هل يمكن أن تبادل عذراء الحب مع شيخ هرم؟
د. فاضل سوداني: ما يميز روايات غارسيا ماركيز ورواية اميركا اللاتينية عموما هو اسطورية الأحداث وانتقاء النماذج البشرية التي تصير بعد ذلك أبطالا غير مكرورين إذا لم يكونوا اسطوريين حقا في واقع معاصر. وهذه الأسطورة الواقعية المعاصرة هي التي تجعل عالمنا أكثر تقبلا، فهي تضيف الكثير من الخيال والحلم أو حتى الكابوس إلى عالم واقعي أو روائي يمكن أن نطلق عليه عالم ما قبل الواقع، لأنها تساعد على تكثيفه ما يتيح للروائي والقارئ التبصر بعالم متفرد كما هو الحال مع ماركيز في روايته ذاكرة غانياتي الحزينات، (ترجمة صالح علماني ndash; دار المدى) في أن يعالج موضوع الحب كأخطر هاجس يتزيف في عالمنا الآلي مقابل الموت أو بالعكس ما يؤدي إلى أن تصبح حبكة الأحداث وعالم الأبطال خارج حدود المنطق أو الواقع أو قيود الطبيعة ndash; طبعا ما عدا ndash; شروط آلية الزمن فيبدو وكأنه عالم يتأسس ndash; ولو بجزئية ما ndash; على الحرية المطلقة، وإذا لم يتحقق مثل هذا العالم فإن الرغبات الإنسانية المطلقة ndash; على الأقل ndash; قد تتحقق بما يشبه المستحيل.
فجأة يستيقظ بطل رواية ماركيز (ذاكرة غانياتي الحزينات) من حلمه الحياتي الطويل الذي بلغ التسعين عاما، ليكتشف بأن لديه القدرة ليس على الحب فقط وإنما على تحدي الموت أو الزمن من خلال ممارسة حب روحي متفرد مع مراهقة عذراء مستلبة. وهنا يبدأ السؤال الصعب وهو : هل من الضروري أن يكون مثل هذا الحب وبهذه السن متبادلا؟
إن الزمن قادر على تهديم الجسد لكن هل هو قادر على هدم تلك القوة الروحية التي تحول الإنسان إلى أسطورة، أو إلى نور يتجلى في سماء أخرى؟
وهل يمكن أن يصبح الحب رابطة أسطورية خارج قيود الزمن ndash; رابطة تبدو حلمية وأكثر شاعرية وإنسانية وإنقاذا لنا من هذه الرابطة التي نعرفها في حياتنا؟
لكن هل يمكن للزمن أن يفرض شروطه لدرجة يضعف فيها فعل تحدي الإنسان للموت، عندما يختار الحب كفعل مواجهة في تجربة حب متأخرة كتجربة بطل ماركيز سواء كان حبا روحيا أم مزيفا.
إذن نحن هنا مع (ذاكرة غانياتي الحزينات) بصدد رواية عن مواجهة الزمن والموت أو أسطورية الزمن وقدرته على العدم وأسطورية الموت، رواية تحمل بين سطورها مواجهة وتحديا لسكونية الحياة وركودها المقيت، إنها أسطورة واقعية أو واقع أسطوري وهذه قدرة ماركيز في أن يحيل الواقع على واقع شعري أو أسطوري، أنه النص الذي يوحي بل يطلق الخيال و يجعلك تفكر في أن تعيش الحياة من جديد من دون أي قيد، أي يجعلك تحب الحياة وتأسف على الماضي الذي تسرب بين أصابعك كالهواء لأنك لم تعشه كما ينبغي.
وما افترضه بطل ماركيز في فعل مواجهة (الموت والزمن وسكون الحياة) هو القدرة على إهداء نفسه في عيد ميلاده التسعين، ليلة حب مع عذراء في أحد المواخير السرية الخاصة التي كانت روسا كاباركاس تشرف عليه فتتصل بزبائنها الجيدين كملكة قادرة على تسيير عرش ماخورها بسرية وإقتدار وذوق رفيع.
وعلى الرغم من خضوع بطل ماركيز لقانون الزمن التسعيني بيولوجيا إلا أن المراهقة العذراء المتعبة التي انتظرته فنامت عارية متلفلفة على نفسها، أذهلته بجمالها وطفولتها وإشعاع الحب والشهوة من روحها وجسدها. وظل حتى الصباح منبهرا يشم شذى روح العذراء ديلغادينا وهو يسمع إيقاع تنفسها كنواقيس الغبطة السماوية.
وعلى الرغم من أنه خرج من التجربة ndash; حسب منطق الذكورة ndash; ذليلا وحزينا وباردا مثل أرنب مذعور، مصمما على عدم العودة إلى استفزاز القدر، إلا أن جمال العذراء وبراءتها جعله يكتشف عدم تمكنه من الخلاص من حبه لها حتى وإن بقيت في كل المرات التي التقاها بعد ذلك عذراء، لأنه وبكل بساطة اكتشف الجمال وهو في زحمة تراكم القبح الحياتي في تسعينات عمره.
إنه بطل غريب إلا أنه واقعي قد أمضى حياته وحيدا بلا ثروة أو زوجة ولم يعرف الحب الروحي في حياته، لأنه كان يدفع ثمنا للذة الجسدية. وعندما قرر الزواج في ماضي الأيام من حيمينا أو رتيث، فإنها هربت إلى بلاد أخرى في ليلة الزفاف، ولم تعد إلا بعد مرور عشرين عاما، بعد أن تزوجت وصار عندها سبعة أبناء كان يمكن أن يكونوا أبناءه هو. داميانا فقط هي التي بقيت مخلصة حتى اللحظة لهذا الهرم المارق لأنها أحبته بإخلاص فانتظرته اثنين وعشرين عاما، وظلت باكرا من أجله، وتزوره كل يوم لتقضي له حاجات البيت وتملأه بالزهور، فهو وحيد، بلا صداقات بعد أن اختار هو بالذات هكذا حياة بحرية مطلقة حتى أنه قرر أن يموت على السرير ذاته الذي ولد فيه في بيت العائلة الذي يعود إلى القرن التاسع عشر.
وعلى الرغم من انه متقاعد ومازال يكتب عموده الصحافي كل يوم أحد إضافة إلى كونه محررا للأخبار في جريدة دياريودي لاباث، إلا أن كل هذا لا يكفي تسديد ضرورياته فيضطر إلى بيع أثاث ومدخرات البيت الثمينة الموروثة بين الحين والآخر.
يخيل للآخرين أحيانا بأنه يعيش عته الشيخوخة حتى أن سكرتيرات الجريدة يمازحنه باعتباره كهلا هرما غير قادر على ممارسة فعل الحب متيقنات بأنه عاش شبابه بسحره الخاص الذي يغري المرأة وامتلاكه لقدرة أخرى تؤهله أن يكون العارف بأسرارها.
إنه هرم مازال يمتلك صبوات الشباب ونزقه لدرجة أنه يسرق الزهور من حديقة خاصة ليهديها إلى ديلغادينا عندما لا يجد محلا مفتوحا للزهور، وصبوات أخرى مثل استعداده بإخلاص أن يموت من اجل حبه لها، إنه بطل أمضى حياته بهذه المتعة، عندها شعر بوطأة سنواته، فأعد دقائق الليالي التي تفصله عن الموت.
لكن الإحساس الذي سيطر عليه وهو ممدد على سرير الماخور وبجانبه الطفلة العذراء عارية تتدفق الحياة في شرايينها وجمالها الباهر يستفز شيخوخته عندما يشع في ظلام الغرفة.
وهنا يمزج ماركيز بين فرويد وقدرة الزمن على أن يحول جميع الأشياء إلى عدم ولهذا فهو كروائي لا يكتفي بسرد أدق تفاصيل همس الحب، إلا أنه يجعل من العذراء الطفلة وكأنها أوفيليا ناعسة بغفوة الولادة حيث تلفلفت على نفسها بحركة جسدية كما الوليد في رحم الأم، فلم يتمالك البطل التسعيني فغنى لها أغنيات ذاكرة الطفولة. على الرغم من أن الشيخوخة هي رمز علني على قدرة الزمن على تخريب الإنسان والحياة، لكن هذا الجمال الطفولي الوحشي أيقظ طفولته وشبابه ورجولته لدرجة أنه شاهد ملائكة الجمال محاطين بها وهم مبهورون فهدهدها بهمس :
سرير ديلغادينا
محاط بالملائكة.
ديلغادينا
ستكونين محبوبتي.
انهضي يادلغادينا
والبسي تنورتك الحريرية.
وعلى الرغم من ضغط الزمن الكارثي إلا أنه يكتب لها بأحمر الشفاه على مرآتها: (اننا وحيدان في هذا العالم ياديلغادينا).
يمتلك الإنسان عادة في شيخوخته الوقت الكافي لتأمل أدق ملامح الجمال في جسد المرأة وروحها، هذه الملامح التي خطت ورسمت بدقة فائقة ولذلك من السهولة أن يظهر بوضوح أي زيف أو جمال اصطناعي. ولهذا فإن بطلنا لاحظ تشويه براءة الجمال عندما استخدمت ديلغادينا اصباغ زينة مزيفة.
رجل هرم تسعيني في العمر يعرف كيف يمسك زمنه حتى يستطيع أن يفعل ما يشاء، فهو يسمع النداء التالي دائما:
(ففي هذه السنة أو بعد مئة سنة، ستكون ميتا إلى أبد الآبدين).
فعندما حرم من حب ديلغادينا لفترة محددة شعر بأن الحب هو الذي علمه أشياء كثيرة حتى وإن كان الوقت متأخرا. فهذه الطفلة ndash; العذراء التي أطلق عليها اسم بطلة أغاني الطفولة ديلغادينا ومنحها الكثير من الحب وكل ما يملك. أحبته بكل كيانها، على الرغم من أن كل هذا يبدو حلما أو أسطورة أو واقعا حزينا.
حقا أنها لكارثة عندما يشعر الإنسان بشيخوخته، أنه كالإحساس بالموت في الحياة أو العدم في عمر الشباب، لهذا فإن ذاكرة غانياتي الحزينات هي رواية تبارك عنفوان الشباب والحياة أنها سلم موسيقي بإيقاع شعري في لحظة تفتح الأشياء من أجل الحياة (إذ ليس هنالك أسوأ من موت المرء وحيدا).
وكما هو نهر الحياة متدفق ولا يمكن الاستحمام بالماء ذاتها مرتين كذلك بطل رواية ماركيز الذي شعر بأن الحياة تشبه الموسيقى وعند بلوغه قرنا من الزمان وأثناء خروجه من ماخور كاباركاس إلى الشارع المشع بألوان فجر جديد شعر بإحساس غريب للحياة من جديد. وفي داره كانت العجوز داميانا تغني بصوت عال، والهر الهرم الذي أهدي له في عيد ميلاده التسعين استعاد عافيته من جديد بعد أن كان مريضا وكسولا طوال الوقت، فحك ذيله بكعب سيده، فتوهجت الموسيقى في البيت. إنه تدفق جديد للحياة، ها هو قد نجا بعد أن عاش قرنا كاملا، ولكنه محكوم بالموت في حب نقي كأنه الاحتضار السعيد لأنه رغب أن يموت حبا وفضله على الموت وهو حي.
إن رواية ذاكرة غانياتي الحزينات، تمزج بين الخيال والواقع وتبرز أحداثها ومشاهدها وشخصياتها منارة بوضوح كأنها لوحة لرامبرانت أو فان كوخ حيث النور يركز جوهر الأشياء وخاصة الجسد الإنساني.
وكما هي روايات ماركيز نجد فيها الكثير من التكامل الأسطوري بحيث لا تدع مجالا للنقد إلا أن نباركها كأسطورة واقعية خلقها خيال ماركيز الديناميكي لكن يمكن أن يعيشها كل واحد منا خلسة وبسرية لها خصوصيتها.