صالح كاظم من برلين: ما زالت مسرحية quot;فاوستquot; بجزئيها الأول والثاني تعتبر من إحدى التحديات الكبيرة للمسرح في عصرنا الراهن، وذلك بسبب صعوبة تحقيقها تقنيًا من جهة، ولعمقها الفكري والشعري من جهة أخرى، كونها تعالج بقدرة شعرية نادرة جملة من القضايا الكونية ذات الطابع الشمولي العميق من منطلق يمكن إعتباره وجوديًا ndash; بمنظور عصرنا الراهن-، ولا تتوقف عند هذه القضايا، بل تتجاوزها ndash; بشكل خاص في الجزء الثاني- الى معالجة مواضيع تتعلق بالعلوم الطبيعية، لا تقتصر أهميتها على تطور العلوم في عهد غوته، بل تمس الكثير من القضايا المطروحة للنقاش العلمي في عصرنا الراهن (الإستنساخ متمثل في quot;الهومونكولوسquot; الذي هو عبارة عن كائن شبيه بالبشر يخلق في المختبرات مما يعيدنا الى خضم الخطاب العلمي الراهن)، وفوق هذا وذاك يعالج الشاعر في مسرحيته مواضيع التحول والخلق الفني إضافة الى ما تقدم في الجزء الأول الذي أستغرق العمل عليه 60 عامًا (1749-1832) من تساؤلات مصيرية تتعلق بالمعرفة الإنسانية وقصورها عن الغور في أعماق الوجود الإنساني و بما تحيطه من إلتباسات الكينونة، العشق، الشيخوخة والموت. وعلى الرغم من أن غوته ينفي القصدية الفكرية لنصه، إلا أن الباب يبقى مفتوحًا أمام المخرجين والنقاد لإستشفاف ما يتناسب مع منطلقاتهم الفكرية. يقول غوته: quot;يسألونني أي فكرة أردت أن تنقل من خلال quot;فاوستquot;؟ وهم يعتقدون أني أعرف ذلك ويمكن أن أتحدث عنه. وفي الحقيقة فإن العمل الشعري كلما كان خارج المقاييس العقلية، كلما كان أفضلquot;.
مع هذا يبقى هذا النص الذي بني على أساس حكاية شعبية ألمانية عن عالم يبيع روحه للشيطان مقابل وعد الحصول على الشباب الأزلي والخلود مرجعًا أساسيًا في إستيعاب الضمير الأوروبي quot;الفاوستيquot; في إتجاه البحث عن المعرفة المطلقة، مما دفع الفيلسوف الألماني أيزفالد شبنغلر (1880-1936) لأن يقول عنه: quot;بهذا (العمل) يكون غوته قد وضع المسيرة العامة لمستقبل أوروبا الغربيةquot;، في إشارة الى الصيغة الأخيرة لهذا العمل الكبير الذي يقع في ما يقارب 428 صفحة من القطع المتوسطة، غير أن أغلب العروض تقتصر على الجزء الأول من العمل الذي يفتتحه بحالة اليأس التي يعيشها البروفيسور quot;فاوستquot;، بعد أن يعي عدم جدوى جهوده المعرفية في مواجهة الموت والشيخوخة، مما يدفعه للتعاقد مع الشيطان quot;مفستوquot; على أن يمنحه الأخير فرصة إستعادة الشباب لكي يتمكن من البحث عن أجوبة للأسئلة التي ما زالت تشغل ذهنه، غير أنه، حال ما يستعيد شبابه، يقع في حب الصبية quot;غريتشنquot; أو مارغاريتا ويغرر بها.
لقد وجد هذا العمل، على الرغم من إقرار غوته بصعوبة تحقيقه على خشبة المسرح، عبر التاريخ العديد من المخرجين والممثلين الكبار الذين تصدوا له في محاولة منهم لسبر أغواره بحثًا عن أجوبة تقربه للجمهور، ومنهم المخرج والممثل المعروف غوستاف غروندغنس (1899-1963) الذي مثل دور مفيستو في العام 1932، ليخرج هذا العمل فيما بعد أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم عاد ليمثل الدور نفسه في سنة 1960 في عرض أخرجه بنفسه- من الجدير بالذكر الإشارة الى رواية كلاوس مان التي تحمل عنوان quot;مفيستوquot; وتدور حول الدور الذي لعبه غروندغنس في ظل النظام النازي في المانيا، حيث نصب رغم إعترافه بميوله المثلية عميدا لـ quot;مسرح الدولة الألمانيquot;، وكان مقربًا من غورنغ وغوبلز-، كما أقدم العديد من المخرجين المعاصرين على إخراج هذا العمل ومن ضمنهم ديتر دورن، كلاوس بايمان و بيتر شتاين الذي أخرج الجزء الأول من المسرحية في سنة 2000 دون أن يختزل النص ndash; أستغرق العرض أكثر من 21 ساعة، بالإعتماد على فرقة خاصة أسست لهذا الغرض يبلغ قوامها 80 شخصًا إضافة الى الطاقم التقني وقد مثل دور فاوست الممثل المعروف برونو غانس-. وعلى الرغم من تقادم الدهر على هذا العمل الجبار، إلا أنه ما زال يشد إليه الكثير من المخرجين في ألمانيا وغيرها. ومن هنا وبمناسبة مرور 200 عام على صدوره يجري تقديمه حاليًا في عدد كبير من المسارح الألمانية ومن بينها quot;المسرح الوطني في فايمارquot;، حيث يجري تقديم العمل بجزئيه الأول والثاني وذلك تحت إشراف المخرجين الشابين تلمان كويلر quot;فاوست 1quot;، ولورنت شيتون quot;فاوست 2 quot;، كما يقوم الممثل المعروف مارتين فوتكه بإخراج وتمثيل العمل كـ quot;مونودراماquot; مع كورس على خشبة quot;برلينر إينسامبلquot;، أما كريستوف شروت فإنه سيقدم العمل بمنظور جديد من خلال تحويل شخصية الفتاة التي يغرر بها فاوست الى quot;مسلمةquot;. أما مسرح بوتسدام فأنه سيقدم المسرحية في إطار البحث عن أطر مسرحية لمعالجة quot;الخطاب الدينيquot;، تقع ضمنه أيضًا معالجة مسرحية لرواية سلمان رشدي quot;الآيات الشيطانيةquot;
ومع إختلاف الآراء حول هذا العمل، حيث يذهب بعضهم الى إعتباره عملاً quot;ألمانيًا بحتًاquot; بإعتبار أن السعي للحصول على quot;مساعدة الشيطانquot; لغرض إغواء quot;صبية قرويةquot; لا يمكن أن يأتي إلا من مخيلة quot;بروفيسور ألمانيquot;، إلا أنه سيبقى من الأعمال الخالدة في الأدب العالمي الكلاسيكي الى جانب quot;هاملتquot; و quot;موبي دكquot; و quot;دون كيخوتهquot; وغيرها من الأعمال التي تركت بصماتها في تاريخ الأدب العالمي.