برهان الخطيب: الامبراطوريات القديمة، أكانت في الشرق أم الغرب، تدار من قسطنطينة أو من روما، هلينية متسامحة كاليونانية القديمة، أو مركزية متشددة كورثيتها الرومانية، انسانية رقيبة بخلق قويم كالاسلامية، أو متحررة انكليزية لا تغيب عنها شمس، فاشية متزمتة، أو سوفيتية حالمة لم يغرب عنها بال، انطوت إلى رحاب الماضي، ذلك برهان على ان الاستئثار بالعالم من دولة واحدة غير واقعي، فلا امبراطورية جديدة على الأفق، بديلة لما كان وفشل في أن يكون، رغم صياح اصبح العالم قرية صغيرة تدار بقوة. نعم اصبح قرية صغيرة، إنما ليس قديمة قائمة على سيطرة كبير على صغير، رجل على امرأة، همس ولمز، بل قرية عصرية، نزعتها الفردية وطموحاتها في أي حي لا تختلف عنها في مدينة امبريالية كبيرة، كنيويورك، موسكو، طوكيو، وغيرها. هذا لا يعني انتهى حلم الجغرافيا والتأريخ ونخب مفكرة في قيام دولة عالمية تحقق لسكان الأرض استقرارا وازدهارا، الأرجح لعله يُصفى وينقى الآن في تصورات إنسانية عريضة من شطط وتخريب به حينا وآخر. بعد نكسة القومية، والاشتراكية، وهما جزء من ذلك الحلم، رأينا نكسة الديمقراطية في العراق. مسؤول غربي حاول ربما أيضا مقايضة العرب، لمساعدة في انتشال من العراق، صرح أخيرا: الولايات ليست ضد الوحدة العربية. معلوم، وحدة أو تكامل اقتصادي عربي يهدّئ وينظّم الآن واقعا متخما بتوقعات أفضل من اسلاموي قد يثوّر في مستقبل. وقد يُفهم قوله عربونا لقبول وحدة أكراد، قريبا من التهوين للروس بأن ضم أوكراينا للناتو ليس موجها ضدهم، كاستقلال كوسوفا الصربية بالإسم والرسم، كالدرع المضادة للصواريخ المقتربة إلى حدودهم. روسيا تبرز مع نجاحات اقتصادية وسياسية أوسع في المستقبل مصحوبة بمخاوف منافسين. أجزاء صاروخية تشحن خطأ إلى تايوان. الدرع نعم ضد ايران. شرخ بين روسيا وآسيا يميل كفة الغرب في ميزان. أفاطين دون إثبات، ينفيها الواقع نحو بهتان. ينزف العراق وفلسطين وتتأرجح لبنان. لا تنتهي مخاوف إنسان يُسعد بوفاق وأمان.
طبول حرب تقرع من جديد لإيران، وتارة لسوريا ولبنان، ماذا لو أن تصفية أخرى منها تتجه إلى غيرها من البلدان؟ احتدام ووبال بعيد الأمد والمدى على منطقتنا وعالم حيران.
بأهواء محافظين عنيفة، لدوام الكبت وشدة دفقه، لا يُجسّد حلمٌ ولا يُصحَّح، بل باختبارات واقع التهب، أصبح يطلب تعديلات، إعادة توظيف العقول في انتاج الواقع الدولي والمحلي بجدوى، بدل هلوسة نحو تدمير. وربما تتحقق توقعات الانسحاب من العراق لو فاز الديمقراطيون بالانتخابات الأمريكية. في السياسة كما في الأدب إذا لم تلتزم بقيم جمالية ومنها أخلاقية ضعت. إنه حلم، مشروع تغيير، شغل البشرية حروبا ساخنة وباردة، ابتكرت خلالها عقولٌ حكيمة سياسات جانبية كابحة في العقود الأخيرة، مساعدة في عبور منحنى القرن الماضي الصعب، التعايش السلمي بين العملاقين في خمسيناته وستيناته، الحياد الايجابي للدول النامية، والطريق الثالث لاسكندنافيا، سعيا إلى درب سلمي يختصر تناقضات واختلافات مزقت بنا وفينا نحن البشر المتفرجة أمس واليوم.
ما زال مَن لم يتعب من الأحلام وتحولها إلى كوابيس يأمل في خلاص من قهر وجهل وأنانيات. سقط السوفييت أو اسقطوا، لا فرق، عسكرهم وجل الأمن رغب في التخلص من نظام الحزب الواحد، لأنه وضعهم تحته، هم أرادوا فوقه، فعاد الحلم قويا بقيام دولة قطب واحد. لكن بدل حل المشاكل الباقية وموروثة من الانهيار اجتاح القطب افغانستان والعراق فزاد الطين بلة. ذلك بدا تمهيدا لامساك رقبة الشرق عموما. في روايتي (الجنائن المغلقة) المنشورة قبل ثلاثة أعوام من الغزو الغربي للعراق تلميح وتصريح لذلك.
الطريق إلى تسوية واضح
في عقل طامح لتحقيق رؤيا امبراطورية مستقبل عادلة، ولا أقول رؤية، الواقع حاليا لا يتيح هذا المشهد، قد يرى أن تفتيت الكيانات الكبيرة هناك، خارج القلعة الغربية، بحروب داخلية، بتأليب بعضها على بعضها، بدعوى الرجعية والتقدمية، بحقوق تهمل لهذا تركز لذاك، يسهّل إدارتَها وضمَّها لاحقا إلى المشروع الحلم. الحلم المشروع أبعد من ذلك كثيرا، يطلبه أهلُ عقل في تصور لا كوهم، مليء بأخطاء ودم وخداع، بخراب البصرة مرة ومرتين، بل كواقع مرئي. يُبنى مؤتمرا على مؤتمر. نعم، بمؤتمرات قمم عربية مثلا أيضا، مشهّر بها بمجون، بحوارات كالأسيوي الشرق أوسطي في شرم الشيخ، لقاء تونس لتبادل حر لأقطار عربية متوسطية، بمفاوضات وتفاهمات واحترام متبادل، بمشاريع اقصادية وثقافية مشتركة تنشر الخير، كخط الغاز العربي الاستراتيجي لأمصاره، كمشاريع في السعودية والإمارات وقطر وعنها بعيدا إلى المشرق والمغرب.
تسوية في العراق، ولا أقول التسوية لغيابها هناك بعبث، ضرورية لتكامل التكامل العربي الناهض، طريقها واضح، اعتراف بخطأ تصفية البعث. اعترف بريمر بذلك. الشطط يحدث من حصر في زاوية غالبا. البعث تعلم ممن عادوه يغنم الأكثر عدوانية، وكلاهما غافل عن أن الفوز في الحياة كنهايتها لا غالب ولا مغلوب. يُحسن إعادة الاعتبار كاملا إليه، والتفاعل معه ايجابيا، ومع الصدريين، ثم طلب الجلاء في مناخ سلمي، لتحقيق المجتمع السليم الافتراضي القادم. بغداد صرة العالم حتى ينفد النفط في الأقل. مناخ يتطلب، كما للديمقراطية نفسها، أساس مشروع التغيير، عدة محاور وأقطاب. حضورها من تطور المجتمع طبيعيا. حدث تدخل جراحي، لينتشل المريضُ نفسَه إذن، لا بإملاء هذه المرة من فوق، بأيديولوجيا، عرقية، دينية، اقتصادية، أو فكرية، تلبس مسوح السياسة المهذبة، وهي في الباطن متوحشة. فاقم العنف في العراق تغييب التسوية السياسية، بفُرقة الوطنيين، من لصوص في السلطة ومتعصبين بالتالي خارجها.
تخريب أيديولوجيات في حياة خاصة وعامة ظاهر وخفي طيلة تأريخ الشتات العراقي، إعلامها مرتكز على البروبغاندا، ولو احتقرها في ادعاء، يشوه الحكمة والفن بألاعيب، وينحو بابتذال، من الدعوة لبقاء المجموع متضافرا إلى التظافر المقيت، إبرازا لأهداف غير وطنية، غير بناءة. بعد 2003 ظن تجار أن تفقيس كتبَة أربح من تفقيس كتاكيت، فأشعلوا مصابيح التدفئة حتى تحت الشمس مباشرة.
مصلحة أي بلد في الكل النامي لا في جزء. مسؤولية التنفيذ والرقابة مشاركة. ولا قمع لجزء على غيره. عزز فشل إلباس العراقيين السموكنغ فكرة أنه لا يناسبهم، أيضا لا يليق خروجهم إلى الشارع بما طنّ لهم وهم الذين كانوا حتى الثمانينات تحدثنا الصور أيضا من الأكثر أناقة وبذخا على ملبسهم ومأكلهم ومناسباتهم الاجتماعية، حدثت حرب ايران، بمصادرة القرار الفردي، ووراءه حزب شبه مشلول، القرار الوطني العام، ثم غزو الكويت، لعين السبب، ثم الحصار، لصرامة أهل قرار أكثر من حكمتهم على مستوى أعلى، فاتسعت المصيبة مرئية وحولها أكبر غير مرئية حتى الآن. نعم، عزز الفشل الغربي في العراق ضرورة ايجاد مَخرج عند أهله ولهم من أزمة، تصبح عالمية لو وُسع الخطأ. عدم الاعتراف به ليس مَخرجا.
لا رمي أمتنا العراقية نحو المستقبل عشوائيا، تطويحا على وجهها إلى أمام، بإدارة وإرادة خارجية، ولا كبحها إلى الخلف، بمشروعات محلية، طائفية وأقليمية، هو المَخرج. الباقي حفر نفق في العقل نحو الوطنية ورحابها القومية والانسانية، منفذا لأزمة متفاقمة أكثر فأكثر.
الشرق شرق والغرب غرب ولن يفترقا
أزمّة اشتدي تنفرجي، قيل عندنا. ليس المرة الأولى يلعب العراق في التأريخ نيابة عن الحضارة دور كابح وصاد ضراوة آتية من الخارج، استهدفت حياته المادية والروحية. صدت بابل الفرس حتى عبثوا فيها، وقبل ألف عام ونيف امتصت بغداد هجمات المغول والتتار، حتى مدنتهم داخلها وخارجها، بفكرها وتسامحها، وكفت العالم آنذاك شرا. بحكم الجغرافيا شاركته في أداء ذلك الدور التأريخي الماجد روسيا أيضا، تعرضت بدورها على الطرف الآخر من أوراسيا، قلب العالم الحقيقي، لسيطرة المغول والتتار حقبة طويلة، نتيجته توقفت خيولهم عندها، تلاشت آخر أسرابها على حدود المجر. اطروحة دكتوراة كوندليزا رايس عن أوراسيا، مَن يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم، هكذا مختصر النظرية. من زاوية مقابلة نجد العراق اليوم يلعب دور روسيا البيوترية أيضا، كجسر للثقافة الأوربية إلى وسط يرفضها لو حسبنا حسابا لطالبان وتسرباتها إليه. بالعودة إلى عقل مستكبر متفرد، وارث عقل امبراطوريات زائلة، ثمة فكرة عن عدم إبداء ضعف، وإلاّ تكالب العدو عليه وأسقطه، بل عدم الاعتذار عن خطأ، ومواصلة استعمال القوة لإكمال المشوار. مشوار تحول كابوسا في بغداد الآن.
ثمة سعي حثيث منذ منتصف خمسينات القرن الماضي لمد حدود حلف عسكري لم تعد له ضروة. سقط عدوه السوفيتي، آن للبشرية أن تتطور بتنمية اقتصاداتها وعلاقاتها في سلم. لكن، لا، ذلك يعني غلق معامل السلاح، سد باب للقوة والأرباح، تهيئة فرصة لمنافسين وطامعين وجهلة لتحديك وربما التغلب عليك، إذن التعويل على الاستمرار في ادارة الحروب حتى الامساك برقبة آخر عاق، على دولة عالمية مركزها قطب واحد. إنس انهيار الامبراطوريات السابقة. كذا منطق وحل القوي. لكن، يقابله منطق قوي آخر. لا ينوي التنازل عن قوته، دع عنك مجانا، لقد فعلها غورباتشوف وندم، ولن يفعلها آخر بعده غير غافل. بالطبع، حين يصفقون لأسود مروَّضة في سيرك إنما يُصفق للمدرب، لا للأسد المكتئب، المستعيض عن وجبة البراري الطازجة بوجبة الأقفاص الملقاة له. رغم التصفيق والترويض لا يغفل المدرب أسدَه، قد يلتهمه بخبطة مفاجئة.
لا مناص لعاقل من احترام إرادة مقابلة، لدوام توازن وعلاقة تسمى أحيانا لعبة، بين يقظين منتبهين. بلاد الرافدين كانت مأسدة حتى استفرغها الرومان لحفلاتهم. اليوم تستفرغ طاقاتها. فهل ظلت ليوثها الباقية مستغفلة؟ عهد ثورة معلومات لا يبقى حريص على وجوده غافلا. المغلوب بقفص له أمل التحرر منه، ليس حتما بمجابهة، ربما بوثبة وافلات، أيضا بتعاون وتكامل. مناطق الأزمة كالعراق ولبنان وفلسطين تحتاج التعاون مع خارجها، عربيا، مع الجيران، واقليميا مع المجتمع الدولي. للعرب تعزيز بل خلق محورِهم الخاص، بالثقافة أولا إبداعا وصلات، بالسياسة مؤتمرات وحوارات، وبالاقتصاد مشاريعَ ورعاية، وإلاّ ضاعوا أكثر. جهود الجامعة العربية المحمودة لا تكفي. لعربي عتبى للذين لم يحضروا القمة الأخيرة. الانتقال من رد الفعل إلى الفعل أجدى. لا يمكن التفاهم فيها؟ ليكن اجتماع أضعف إيمان، للحصول على أمل، يساعد في ترميم حياة تعسة بأزمات متزايدة، كي تكون قادرة في الأقل على الانتخاب مجدادا وجلد نفسها أكثر.
أوراسيا للسلم ولمصالح أهاليها
روسيا بقوتها وقادتها أنشط من العرب عودة إلى وجود مؤثر، رفضها حاليا مد الناتو حدوده حتى ابوابها اعلان عدم اذعان، بروز قطب آخر في السياسة الدولية، قطب قد يتفاعل ايجابيا، لا بغطرسة كما فعل غيره حتى الان، لكلٍ مصالحُه، يفيد ويستفيد، مع ايران، سوريا، الجزائر. مثلث بل شبه مستطيل ايران، تركيا، لو بقي خط غول يحكم، روسيا ما بعد البريسترويكا، الناضجة أكلها الآن، نزولا إلى المنطقة العربية عموما، يتعزز بمزيد من تعاون. السعودية الحكيمة تصالحت مع الروس وأبعد، الأمارات الطليعية تمد الحلم ولو إلى الصين، ضرورة تأمين المصلحة الخاصة والعامة تفرض نفسها على طرفين. ذهابا إلى الصين في افريقيا، وبنجاحاتها الاقتصادية وتغذية تسليحها تتأهل أكثر لدور قطب ثالث فعال. الهند أيضا. منطقة أوراسيا شد وجذب. مَن تكون اليد الطولى له هناك لن تنفعه كثيرا خلاف النظرية والمتوقع. أوراسيا للنشر الصغيرة اضطررت تجميدها بداية التسعينات الماضية لضرب الظرف لها. لأوراسيا الجغرافية الحقيقية فرصة الآن، في ظرف المنافسة الدولية المستعرة، لإعادة ترتيب وضعها، للظهور بوضوح في الصورة العامة. لا خوف عليها. الجمع يتحرك على جسور زجاجية، لا أحد مهما بلغت قوته يجرؤ على نسفها. التوازن الذري سيد الموقف من جديد. لتركيا وايران والعرب إذا تكاتفوا وزن متصاعد مؤثر في الأحداث. يتجدد زخم أوراسيا. يوازن مستقبلا ثقلي طرفيها، الغرب المتحفز هناك، والشرق البعيد هناك. هكذا لا يكون الشرق شرقا والغرب غربا ولن يلتقيا، بل: الشرق شرق والغرب غرب ولن يفترقا. عند أوراسيا في الأقل.
ثمة مفهومان لأوراسيا، سلبي حين تضعها مقابل الغرب، والحضارة الغربية جذابة حتى الآن عند المثقفين الشرقيين عموما، إذا كرست أخطاءها الأخيرة، كما في العراق وفلسطين، اضطروا لابتعاد عنها كنموذج يحتذى، تحت مستوجبات الوطنية، فعل المتدينين، هي عزيزة لليبراليين خاصة، الشرق ساهم بفلسفاته وعلومه القديمة في بعض صياغاتها، وحين اضاف الغرب لها بُعد الحرية الفردية غير المحدود تقريبا أضفى عليها طابعه، وحين يتماهل في الدفاع عن حرية الآخرين يتردد هؤلاء بقبولها. الحضارة الغربية قادرة على توازن، إلاّ إذا استمرت في تبني عقيدة القوة والمجابهة الدائمة، اعتبرتها حكرا عليها، هي قادرة على استلاب لب الشرقيين مجددا لو انصفت، فعل اسكندنافيا الحصيفة، إلاّ بعض استثناء فيها، مقابل هذا ثمة اهتمامات اكاديمية مثلا بشعر المقاومة العراقية الآن، دراسة عنه تصدر قريبا في واحدة من أمهات صحفها. لأوراسيا أيضا مفهوم ايجابي، أي حين تضعها مع الغرب، غير السلبي المذكور آنفا. مفهومي لأوراسيا ترون غير غربي، ولا شرقي، بل أوراسي بحت. أوراسيا تتبلور سياسيا واقتصاديا بتعاون وأحياء صلات قديمة لها، حافظة للسلم ولمصالح أهاليها، استوعبت هجمات المغول من قبل وحمت الحضارة، ولعلها تستوعب هجمات أخرى وتذوبها فيها منها خيرة، كما ذوبت معالم عصر النهضة الأوربي في ثقافتها متأخرا، حتى منغوليا الحالية.
نعم لتوازن أقطاب ومنها عربي
نعم لتوازن الأقطاب ومنها العربي المنتظر نهوضه في المستقبل المنظور بهمُة متنورين من صف القادة والرعية. خيار الطاقة النووية السلمية تحسّب حكيم لاحتياجات المستقبل، يحتاج سلاما اجتماعيا في الداخل، كما مع الخارج، يحتاج تنمية اقتصادية لصالح الشطار والغلابة. يحتاج تحديد نسل. النجاح في أي قطر نجاح للآخر. نعم.. لموازنة الشرق والغرب بالوطنية القومية المتآخية مع غيرها من الوطنيات، مشرقية أم مغربية. لا.. لتغليب أيٍِ ضد أخرى وآخر. العرب أمة وسط، في قرآننا الكريم، البقاء في الوسط الذهبي فضيلة، تقول الحكمة الاغريقية أيضا، مع مشرق عرب لا ينفصل عن مغربهم لمصلحة عامة، لهم ولغيرهم. خاصة عهد عولمة تقرّب الكيانات. لا تفرق بحركات انفصالية تعيد انتاج ما أُنتج دون جدوى. لا تفتت لربط جديد بمركز جديد بعيد غريب جغرافيا، جغرافية يؤمن بها المركز أشد من بعض العرب. العملي يؤمن بأي شئ يوافق مصلحته، قد ينبذ في ايمانه إذا أعاقه، في هذا سر نجاح لحظة ما، سر انكسار لحظة أخرى.
يجترون اليوم قول علي الوردي عن ازدواجية العراقي، ناسين تفشيها في كل مكان تقريبا، نحن العراقيين، العرب عموما ومعنا الكرد وباقي الأخوة الاقليات، نتحرك معها أو من غيرها، قل الثنائية، بل التنوع، نحو المستقبل. اهل المنطقة يظهرون كلهم في الصورة بتفاهم. بحرب، باستسلام لهوان، نكرس أنفسنا ريفا لغيرنا. السعودية، أم العرب الحصيفة، رفضت في الخمسينات الماضية حلف الناتو (حلف بغداد حينه) لتطويق الدب الروسي وإشراك المنطقة العربية في حملة عليه لاناقة لهم فيها ولا جمل، كمصر قلب العروبة النابض، كسوريا منبع الثقافة الفياض، دع النواقص جانبا، هي في كل مكان. العراق المغلوب على امره آنذاك مع ملكه الصغير استجاب للحملة حالما كما هيئ له استعادة العرب لصفه ومجدهم القديم، المفقود بتشرذمهم وسيطرة الاخوة الاتراك. لم يطل حلمه، استيقظ بثورة تموز 1958 وواجه حلما جديدا، تحول بمجون الأحزاب سياسيا إلى كابوس حتى اللحظة الراهنة.
ثمة صورة أخرى للمريض العراقي بل العربي في غيبوبته المؤقتة اليوم، مشابهة إلى حد لصورته في خمسينات القرن الماضي. أملنا وسعينا ينفضان عنه، عنا، الكدر. هو يشب عن الطوق، نعم، هذا العربي سليل الرواد الأوائل، يكتسب قوى الشباب والأمل مع الوهن البادي عليه، الأمارات قطر ليبيا غيرها إلى المغرب والمشرق، بزيادة الاستثمار في الأقطار العربية، تغذي الحلم العربي الكبير القديم بأسباب جديدة للحياة وديمومتها. يظل الحلم لنظريات، في التطبيق ينكشف واقع صعب، لم يعد يُحتمل، أزمة الخبز في مصر، الغلاء في كل مكان. طبعا حتى في السويد، العادلة، تجد في التطبيق مظالم، يرتكبها القضاء مثلا بأريحية، لا فائدة من الكتابة في الموضوع، عنصريته ضد الأجانب في الصحف شائعة، بماذا يلهو إذن إذا لم يمارس الشعوذة والتنكيل بأجانب لا حول كبيرا لهم؟! وفي منطقتنا العربية، النحر، أقصد النشر، في مصر مثلا، بهيئة عامة للكتاب من شئون السحر أكثر من النثر، ثلاثة أعوام كتاب عندهم ولحد اليوم اسمع، لو تمكنت الكلام تلفونيا معهم: خابرنا بعد شهر. هكذا أيضا غيرها. النشر الرسمي لوزارة الثقافة في الشام. ثقافتنا رغم عنفوانها مستهانة، نعم، منا أكثر من غيرنا. رغمه استغرب استهانة بعض ابناء امتنا بحالها ولو هان، أصبح الانتقاص منها مودة، لكن شائنة. هي أمة من خير الأمم حقا، بقيمها النبيلة، حالها حال ابنائها، هوانها هوانهم، عزتها عزتهم. كشف ما فينا وحولنا يبيّن اسباب عطل، للنهضة بزخم جديد.
شخصية جديدة للعربي اليوم
تشخيص قاصر دون نظر إلى تخطيط عام. العرب بإمكاناتهم الكبيرة قادرون على النهوض. كثرة تشكك في ذلك عن جهل، جبن، أنانية. علو الثقافة يوسع البصيرة. هم في مرحلة تعدد الثقافات والخيارات، لا ضيقها قد يبدو لمتشائم. خيار استسلام لمهانة، يؤدي إليها. التحدي قد يدمر. الأجدى تفاعل عقلاني خلاق ومواصلة الانجاز. لخيار صلة بالخُلق مثلما بالمعرفة ليصبح مقدرة. الثقافة بوصلة. القدرة أصدق حين تكون من الداخل، المتعدد الزوايا والأجزاء. مع الشجاعة والالتفاف حول القضايا العامة تسمو الجماليات والشأن، في عالم يتلوث ماديا ومعنويا، هكذا النجاة من تخبط وعزلة، بدل التسكع ضحية دون كيشوتية.
ناقص استشراف مستقبل دون مرور بالماضي، بما يحيط حاليا. حين يعدون لحرب حولك لا يمكنك البناء، أو نائما البقاء، لا مصلحة للعرب في معاداة أمة جارة ولا بعيدة. على عربي اليوم أن يكون ذا شخصية جديدة، غير كارهة، يفقد نفسَه وصوابَه بالكراهية، ولا مذعورة من فوق، ولا مجامِلة طمعَ مكرمة، يدحض مساوئ بلدِه دون انتقاص منه مثلما يدحض جرائم الصهيونية. شخصية متفهمة مصلحتِه ومصلحة المقابل، تتفاعل ايجابيا مع النفس والمحيط وصولا لتسوية ومصالحة. لا يريدون تسوية؟ الوبال مشترك. العرب رغم وصمهم بالإرهاب يتصرفون بعقلانية ومحبة للسلم أكثر ممن ينتقدهم، سوريا مثلا، ماذا يريدون منها، وهي من الأكثر تحضرا في المنطقة، لها الجولان، فهل الضغط عليها ابتزاز لتتخلى عنه؟ لتبتعد عن حليفتها ايران؟ التخلي عن جديد دون استرجاع حق قديم عبث. ماذا بعد ذلك؟ تصفية نظام ايران كما يروجون الآن؟ لم أعد أصدق تشكل تهديدا للغرب، ايران تتقرب له ما استطاعت، ومن حق الدول تنمية ثرواتها واستخدام مواردها لمصلحتها، لا لتبديد على تسليح وتجريح. وفِروا للمنطقة فرصة لتطورها. لا أحد يسعى بقدميه لهلاك غير أهوج، مغرور، بسلطته، بقوته. دعونا لا نضحي حتى بالخاطئين منا، ليس فقط لأن الغفران والرحمة وافرة، بل ولأنهم منا، الجميع معرض لخطأ أو خطيئة، ومَن يعي الخطأ يحمل معرفة، يحتاجها جاهل.
التوتر سائد بعيدا، في العراق، فلسطين، لبنان، توتر في أشنع أشكاله، سياسيا، عسكريا، ثقافيا، رأسه في بغداد، أطرافه في أقطار عربية، وأبعد إلى الصين وروسيا. أشكال وأساليب المقاومة في العراق من صراع خفي ومعلن في المنطقة وغيرها. للمقاومة العراقية والفلسطينية واللبنانية اهداف ضائعة في وجدان دولها، بلصوصية هنا، بتبعية هناك، بفقدان ثقة. المقاومة تثبّط من دولها وهي جزء منها، تصبح إليها. والعكس صحيح. ماذا ننتظر من عراك أخوة؟ يجب فك الارتباط بين الثانوي والرئيسي، فرز قوى الضغط والامتصاص ثم جعلها مترافدة لمصلحة استقرار الكيان العربي ومكوناته، كيان موجود في قلوب الناس وعلى الخارطة والمطلوب منه وله حضور أقوى في عقول بعض قادته.
نعم، أزمّة اشتدي تنفرجي
الأزمة طالت واشتدت، لم يبق غير الانفراج بيد الأهل، ليتصالحوا مع أنفسهم قبل التصالح مع غيرهم، مَن تعاون أو تهاون مع الأجنبي ُسرّح بإرجاع ما سرق. مصالحة عميل سيده لا يعوَّل عليها مثل مصالحة وطنيين حقيقيين معارضين ومقاومين الخراب المستمر نتيجة غياب عملية سياسية تستوعب الجميع، لا مستفيدين فقط من بقاء الاجنبي على أرضه. هي مصالحة ممكنة التحقيق بوضع مسافة بين الاجنبي من جهة والمصلحة والأطراف الوطنية، تصبح المصالحة بمصافحة مشرفة بدل محاضنة مشبوهة. لمؤتمر القمة العربي الأخير فضل في عدم التدخل في الشأن العراقي. لم يلتزم جانب طرف، حكومة مشلولة، شرعية لو أجلت محتلا، ومقاومة مشتتة لها مستقبل لو برمجت مع غيرها. الوطنية جامع المختلفين. بها لا يفقد الديني ولا القومي ولا الشيوعي فكرَه، بل يعززه ويحميه. السلامة في تغليب المشترك على الجزئي. هذا مفهوم لاطفال فمتى يفهمه ويطبقه كبار. الوطنية تقتضي تعزيز مركزية الدولة وحرية المحافظات ضمن الكل في آن، بقوة العقيدة.
لا جدوى من ضرب هذا وذاك. الجدوى باعتراف الكل بخارطة فكرية واضحة للوطن. الوطن واحد وللمواطن نفس الحقوق والواجبات على أي شبر منه. معاداة أي طرف لأي طرف منه هدر لقوى الوطن. نزع سلاح المليشيات عام مع انسحاب الأجنبي.
قصة فيلم العراق واضحة، مُخرج أجنبي ينفذها أكشن، واحد يضرب الآخر، الجميع ضد الجميع، ذلك شرط الظهور في فيلمه، مشاهده يحب الحركة. مُخرج محلي تهزه دموع الأهل يريد التنفيذ واقعيا، وإلاّ ما صدقه جمهور. الأول لا تهمه نهاية سعيدة، المهم نجاح الفيلم. الثاني ملزم بنهاية سعيدة، فالجمهور غارق بأحزانه، وإلاّ لا منطق للحياة. الأول يقول نعم لا منطق، الثاني يقول تذكر منطق رب العالمين في الأقل. يتدافع المُخرجان. للأول شباك التذاكر مهم. للثاني رؤيا ورسالة. على أحدهِما التخلص من الآخر لتجهيز الفيلم. أديب من صومعة عالية يصيح: لنفسر القصة يا جماعة من زاوية الخلود، هي محايدة، هي الحَكم النزيه، وتذكروا، لا التجاري ولا الحزبي ولا الثأري يصنع ابداعا، مزاوجة أكثر من رؤية تصنع أعجوبة، فيلما ثري دايمنشن. يتلفت الجمع مستفهما. صاروخ عابر للنوايا متجه نحو الأديب. ضائعة صلعته في خراب صومعته.
وما زال السلام ممكنا، بانسحاب أمريكي مع تخبطه بين الطائفة والعشيرة في العراق، مقابل انسحاب مشروع دولة إسلامية مع تخبطه بين الطائفة والطائفة إلى ظل سيادة قانون مدني، خلصونا من تجريبيتكم وقوالبكم في آن وسلموا السلطة لمدنيين وطنيين، بتفاهم يُرضي الجميع، يجعل الشريعة اساس دستور يؤمّن الحريات العامة أيضا، جبهة مع خلق في ايران، جبهة مع البعث في العراق، قد يبدو كلامي هذا فنظازيا، فيلما ملونا وبالأسود والأبيض في آن. أليس هذا أعقل من حرب جديدة على الأفق والقديمة مازالت تعربد؟ في احتمالها تتحالف ايران الدينية مع المقاومة العراقية وغيرها، مع الجميع، لتدمير هائل صعب تصوره، هكذا يتحقق تماما تهديد بوش الأب بإرجاع العراق إلى الزمن القديم، ناسيا أن آلة الزمن قاسية على الجميع.
آلة الزمن عنوان وموضوعة فيلمنا الخالد، الذي يتعارك عليه المخرجان. بين يدي الكاهن رب الأرباب، في سومر أو بابل، صخرة كروية. يرى على تضاريسها ما يحدث في مملكته وحولها. هكذا أمسك في يده مصائر العباد. هو يعرف ما يحدث في كل بيت. أمّه بشر من شتى الاصقاع لتقديم فروض الطاعة والتقرب.
تفرعم، أحد ابنائه الصغار، اكتشف لعبة الكاهن أبيه. صخرته المقدسة مركز اجتماع مجموعة مخبرين، تبث عندها ضمن طقوس وثنيتهم ما يحدث في المملكة، رب الأرباب يسمع، يلهوون، يتقاسمون المعلوم، يتفرقون لاجتماع لاحق. الإبن تفرعم رفض الألعوبة وصارح أباه الإله فحذره: نحن الأغصان هم الجذور، كشفها يدمر المملكة وميراثك منها. الإبن في حيرة، تقصده ناس من الاصقاع شاكية مظالم، الوطنيات بلغة اليوم في صراع مع المركزية. للإبن رؤى، ممالك أحفاد أبيه الإله تُقلب في المستقبل عودةً إلى عالم الجد. آخرون يرفضون، تتكرر في هؤلاء قصة الإله الكاهن مع ابنه تفرعم. نتيجة شك وخوف يقتل الأب الإله إبنه تفرعم. يُبقي وضع المملكة سرا على خاصة، يستمر الأحفاد في صراع، والعباد في حياة سعيدة بتقديره.
وطنيات ومركز، تفاعلها واضح اليوم، ايجابا وسلبا، لما أرادوا إسقاط دكتاتور العراق قلت ذلك لصالح الوطن، ولما أرادوا ضرب الحزب الحاكم قلت هذا إضعاف للوطن وابتعدت، وحين صفوا الدولة من المؤسسات إلى المتاحف قلت هذا تدمير للوطن واعترضت. مشروع امبراطورية جديدة يتهاوى بأخطائها وبضربات مقاومة. أعود إلى بداية موضوعي، سقوط الامبراطوريات، أضيف يبدأ من اهمال مصلحة الأوطان، لا يبقى لتحقيقها غير تعويل على البناء في ظل عدة اقطاب، في الداخل والخارج، متحاورة، مراقبة بعضها بعضا، دون تنافر، عوض قطب واحد لا قدرة للطبيعة على إدامته وليس في صالح البشر قبوله. هكذا علمتني الرواية أن أفكر لسرد حكاية البشر الذين عرفتهم، هكذا فعلت.

نقلا عن quot;العرب الأسبوعيquot;