quot;لا أعيد أبدا مراجعة ما كتبته
خلال لحظة السكرquot; ص.66.
عبد الله كرمون من باريس: أجد أننا، ودون قسوة على المقروء، بعيدون هنا كل البعد عن الخمريات وعن الذين أجادوا (الكبار منهم) من خلالها في استعراض أوصاف حبيبتهم الصهباء، في ذكر أحوالها، عشقها لما تعشق، وأجمل لحظات عمر عمارتها على الأرض. أخلاق ألاف ألفتها. الزمن الموائم لأخذ شفة شفتها بلسان صلب وحازم وذي مؤامرات قد لا تخل بعهود المجون لما تنوء بالملذات إلى سفالة جناته.
غير أننا، وبالرغم من كل هذا، ومنا، فأمامنا كتاب لطيف يجعلنا نطل، من كوة السطح، بلا اتقاء ولا حذر، على عائلة سكرانة، بل نتصفح بعض وريقات عن تاريخ الشراب وحكايته بصيغة الجمع. أولم تنشر فابيين الكتاب؟ بلى. لقد نشرت quot;الشربquot; منذ شهور، وإن هي حديثة العهد بالنشر، إذ لم تظهر إلا منذ سنتين، أوان نشرها لروايتها الأولى quot;الحصول على قوت اليومquot;، والتي لاقت نجاحا كبيرا خول لها الدخول إلى حلبة الكتابة، quot;باسم باريها، مجراها ومرساهاquot;!
حصلت، بعدما أصدرت مؤخرا، روايتها الثالثة على منحة من قبل ما يسمى بإقامة الكُتاب ببرلين كي تتفرغ للكتابة ولمدة محددة. وهي التي كانت تشرف منذ زمن على أوراش الكتابة، خاصة quot;ألِفquot;. وتتطلع لأن تكتب بالألمانية، لغة طفولتها في اللورين، رغم أنها كانت ما تزال، إذ ذاك، تؤخذ على أنها لغة العدو والمحتل. كما كشفت جرح عدم تحدثها بها لتلك الأسباب نفسها في حوار معها.
صرحت فابيين في مكان آخر أن روايتها منسوجة من تفاصيل حياتها العائلية، غير أنها أكدت أن الرواية لا تكتسي بالضرورة طابع سيرة. لكنها لم تنتبه أن الحال ليس حالها لوحدها ولم تكن هي السباقة إلى مبادرة القارئ بهذا الأمر، وذلك درءا لأمرين، أولاهما: صرفه وحرمانه من التلصص على حياة كاتبته. ثانيهما: منح قيمة إضافية لعملها ورفع كل لبس عن إمكانية كونه بوحا قصد اتقاء ما قد يستشفه المتفحص من القراء من ضعف أو من ميول غير سوية. هذا الأمر ينطبق على كتاب كثيرين، خاصة، منهم، الذين يحرصون كل الحرص على تبرئة ذممهم ونقاء ساحاتهم من كل درن.
فكرة الرواية، كما قد ترون معي، ظريفة. أليس كذلك؟
ظريفة في صعودها طرا متاهات جنيالوجيا غير quot;مشرفةquot; حسب أخلاقيات متحجرة. لأنها ليست تتقصى نسبا عظيما ولا فضائل متوارثة، إذ تتتبع، خلاف ذلك، من جذورها حتى ذؤابة شجرة العائلة، لوثة الكرم أقصد الأعناب وقهوتها ودرجات حب أفراد أسرتها لها ومدى اكتوائهم، واحدا واحدا، ببأسها. أية شجرة هذه إذن!
لأمر ما بدأت بالأب ثم التفتت إلى الأم وكأنها تريد بذلك أن تؤسس في ابتسار لأصل هذا الشغف، دون أن تمضي في تحرياتها مثل نسابة لا تعرف أعراق كل البطون وآل كل بيوتها، واكتفت فقط بسلالة أشراف القوم وذوي النفوذ منهم. غير أننا نبقي على مصطلح الجينيالوجيا كي نسم عمل quot;السكرquot; في أصل القرابة دون أن يكون من همنا اللحظة التدقيق في إجراءات مبحث السلالة. فليس ذلك ما نصبو إليه اللحظة. قد يكون الأبوان من جهة الدم أولا، هما اللذان سببا في ذيوع حب الكحول في العائلة، وإن صعبت البرهنة على ذلك، إذ أن كل الدلائل تبدو منذ البدء واهية وواهنة. قد يكون السبب آخر، قد يعرفه من لا يختص في أي علم. لو صادف أن كان الحب يأتي من فوهة مثلها!
يشتري الأب مرة كل أسبوع، في الغالب يوم السبت، قنينة خمر quot;كوت دي رونquot; الأحمر والذي يصنع جنوب فرنسا وهو معروف بقوته وجودته أيضا. فيشربها وهو يشاهد التلفاز. quot;يقول أنه ليس هناك ما هو أفضل من كوت دي رون. وأنه لا يخيب أبداquot;.
من هنا إذن تبدأ قصة الحب هذه، ولا ندري كيف ستكون خاتمتها. وإن كان نص فابيين ليس في الحقيقة رواية وإنما هو مقاطع سردية تستوحي من المذكرات نسقها وتضخ شيئا من الشعر في تلافيفها. وهي لا تنصب نفسها داعية أخلاقية وإنما تحاول رصد تلك الحياة التي يحياها معاقرو الكحول دون أن تسقط في ترهات كتب الوعظ والإرشاد في مجال الإدمان، وما أكثرها.
عندما يكون الأب قد ثمل يعمد إلى التغني بأغنية العميد الذي يعزف على المزمار ويضرط. فتضحك فابيين هي (رغم أنها نبهتنا أن المتكلم ليس بالضرورة هي) وأخوها في الوقت الذي تصمت فيه أمهما. ثم يقوم ويغني أغنية بولندية، ويرفض، دوما، أن يترجم لهم كلماتها. وحينما يسكر تماما، لم يعد يرد على من يخاطبه وإنما يهز كتفيه ويمضي لينام، وقد أصيب بإسهال.
وفي ليلة ميلاد أحد الأعوام كانت الأم ترقد في المستشفى فقضى الليلة يلهو مع طفليه وكان يحتسي كحولا بيضاء ذات رائحة قوية. لقد قضوا أمسية رائعة وفي الغد أصبح الأب مريضا مثل كلب!
يوم عرسها كان يرقص معها رقصة ثم ترنح وظنت أنه قد شرب كثيرا، غير أنه قد أصيب بجلطة دموية سوف تعصف به بعد ذلك. خبأ في القبو زجاجة فودكا جاء بها صديق من روسيا. كان يرغب أن يشربها دفعة واحدة ليلة المرور إلى عام ألفين. غير أنه مات بسبب انسداد شرياني عامين قبل ذلك التاريخ. ويوم دفنه اجتمعت العائلة في بار بالمدينة وشربوا كثيرا. يومها قضت فابيين الليلة في مركز شرطة هاكوندونج داخل زنزانة السكارى.
تشرب الأم بيرة كرونونبورغ في زجاجة من سعة اللتر، كما تشرب أنواع أخرى من الكحول. quot;تقول أنه ليس بوسعها أن تنام إن لم تشرب. تقول أنها تشرب غير أنه لم يراها أحد سكرانة أبدا. تقول أن بإمكانها أن تتوقف عن الشرب متى أرادت. تقول أن الأهم هو ألا يراها أحد تشرب.quot;
الطاولة قرب سريريها لزجة جراء الجعة المندلقة فوقها. تتقيأ عدة مرات في اليوم. تنسى أن تفرغ المنفضة. تنام قدام التلفاز دون إيقافه. ومن حسن الحظ أن لا أحد يزورهم مثلما جاء على لسان الرَّاوية. سقطت يوما في الشارع وتم إيداعها في مركز معالجة الذين يعانون من مشاكل لها علاقة بالكحول. لم تحب المكان وأرادت أن تعود إلى البيت. قالت أن مشكلتها ليست هي الكحول وإنما الأعصاب وأنها تستشعر أشجانا كثيرة.
لم تعد البنت تذكر متى توقفت أمها عن الشرب وصارت تتناول الفاليوم والترانكسين. تذكر أنها لم تشرب شيئا يوم دفنها، وقد تعطلت سيارتها قبل أن تصل إلى البيت ولم تجرؤ أن تطلب من أحد من العائلة أن يأتي لمرافقتها لأنها تدرك جيدا أنهم قد يكونوا شربوا جميعهم. وعندما وصلت إلى البيت شربت قنينتين من خمر الجورا الأبيض ونادت لمرات عديدة أمها!
ربما ابتلى أخوها في فترة الجندية بالشرب والتدخين، فقد برر تعاطيه للكحول بأنه لا يستطيع أن يغازل فتاة متى لم يشرب. غير أنه يعترف بأنه يكون ثملا أكثر من الحد ولا يكون بوسعه أن يضاجعها!
كان يوقظ أخته دوما عندما يعود إلى البيت سكرانا، ومفتاحه يحتك بإلحاح متهور على ثقب الباب. تقوم وتفتح له وقد يستفحل الأمر أحيانا وتجده قد تغوط. تنظفه وتحمله إلى السرير دون أن تخبر أحدا بما حدث. قال لها يوما لو لم تكوني أختي لنكحتك كما يلزم.
ثم قرر يوما أن يتوقف عن الشرب فصارت له، بشهادة الجميع، ملامح مجنون.
أخذت أختها من سيارتها خلف مبنى البلدية زجاجة كحول بيرنو وذلك يوم زواج الراوية وابتلعت منها جرعات. فهي تملك حانة وتشرب كل يوم بعد إغلاقها للبار. تقول أن الكحول تمنحها كثيرا من الفرح وتشير أنه من اللازم التداوي بالداء. لما مات زوجها أخذت أختها الراوية وطافت بها في بارات المدينة، شربتا كثيرا وقهقهتا حتى الجنون. لم تعد تشرب كثيرا وصارت تغلق الحانة باكرا. ويحدث للراوية أن تحن إلى تلك الكؤوس التي يقارعانها بعيد الإغلاق.
أما الراوية فقد ذاقت أول بيرة لها في سن الثالثة عشرة من عمرها. فهي لا تستمرئ الطعم المر للبيرة، لكنها وعت سريعا المفعول الجميل الذي تحدثه في جسدها وخاصة في رأسها. تشرب بمعية زملائها في أماكن مهجورة وهم يحلمون بالسفر بعيدا حيث الحرية، حيث سوف يشربون ويدخنون الحشيش بدون رقيب. تشرب في كل مكان وتتناول أحيانا بعض أقراص بالإضافة إلى الكحول. سمعت يوما أحدا في البار يقول بأن الرجل الذي يشرب سيء والمرأة التي تشرب أسوأ!
كان في الثلاثين وكانت في منتصف عمره، منحها لتشرب كحول بينو دو شارونت، وقال لها بأنها سوف تخرج بعد شربها من قمقمها. ولم تنس أ، تؤكد صحة ذلك.
يحدث لها أيضا أن تحضر في أمسية حيث لا تعرف أحدا. في الصباح، بعد أن تكون قد شربت ألوان كثيرة من الكحول تفيق في سرير رجل لا تعرفه!
quot;أشرب كل مساء. وأرفض أن أنعت بمدمنة لأنني سكيرة فقط، وأنا الوحيدة التي تعرف الفرق بينهما!quot;
تقول:quot;يلزمني أن أشرب كي أرقص، كي أتحدث وأضحك، أشرب كي أقترب من الرجال وأحيانا كي أقبل فما.quot;
تتحدث عن كل ما يحدث في ليلة السكر، خاصة عما يتذكره عوضكم الذين كانوا معكم. ونحملق في المرآة هل تظهر على الوجه العدة الوردية التي تتسبب من تمدد الشعيرات الدموية ما يفضحه تورده. تتساءل لماذا تشرب؟ وهل بإمكانها أن تجد اللذة التي توفرها لها الكحول في مكان آخر؟ أو عندما تتوقف عن الشرب ما الذي سوف يتبخر في ذاتها؟ أو إذا أقلعت عن الشرب، تقول، هل سوف أظل أنا هي أنا؟
على كل حاولت الراوية أو فابيين التدقيق في كل حالات السكر ومدى تعلق المرء بالشراب وكيف الخلاص منه متى أمكن.
كما رأيا فالكتاب لم يقدم رؤية فلسفية لمعاقرة الشراب، بل مجرد سرد عادي في غالبيته لعادات عائلة معينة في السكر، ما شكل شجرتها السكرانة عوض المركب. وكأنها تحاول أن تراوح بين مقصدية أخلاقية ونزوع أدبي. فماذا كان هدف فابيين إذن؟
صرحت في مكان آخر أنها أرادت أن تنسج حول فكرة الحاجة إلى الشرب نصا تخيليا يستمد قوام بنيته من تفاصيل بيوغرافية حقيقية. وبالرغم من عدم استيفائه للنصاب الذي يرفعه إلى سدة الجمال فإنه منحنا من جمال الطرافة ما أسعدنا. فأن نتوقف عن الشرب هو بحق، كما جاء في أخر الكتاب، نهاية حكاية!
[email protected]