصرت أتألم من وجع في ظهري ورأسي، أمرني الطبيب بالراحة التامة، ولكنني عانيت من أزدياد وتراكم المعلومات التي استجدت لدي ولم أكتبها أو أوليها أمعاناً من الدرس، ولم أهتم يوماً بما يجري في المدينة خارجاً، أو في بقية أنحاء العالم، بقيت على هذه الحال مدة خمس ليال، الا أنني نهضت في اليوم السادس، فلم أجد أثرأً لطائر الكناري، فبينما تركته في رعاية الخادم، أستطاع الأفلات والطيران من قفصه. كانت رغبتي الأولى هي شنق ذلك الخادم أو خنقه، وأحرقني الغيظ والكمد فسقطت على كرسيي، باكياً، دون أن أتفوه بكلمة، لكن الرجل المذنب دافع عن نفسه مقسما لي أنه كان شديد الحرص في عنايته، لكن الطير المخادع كان عازماً على الفرار رغم كل شيء.
- أو لم تحاول البحث عنه؟
- نعم، فعلت ياسيدي، صعد أولا ً الى السطح، فتبعته، بعدها طار على الشجرة، ولم أعلم بعدها أين أختفى، سألت الكثيرين عنه منذ يوم البارحة، الجيران ومزارعي المنطقة، ولكن لم يره أحد بتاتاً.
عانيت كثيرا ً، ولحسن الحظ فارقني الأعياء لساعات قليلة، فتمكنت من الذهاب حالاً الى الشرفة والحديقة، فلم أجد مايدل على وجوده، ركضت في عدة أنحاء، أرسلت وافراً من الأعلانات والرسائل، وسألت عنه الكثيرين دون جدوى،
علي تجهيز وجمع ملاحظاتي والقيام بتدوينها على الورق، حتى ولو لم تكن كاملة بشكل نهائي.
وبعد مرور أيام، عندما حدث وزرت أحد الأصدقاء ممن يسكنون في ضواحي ولاية كبيرة وجميلة من الولايات الأخرى،، كنا وقتها نتمشى سوية ونشترك في حديث قبل حلول فترة الغداء، فتناهت تغريدة بعيدة في أذني تسأل:
- تحياتي سنيور ماشادو، أين تراك كنت مختفياً؟
كان ذلك هو الكناري بعينه، يتنقل قافزا بين غصون الشجر، لك أن تتصور كيف أستعدت نشاطي وخاطبته:
- ياصديقي، لنفترض أنني قد جننت، ولكن فكرة الأصدقاء عني لاتمثل أهمية بالنسبة لي.
ثم عرضت عليه المجيىء معي الى الدار، وأن نستمر في مناقشاتنا حول عالمنا الخاص، هدوء الحديقة والنافورة، الشرفة والقفص المدور الأبيض.
- أية حديقة وأية نافورة؟
- العالم، ياطيري العزيز.
- عن أي عالم تتحدث؟ أرى أنك لم تفقد ميزة استاذيتك المزعجة التي أعتدت عليها، العالم!(أختتم كلماته ) زرقة فضاء رحبة، تعلوها الشمس المشرقة.
أجبته بغضب، ولاأدري إن كنت مؤمناً حقاً بكلماتي:
- ممكن أن يكون العالم أي شيْ، حتى محلآً أو مكاناً للبضائع المستعملة أحياناً.
- محل بضائع مستعملة (غرد بصوت لايصدر إلا من أعماق قلب قانع ) ولكن هل كان هنالك حقاُ محلاً للأشياء المستعملة؟

الولايات المتحدة الأمريكية
[email protected]