عبد الله كرمون: لنتخذ أماكننا جنب الخوان، في تدافع، يحتدم، بسبب الحرقة الباطنية التي تثيرها غايات الشره. لنقترب منه ولا نبدي، بالضرورة، نوعا من حمية حرارة، مثلما قد لا نبدي، مع ذلك، أية عدوانية. ننظر في كتاب quot;على مائدة القدامىquot;، منشورات بِّييلْ لِيتْر، الذي أعدته لور دو شنتال، مختارات من نصوص القدامى، من إغريق ورومان، (على أن شعوب أخرى من عرب وغيرهم قد كتبوا روائع في هذا المجال) حول كل ما له علاقة بفن المأدبة، من طعام ومسامرات وما يتخللها من دردشات وquot;تِشرابquot;.
نضع فيه أصبعنا بمرح وانتشاء على كثير من عادات القدامى. نلقى فيه فلاسفة، هم أصدقاء روحنا. ننظر فيه كيف وضحوا لمعاصريهم، بطريقتهم وحسب أدواتهم المعرفية، أشياء العالم.
كيف منح الرب الخمر للناس؟
quot;إذا بكى السيد باخوس فمن أجل أن يقي الإنسانية من شر الدموع!quot; ذلك أن خلف انبجاس الخمر قصةٌ محزنة. لقد أورد نونوس دو بانوبوليس، (عاش خلال القرن الخامس الميلادي)، في قصيدته الطويلة، كيف مات أمبيلوس، عشيق باخوس، وكيف لم يتحمل هذا الأخير هذه النائبة. quot;لقد أثرت يا أمبيلوس حداد ديونيسوس، الذي لم يعرف الحداد قط، ولكن ذلك حدث كي تجعل شراب خمرك الحلو مثل العسل، يوفر، في إراقته الدائمة، فرحا، لكل جهات الأرضquot;.
وحدث أمر خارق لما كان ديونيسوس ينوح: quot;قامت جثة المعشوق فجأة، تتهادى كثعبان، وظل أمبيلوس يبدل بشكل عفوي مظهره حتى صار أعذب نبتة. وكلما تحول الميت إلا وامتد بطنه بشكل غريب كي يمنح عنما. تتبرعم، في تقوس، أطراف يديه. وتتخذ قدميه جذورا لها، ويصير شعره المتجمع عنقودا. حتى جلده الشبيه بجلد ظبي صغير يتحول إلى فاكهة تتكور في ازدهار. ويتحول عنقه الطويل إلى دالية كرمة. على صورة مَرْفقه، امتد غصن مقوس مانحا أعنابه الممتلئة...quot;
وما أن اكتمل ازدهار أمبيلوس في تحوله إلى كرمة دانية القطاف، حتى مد باخوس يديه وجنى شيئا من ثمارها، التي نضجت سريعا، وعصرها في قعر راحته، التي خضبت بالقاني، ثم تناول قرن ثور وأفرغ فيه ذلك المشروب العذب الرفيع، وناوله جهة شفتيه وهَمّ به، قائلا: quot;لست أمنح، فقط، للبشر مشروبا بل غذاء!quot;
quot;حتى بعد موتك يا أمبيلوس، فأنت ما تزال تُفعم قلب باخوس بالفرح: أريد أن أبلل كل أعضائي بشرابك!quot;
على أن أساطير ظهور الخمرة أول ما ظهرت كثيرة، وتتباين من حضارة إلى أخرى. وباخوس، لدى الرومان، نفسه المسمى ديونيسوس لدى اليونان، جد معروف باعتباره إله الخمر والعربدة والقصف.
كثيرة هي النصوص التي اختارتها لور دو شنتال حول الشراب الذي يتناوله القدامى، رومان وإغريق، على أن الخمر يتواجد في صلب أهم ما يفضلونه، سواء خلال المآدب أو عند كل وجبة طعام يومية. فقد ذكرت كيف يصنع القدامى خمورهم، من خلال كتابات بْلين الأقدم، (عاش في القرن الأول الميلادي، وقد قضى في خضم صهارة بركان فيزيب عندما اقترب منه كي يتأمل انبعاث حممه)، هذا الذي كتب سفرا ضخما سماه التاريخ الطبيعي. تحدث عن كل الأحاديث التي يختلقها الناس، عن حق أو باطل، حول الخمر؛ تلك التي تؤجج الرجال أو تلك التي تثير عياءً لديهم فبخلدون للنوم، أو حتى عجزا جنسيا؛ بل التي تسبب في إجهاض المرأة الحامل.
كما نجد في quot;مأدبةquot; أفلاطون الكثير من منادمات الفلاسفة. هذا ألسيبياد، رجل الدولة المعروف، في سمر مع سقراط، الذي كان عشيقا له، وآخرين، وهو يطلب من الساقي ملء قدح سقراط قائلا: quot; أصدقائي، لا داعي للمكر بحضور سقراط، متى طلبنا منه أن يشرب إلا وشرب وليس يسكر مع ذلك!quot;
من أجل شرب عظيم، تناولوا الكرنب!
أورد كاتون (عاش ما بين القرن الثالث والقرن الثاني ما قبل الميلاد)، في نص مأخوذ من كتابه حول الزراعة، أن الكرنب نوع من الخضر، يفوق غيرها في المزايا. يمكن أكله مطبوخا أو نيئا. فإذا رغبتم، يقول، في أكله نيئا، فنقعوه في الخل، فهو يساعد، بشكل عجيب، على الهضم ويريح البطن وهو جيد لدر البول. يقول أنه إذا أردتم أن تأكلوا في مأدبة بشراهة وشهية عظيمتين، وتريدون كذلك شرب كميات هائلة من الخمور، فتناولوا قبل الطعام وحتى بعده كرنبا نيئا وحتى منقوعا في الخل لو شئتم. كلوا منه خمس ورقات وسوف ترون نتيجة ذلك، إذ سوف تبتلعون كل ما تبتلعونه حينها وتشعرون وكأنكم لم تزدردوا ولم تشربوا بعدُ شيئا.
الملح مادة إلهية
لست أدري أين قرأت يوما ما يلي: إذا كان الناس يردون كل ما لم يفهموه إلى أصل إلهي فلن ينتهوا أبدا. يقصد بذلك استشراء جهلهم. غير أننا نرى لدى اليونان، فيما أورده بليترارك، حول أهمية الملح، نسبتهم إياه إلى الآلهة.
فالناس، كما احتج بذلك فلوريوس، في كتاب quot;حول المائدةquot; لبلترارك، يردون كل ما يشبع رغباتهم العامة إلى أصل إلهي، مثل الماء والنور والأرض والفصول. غير أن الملح في نظره، زيادة على كونه يمنح للطعام سبب استمرائنا له، فله فضائل أخرى، لربما لذلك السبب نفسه ذهب الناس إلى مقارنته بالآلهة أو اعتباره إلها قائما بذاته. فالملح له قوة على كل قوى الانحلال والتفسخ وله قرابة كبرى مع الحياة. فهو مثل الروح التي لا قيام للأجسام بدونها، دائما حسب فلوريوس، فهو أيضا يمكن أن يحاكيها بشدة اعتراضه على تفسخ الجثث متى اتصل بها.
تابع فيلينوس الحديث عن الملح بتركيزه على وظيفته المولدة. إذ تساءل استنكارا، إن لم تكن هي أيضا إلهية؟ quot;إذا كان صحيحا أن الإله هو مبدأ كل الأشياءquot;، ما يقر به بالتأكيد. يقول بأن الملح أيضا يساعد على التوالد. فهو يُذكّر بكون المصريين القدماء، من مربي الكلاب، يناولون إناثها، متى أحسوا بخفوت غرائزها وضمورها، لحوما مالحة وأطعمة أخرى أضيفت إليها تلك المادة، كي يؤججوا ويثيروا فيها رغبةً في التزاوج. أمر آخر يؤكد ذلك هو كون البواخر المشحونة بالملح تتكاثر فيها الفئران بشكل عجيب، ذلك أن الملح يساعد على التزاوج، حتى أن بعضهم يقول أن إناث الفئران تضع بمجرد أكلها للملح. كذلك فالملح أيضا يثير حكة في أعضاء التناسل مما يدفع هذه الحيونات إلى التزاوج.
في فضل أكل السمك
دفعتْ عظمة الملح محاوري كتاب quot;حول المائدةquot;، إلى اعتبار حيوانات البحر أكثر تكاثرا من كل ما في الأرض والسماء من كائنات. حتى أن أفروديث يطلق عليها quot;مولودة الملحquot;. ثم انبرى أمبرياس قائلا: quot;أتفق مع ذلك، لكن دعونا نضيف شيئا من الفلسفة لهذه الأمور كلها. فقد اعتاد جدي أن يقول، كلما أراد أن يسخر من اليهود، أنهم لا يأكلون تحديدا أكثر اللحوم الموصى بها. أما نحن فنجزم، بدورنا، بأن الطبق الموصى به أكثر هو الذي يستخرج من البحر. لأن هذه الحيوانات التي تعيش على اليابسة، فهي تتغذى، كما ترون، مثلنا، على نفس الأغذية، ونتنفس معها نفس الهواء. وتكون مياه استحمامها وشرابها هي نفسها نفس مياهنا. حتى أن كثيرين يجدون كثيرا من الحرج في ذبحها، وهي تطلق صرخاتها المؤثرة، بعدما شاركوها نمط حياتهم وعاشروها.
أما حيوانات البحر فكأنها كائنات غريبة عنا، تحيا في عالم آخر. فلا نظرة ولا صرخة ولا دينا لها علينا ولا شيء يشفع لها عندنا من موتها. فلا نرعى لها أي ود. فبالعكس من ذلك فعالمنا جد معاد لها، متى وطئته إلا وفارقت الحياة.
مائدة الأقدمين
على مائدتهم، تلك التي يمكن لنا ألا نفوتها لو شئنا، أفكار جميلة، ذكرتُ نزرا منها، حول الموائد التي ضيعناها إلى الأبد. وفوتنا، بسبب مسألة زمنية محضة، فرصة شرب كأس مع سقراط. ولم يكن من حظنا رؤية المصريين القدامى يبجلون الخنزير، إذ لا يأكلون لحمه، ولا يقتلونه، لأنه كان يقلب لهم الأرض بأنيابه، كنوع من الحرث، على ضفاف نِيلٍ يفيض.
نقرأ في الكتاب روائع أسفيليون حول الصيادين والطفيليين.... ثم تحذيرات بلين الأقدم حول مساوئ السكر، من فقدان الذاكرة والرائحة الكريهة في الفم. فإذا كان الناس، كما يقول، ليسوا يفقدون سوى اليوم الذي ولى، فالذين يشربون طوال الليل، يفقدون، أيضا، النهار الآتي!
[email protected]